الورقة السابعة

1K 24 2
                                    



تسير السيارة في الطريق الطويل، تتخذ مسارًا غير معبد .. تهتز مرارًا حتى تتوقف أعلى منحدر عالي، منحدر صلب متساوي، يلتفت إلى والده :" هنا يبه؟ "
يتأمل المكان بعيني حنين، يفتح باب السيارة ليخرج .. يسير ببطء متحسسًا موضع قدميه، يخرج نجد من السيارة هو الآخر ليلحق بوالده، يمشي بجانبه .. تلمع عينا ياسر وهو يقول :" تعرف يُبه وش هالمكان؟ "
يبتسم نجد وهو يكتف يديه :" حدود الهضبة"
يهز رأسه إيجابًا :" ووش بعد؟ "
يعقد حاجبيه نجد :"طويق؟ "
يُمسك بكفه ياسر، يسير به .. يبتعدان عن السيارة، يتخطيان الصخور .. يُبعده عن النباتات الشوكية، حتى يقف بعد مدة بين صخرتين كبيرتين بارتفاع شاهق، يضرب ياسر الصخرة بكفه ليتطاير غبارها :" هنا يا نجد .. إذا ما خيبت الطبيعة والتطور توقعي"
يتحسس نجد الصخرة التي يشير إليها والده، يسمعه يتابع :" هنا قبل سبعة وعشرين سنة ونص ولدت"
تتسع عيناه بدهشة، تغوص كفه في الصخرة عله يتلمس الموضع الأول لبزوغه في الحياة :" يبه هنا ولدت أنا؟ - بعتاب - ليش ما أخذتني لهالمكان قبل؟ "
يبتسم ابتسامة لا تظهر إلا لنجد :" الإنسان كل ما كبر أكثر زاد حنينه للماضي، دخلت الخمسين والظاهر بدت تلعب لعبتها بقلبي ولا زمان ما كان يجي بخاطري أوديك هنا"
يجلس نجد، ليجلس والده معه تحت الصخرة.. تدور عينا نجد في الرمال وتشققات الجبل، المكان الذي ردد صدى صراخ أمه .. يكاد يسمع صوت طفل صغير يفجّر أول صرخاته بين هضبة نجد ليرتد صوته، يعود صوت والده :" هنا طحت من رحم أمك ليدي .. كانت أول يد تشيلك وأول حضن يحضنك هو صدري"
يسحب كف والده ليقبلها سريعًا، يتابع ياسر :" سبقت موعد جيتك بشهرين، وكأن الله يهيأ ولادتك مع ولادة أخوك يوسف.. كنت أضمك بأول نَفس وبأول صرخة لك، وكان يوسف تو ماله يومين بحضن أمه ما كنت أدري عن ولادته"
تذبل عينا نجد وهو يستشعر صوت الندم ينبع من والده، يعود ياسر :" كنت خايف من لحظة ولادتك، وكنت متشوق لها .. بس عرفت شكثر كان الشعور يستاهل كل لحظة شوق وأنا أضمك ... كانت أمك بالقرية ويوم جاء وقت ولادتك حاولنا ناخذها أنا وجدك لأقرب مستشفى، بس استعجلت انت وطلعت عالدنيا واحنا موقفين السيارة هنا لو لا لطف الله ثم الحرمة الكبيرة اللي وقفت بعايلتها بالطريق كان فقدتك انت وأمك..- يصمت وكأن تلك اللحظة برهبتها تعود إليه.. يبتسم ويشير إلى السماء- كانت الدنيا تبرق وترعد .. وجدك الله يرحمه خايف يجي السيل ويحجزنا ، كان موسم السيول .. قبل ولادتك بأربعة أيام جاء سيل كبير وحجزني ما أطلع من القرية .. "
يقاطعه نجد :" عشان كذا ما حضرت ولادة يوسف؟ "
يهز رأسه إيجابًا، يتابع :" يوسف ولد وحده بدون أبوه، وكبر وحده بدون أمه.. كبر فجأة وأنا غافي عنه - يزفر بشدة ليتابع بعد صمت- وانت للحين ما كبرت بعيني يا نجد، انت للحين أخاف عليك كل ما طلعت من البيت، أخاف إنك تقطع الشارع وحدك.. انت بتبقى ذاك الطفل الموصول بحبل برحم أمه "
يصغي إليه نجد بصمتٍ مطبق، صمت يخلف وراءه حب يكبر ويتضخم أكثر لأبيه، الأب الذي بات يراه ابنًا له، يشعر بأنه هو الأب .. يرغب وبشدة أن يأخذ هذا المقام من أبيه ليكون أباه؛ لأنه يدرك أن لا أعظم من الأب.. وتتوق نفسه ليصل إلى هذه الرتبة ليس مع طفل له، بل مع أبيه .. يتابع ياسر :" كان خالك ناصر يقول لي وانت طفل لا تدلله كثير .. الدلال الكثير يقلب في الكِبر، كانوا يقولون الابن المدلل هو اللي يوجع أبوه لا كبر .. بس أنا أشوفك فيني، أنام كل ليلة وأنا أدري ما برتكي إلا عليك.. ولو نفسي خذلتني نجد ما يخذلني"
يشد على كف والده، يوجعه قلبه لحديث والده الغريب .. بات والده يسبب له الوجع وكلامه يزداد ألمًا، لا يود أن يفكر .. أن يصطدم بأن هذا حديث الخمسين، حديث الكِبَر .. يدني رأسه على كتف والده، يُقبله :" أنا ..ويوسف، كلنا ظهر لك يبه، الله يديمك لنا ولا يوجعنا فيك"
تسقط قطره باردة على خده، يعقد حاجبيه ليصله تهليل أبيه .. يرفع رأسه لتشق الضحكة طريقها مختلطة بضحكة ياسر :" الله أكبر ... أمطرت يا نجد"
يتوقفان، تنساب الأمطار لتبلل وجهيهما، تمتلأ صدورهم برائحة الطين، أمطرت نجد .. ولا شيء يعادل شوق قلوب أهلها لقطرة مطر تبدد الجفاف، أمطرت وكأنها تُذعن لقلبيهما اللذين اتصلا وتشابكا لتسقي أوردتهم بماء السماء ..

حادي العيسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن