الورقة الخامسة

1.1K 28 1
                                    



تتعلّق عيناه بعينيها، يحاول تفسير سبب وقوفها أمام بابه .. يعقد حاجبيه باستياء شديد وهو يسمعها تناديه (جوزيف)، لكن طاقته أضعف من أن يناقشها في تحريف اسمه العربي إلى بديله الانجليزي، يختصر الطريق ليدفع الباب ويهم بإغلاقه، إلا أنّ قدمها سبقته لتكون حاجزًا عن إغلاقه للباب :" أرجوك "
اشمئزاز كبير يداهمه، تتسلل عينه أخيرًا لها.. يرغب بدفعها وصفع الباب خلفها، عيناها تنظر إليه برجاء، تتابع :" لا تستلم، أعلم أنها نوبة من نوباتك.. لا تستلم لها، هيا يمكنك فقط أن تخطو خطوة واحدة للأمام لتحاربها"
يتوه، وكأنه رُمي في صحراء لا نجوم تلحفها .. وكأنها دليل يشك في صدقه، يتمسك به كي ينتشله من ضياعه، يعود صوتها مشجعًا وهي تُمسك الباب كي لا يغلقه :" ما يحول بينك وبين تخطي ضعفك هو هذا الباب، إن تجاوزته ستنتصـ..."
تبتر كلمتها وتتحرك بتلقائية للخلف على فتحه القوي للباب وبأقل من لحظة يتخطى الباب ويغلقه سريعًا خلفه وتنفسه يضطرب وكأنه قام بمجهود كبير، تمر لحظة صمت بينهم وهو يستند على باب شقته مغمضًا عينيه، تستوعب ما حصل لتبتسم ابتسامتها المعهودة :" وااااااو! أنت رائع"
يفتح عينيه ليجدها تقف أمامه، يعقد حاجبيه ليميل برأسه للخلف يتأمل الباب المغلق.. يشعر بسواده يتربص به من خلف الباب، يلومه بسبب ما فعل، على تركه ومحاربته له .. يشعر بأن روحه أصبحت أخف، وكأنها تركت جزءًا منها في شقته المظلمة، يغمض عينيه ولا يزال يتكئ على الباب يراجع نفسه .. يعود ذاك الصوت مجددًا :" لا .. لا تفكر كثيرًا- يفتح عينيه ليجدها تبتسم الابتسامة التي يكرهها كثيرًا، تُشعره بأنها حرة وبكم القيود التي تلف رقبته هو- اممممم يمكننا النزول الآن؟ "
يتنهد تنهيدة كبيرة، ما فعله تعد خطوة كبيرة لم يعتقد أنه قادرًا عليها.. يُدرك أن نزوله للأسفل سيولد فيه شعورًا غريبًا، لكنه بحاجة هذه الغرابة .. يعتدل بوقفته، يخطو للأمام لتتبعه بانتصار .. تسير برفقته والصمت سيد الموقف، حتى يتخطيان بوابة المجمع..
تضمّ يديها بقشعريرة إثر البرودة التي داهمت جسدها، تتسلل عيناها إليه لتداهمها برودة أشد وهي ترى سترته الرمادية الخفيفة.
يتوقفان أمام إشارة المرور لينتظرا عبور السيارات، بينما هو شارد مطأطئ رأسه وكأنه يحسب الخطوات التي تفصله عن شقته وعزلته.. يأتيه صوتها ليجبره على رفع رأسه قليلًا :" اممممم لأكن صريحة، لم أتوقع إطلاقًا أن تكون بهذه القوة والشجاعة! "
لا يعلق، يكتفي بالنظر إليها لتتابع :" من خلال تجاربي الكثيرة .. أظن أن عزيمتك قوية وإيمانك أقوى"
ينطق أخيرًا مستعيدًا صوته الذي بدأت تنساه :" منذ متى وأنتِ في المركز؟ "
يبتسم قلبها ويرفرف لسماعها صوته، وأخيرًا استطاعت فعلها! تتمالك نفسها لتظهر ابتسامتها ذاتها :" منذ كنت في الثانوية،امممم تقريبًا منذ ثلاثة أعوام "
تتوقف السيارات، ليضيء لون المشاة بالأخضر.. يتحركان وهي تتابع :" لم أكتسب خبرتي من المركز أكثر من اكتسابي لها بسبب شخص ما يهمني أمره منذ سنين طويلة"
لا يُعلق، هو أبعد شخص عن الفضول .. يعقد حاجبه فجأة وهو يشعر بها تتقدم لتفتح باب أحد المقاهي :" إلى أين؟ "
تُمسك الباب لئلا يُغلق، تتسلل ضحكة لها :" أخبرتك مسبقًا أننا ذاهبان لشرب القهوة! "
يتوقف في مكانه عاقدًا حاجبيه، خرج من شقته هربًا من عزلته ووجد نفسه فجأة برفقتها .. لا يتذكر موضوع القهوة هذا، لم يسبق له بأن تناول كوب قهوة مع فتاة ما .. جميع النساء اللاتي يعرفهن ينحصرن في أمه نورة وخالته يمامة، لا يعرف كيفية التصرف في مواقف كهذه.. يصل صوتها :" هل عقدة حاجبك ستطول كثيرًا أو أنتظرك ؟"
يتدارك نفسه ليخفف من حدة ملامحه، يتقدم إليها ليدخل المقهى الدافئ، تُغلق الباب خلفها لتفرك كفيها بسرعة :" أوه يا إلهي، البرد كاد يجمدني"
يتقدمها ليجلس على طاولة جانبية بجانب النافذة التي تعكس أضواء الشارع .. تلحق به لتجلس أمامه :" كنت أتساءل طوال الطريق كيف لا تشعر ببرد كهذا وسترتك خفيفة! - تصمت قليلًا قبل أن تتابع - هذا بالإضافة إلى أنك قادمٌ من بلاد حارة! "
يلتفت إليها بعد ما كانت أنظاره تضيع في النافذة، يرفع ذراعه ليثبتها على الطاولة مسندًا رأسه بكفه وبنبرة جامدة :" كيف عرفتِ أن بلادي حارة؟ "
تزم شفتيها قبل أن تجيب :" اممم في الواقع ملامحك تشي بأنك عربي، ليس شيئًا صعبًا "
ينطق بسرعة بنظرة ذات مغزى :" صحيح .. نفس ملامحك تمامًا! "
لم يلحظ التوتر الذي بدا عليها بسبب عودة عينيه إلى النافذة، وكأنه لا يهتم بما تقوله أو بما قاله .. يعود ليلتفت عليها بذات البرود :" هيه .. بالمناسبة لا أهتم، أعلم أن في بلاد الغربة غالبًا يهرب العرب من بعضهم البعض، ولا أعلم السبب حتى الآن .. لكن اطمئني لا يهمني ذلك إطلاقًا "
ترف عينها بتردد، ما يقوله صحيح تمامًا .. وهي أعلم الناس بهذا الأمر، يقاطعهما وصول النادل.. لتنطق سريعًا :" أنا سأختار لك .."
لا تترك له مجالًا لأن يعلق لتطلب سريعًا، يبتعد النادل ليعقد حاجبيه :" قهوة فستق؟ "
تهز رأسها :" صدقني، لن تندم "
يعود بأنظاره للنافذة :" لا .. أظن بأنني سأندم، أنا تقليدي جدًا "
يعم الصمت قليلًا، تقف فجأة وتتجه لإحدى اللوحات المعلقة .. :" جوزيف! "
يعود بأنظاره من النافذة إليها، يزم شفته بضيق أكبر واسمه بات يكرهه بسببها .. تلتفت إليه وهي تشير للوحة :" يا للصدفة! .. لم تكن هذه اللوحة موجودة قبل يومين! "
يتأمل اللوحة التي تشير إليها ولا يجد رابطًا بينها وبين كلامها، هي مجرد لوحة زيتية غريبة تذكره بأخيه ثامر .. يعود صوتها أقرب للهمس :" هلّا أتيت؟ "
يزفر بقوة ليقف ويتجه إليها، يعقد حاجبيه ناقلًا بصره بينها وبين اللوحة.. لتتابع :" لوحة فان جوخ الشهيرة، هل تعرف ما تعني؟ "
يعود ليتأمل اللوحة مجددًا، يغوص فيها وفي تفاصيلها .. لونها الأزرق وحركتها الدائرية، وكأنها تحكي دوامته.. بهز رأسه نفيًا :" لا، فقط أشعر بأنها تلمس شيئًا في"
تبتسم :" لأنها تصور قصة جوزيف والأحد عشر كوكبًا - تشير إلى الكوكيبات المنتشرة في اللوحة- إخوة جوزيف، والشمس والقمر"
تشده اللوحة بعد كلامها، يزيد من تأمله لها .. ليأتي صوتها مجددًا ضاحكًا :" هذا ما أخبرني أبي به، لا أعلم إن كان حقًا أم مجرد تخيلات تدور في رأسه"
تعود إلى الطاولة والنادل يضع كوبيهما على الطاولة، تلتفت للخلف إلى حيث يقف :" هيه جوزيف! القهوة "
كان لا يزال يقف في مكانه مشدودًا إلى اللوحة، يلتفت أخيرًا ليعود إليها .. يجلس على الكرسي ليحتضن كوب قهوته الدافئ، للتو شعر بالبرودة التي تغلف المكان .. تأمل كوبه للحظات قبل أن ينطق :" والدك مهتم بالفن؟ "
ترتشف قهوتها لتهز كتفيها :" لا .. ليس كثيرًا، إنما هذه اللوحة شدته في يومٍ ما وأخبرني بذلك"
يهز رأسه بهدوء :" أخي رسام .. لكن لا أظنه يعرف من هذا فان جوخ! أو غيره من فناني اللوحات، يرسم فقط ولا يُلقي بالًا لشيء"
يبتسم قلبها وهي تشعر به يجاريها ويخرج من صمته.. يلين صوتها :" أظنه يهتم لأمرك كثيرًا .. كن قويًا لأجله"
يرفع رأسه عاقدًا حاجبيه لتتابع :" في الحقيقة هو من اتصل بالمركز وكان قلقًا عليك.. زودنا بعنوان شقتك فقط للاطمئنان عليك"
تتسع عيناه بداية الأمر، لكن سرعان ما انطلقت منه ضحكة خفيفة هازئة :" أووه ليس هو، هذا أخي الآخر.. الرسام لا يمكن أن يصدر منه فعل كهذا"
تزم شفتها مدركة الأمر، ليتابع بذات الضحكة :" وأنتِ حضرتِ بأمرٍ من المركز كي لا يفقد المكتئب صوابه ويقتل نفسه؟ "
تهز رأسها نفيًا :" لا ليس الأمر بهذه الصورة، صحيح أن المركز كان ينوي تكليف شخص ما.. لكني أحببت أن أقوم أنا بهذا .. أعرف كيف للغربة أن تنهش روحك - تُنزل رأسها لتعبث بمنديل الطعام- أنت لا تدرك كم يُسعدني فعل هذا"
يزفر بقوة ولا يُعلق.. يشرب قهوته الحارة سريعًا ليقف :" شكرًا لكِ"
تقف معه بسرعة :" إلى أين؟ "
يلتفت إليها :" أتممتِ المهمة على أكمل وجه، صدقيني "
يتخطاها ليتجه إلى الباب، يفتحه لتداهمه برودة شديدة جعلته ينكمش على نفسه، يأتيه صوتها من خلفه :" الثلج يتساقط، انتظر قليلًا "
يلتفت نحوها :" بالمناسبة.. كنت فاقدًا الإحساس بالبرودة، أما الآن فأنا أشعر بها تمامًا .. عادة عندما يتملكني الاكتئاب أفقد الإحساس بأي شيء، أدرك أني تجاوزته عندما يعود لي الإحساس بالبرودة أو الحرارة"
يولّيها ظهره ليمشي بخطوات سريعة ..






حادي العيسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن