الورقة الثالثة

1.3K 28 4
                                    


(2007)

يقفان معًا محلّقين حول والدهم، يقضم أظافره بقلق :" يارب يارب يارب"
والآخر رغم هدوءه الظاهري إلا أن قلبه يفضحه :" أول أنا"
يضحك ياسر وكمبيوتره المحمول فوقه وهو يسمع صوت نجد معترضًا :" لاااا تكفى، أنا أول"
يصلهم صوت من خلفهم ضاحكًا :" هذا لاب توبي خذوه وافتحوه بنفس الوقت"
يلف عليه نجد بضيق :" خالي! .. أدري إني مو فالح، أخاف ما أنقبل وتخف صدمة أبوي وهو يشوف اسم يوسف"
يتجهم وجهه :" الله لا يقوله"
يبتلع ريقه يوسف ليلتفت إلى أخيه :" خلاص هو أول "
يزيد توترهما ووالدهما يعبث بالأزرار.. يُغمض عينيه ويوليهما ظهره :" ما بشوف، كاني ما انقبلت قولوا بلحة، وإن طلع اسمي ...."
يقاطعه يوسف وعينه تغوص بالشاشة :" نقول سُكري.. خلاص اهجد فتحت الصفحة"
يقف ناصر بحماس ليدخل بين يوسف وأبيه، وسرعان ما نطق يوسف بصرخة :" سسسسكري "
صرخ نجد غير مستوعب :" مستحييييل! "
يلتفت ليُمسك بالشاشة و اسمه يظهر بين المرشحين لقبول الجامعة، يصرخ وهو يتجه للقبلة :" ياااااربي لك الحمد"
يسجد وهو يشكر الله ليقف مسرعًا ويضم أخاه الضاحك، يلتفت لتواجهه عيون خاله المستهجنة :" شفيك والله مو مصدق!"
يزم شفتيه ناصر :" يعني .. تخصص إنساني، لو شديت حيلك انقبلت بالتخصصات العلمية، تدخل هندسة ولا شي ثاني يفيدك"
ينطق يوسف مبررًا :" يا خال هو ماله بالهندسة"
يلتفت نجد لأبيه، يجلس متوكئًا على ركبه ليضع يديه على فخذ والده :" يبه والله أنا أبي هالمسار، ما كنت تقولي ادخل اللي تحبه؟"
ترتسم ابتسامة على شفتيه :" ايه يابوي، لا تشيل هم .. شد حيلك بالسنة الأولى وتتخصص اللي بخاطرك"
يبعده يوسف لينطق سريعًا :" يلله دوري"
يعود التوتر للجميع مثبتين أنظارهم على الشاشة، وماهي إلا لحظات حتى تعالت أصواتهم بفرحة، تزيد ابتسامة يوسف بثقة :" يالله الحمدلله .. "
يضمه والده بخفة ليقبل رأسه، ونجد مازال مصدومًا ممسكًا بالشاشة :" مسار صحي؟"
يشعر بكف خاله التي استقرت على ظهره :" قل ماشاء الله لا تنظل أخوك "
يترك الجهاز :" ماشاء الله ماشاء الله"
يلتفت لأخيه ليبادر باحتضانه :" يلله من الحين نقول دكتور يوسف"
يعقد حاجبيه :" ما أدري والله "
يترك ياسر جهازه :" يبوي ادخلوا اللي تحبونه وتشوفون نفسكم فيه لا تسمعون كلام الناس"
يقف يوسف وكأنه تذكر :" بروح أبشر أمي"
يتحرك سريعًا وشعور بالضياع ينتابه، لا يملك أي شغف .. لا يحب أي شيء، لا يجد نفسه بتخصص ما، على عكس أخويه، ثامر وإن كان مهملًا فشغفه لا يحتّم عليه الدراسة .. ممارسة الرسم على كل ما تقع عليه عيناه، غرفتهم الصغيرة .. شوارع حيهم التي تشهد ببصمته في كل مكان، ونجد الذي ينسى نفسه بين حروف اللغة، تمامًا كوالده .. وكأنه ورِث هذا الشغف منه، أما هو لا شيء .. خالٍ تمامًا، مثل فرحته هذه.
يقفز بخوف وهو يشعر باليد التي حطت على كتفه والصوت المرح:" بروح معك"
يمشي مع أخيه نجد حتى يصلان للبيت الآخر، سرعان ما انتشرت بهجة نورة لقبول ابنها، تضمه بفرح كبير :" يا بعد روحي الله يبشرني وأشوفك أكبر دكتور بالسعودية"
يبتسم بصدق وهو يقبل رأسها :" ونجد جاي معي يبي يبشرك"
تحكم لف حجابها لتفتح الباب الداخلي وها هو نجد يقف متكئًا على الجدار وابتسامة خفيفة تزينه.. تقترب منه :" وانت بشرني، إن شاء الله انقبلت؟"
يضحك بخفة :" ايه مسار إنساني، بالنسبة لولدك يمه نورة ولا شي "
يضربه يوسف على كتفه :" لا إله إلا الله"
يضحكون ليصلهم صوت من خلفهم :" الله وش هالضحك اللي من زمان ما سمعته! "
يتلون وجه نجد، يُنزل رأسه .. يلتفت يوسف للخلف لينطق سريعًا :" يمام، نجد موجود"
تعود أدراجها سريعًا، لتلحقها نورة وهي تبشرها بنتائجهم، يصل إلى مسمامعهم صوت ضحكتها المستبشرة، ينطق نجد بهمس :" يوسف لا تنسى وعدك "
يعقد حاجبيه :" أي وعد"
يزفر نجد ويرفع رأسه بقلة صبر لينزله سريعًا :" ايييييه بس، ما كنت تقول بتعشي أمك بمطعم محترم لا انقبلت بالصحي؟ "
يضرب جبينه :" اي والله .. - يزم شفتيه- بس يمام بترفض تطلع وثامر مو موجود، ما بتطلع أمي وتتركها وحدها"
يضربه على كتفه :" أقول بس لا تتهرب، يمام كبيرة الحين وانتو لا تطولون"
يقلب الفكرة برأسه، ليعود صوت نجد مشجعًا :" وأنا بجلس هنا، لو احتاجت شي بتلقاني بالمجلس"
يمرر كفه على شعره، يهز رأسه إيجابًا ببطء .. ليدخل إلى الداخل، ينتظر نجد في الباحة .. يصفر بملل، ليخرج أخيرًا يوسف بابتسامة واسعة :" وافقت"
تدق طبول قلبه، ليتمالك ملامحه السعيدة.. :" زين، لو أبوي رفض يعطيك سيارته خذ سيارة خالي"
يوسف بحماس :" مابيرفض، كلها شهرين وتطلع الرخصة"
يخرج مسرعًا لينطلق إلى منزل أبيه ويستغرق وقتًا وهو يرجوه بأن يسمح له بالقيادة، يتدخل ناصر ليشجع ياسر على الموافقة .. حتى يرضخ أخيرًا ويوافق.
يجلس نجد على عتبات الدرج الداخلي والهدوء يعم المكان بعد مغادرتهما، يغريه قلبه للدخول.. لن يفعل شيء سوى السلام عليها ويروي ضمأ عينيه، لا يراها إلا بصحبة ثامر أو يوسف، لا يستطيع أن يطيل النظر في عينيها بوجودهم .. يتمنى لو تتسلل يده لتمسك بيدها، لو تقترب حتى تتشابك أهدابها بأهدابه، أو يشعر بملمس .....
" نجد؟ "
يقفز بخوف على الصوت الرقيق الذي قاطع خيالاته المراهقة، تصله ضحكة ناعمة زادت من ارتجاف قلبه، يلتفت ليجد خياله ماثلًا أمامه، فاتنته الصغيرة تجلس كما عرفها على كرسيها، غير أنها ازدادت جمالًا وفتنة .. كم يغبط ذلك الكرسي الذي يلازمها في كل لحظات حياتها، يحملها مذ كانت طفلة وتتشبث بمعصمه.. تنفرج شفاته بتوتر، ليُخرج بربكة ميداليته ويلعب بها وهو مشتتًا أنظاره :" فجعتيني"
تعود الضحكة الرقيقة مجددًا، لتتقدم بكرسيها حتى حافة المدخل :" جيت أبارك لك، مبروك"
يبتسم على مضض ولا يزال واقفًا أمامها يضرب بتوتر كفه بالميدالية :" الله يبارك فيك، عقبالك"
تزفر بضيق :" اوووه أنا بس أخلص من هالثانوي برتاح"
تضيع الكلمات من فمه، لا يعلم ماذا يقول، لحظة صمت طويلة تمر .. لتقاطعها :" اجلس ليش واقف"
وكأنه لم يصدق طلبها، عاد سريعًا إلى عتبات الدرج ليجلس بجانبها.. شعر بكفها الصغيرة تمر من فوق كتفه، تتسلل حتى تقترب من كفه .. يجمد مع حركتها، تسحب الميدالية التي يعبث بها لتقرّبها من وجهها :" يالله للحين محتفظ بها؟ "
يرفع رأسه ليرى من أسفل وجهها وهي تتأمل الميدالية وتعبث بها، حجاب رقيق يغطي شعرها .. تتمرد خصلة من جانبها لتخرج كاشفة عن سواده، يرفع كفه على حين غرة منها.. ليلامس الخصلة الناعمة ويدسها سريعًا خلف حجابها، تتوتر وكأن وخزة أصابتها من لمسته، يبتسم أخيرًا وهو يلحظ أثرها عليه.. نعم هو ليس كيوسف أو ثامر، وأخيرًا شعر بهذا .. يُدخل كفيه بجيبي ثوبه :" اممممم، مدري ليه محتفظ بها.. يمكن لأنها الهدية الوحيدة منك - يرفع رأسه يمثل المزح ليبدد إحراجها - يا بخيلة"
تضحك ولا زالت تعبث بالميدالية :" تدري بي أكره الخياطة، سويت هالميدالية مجبورة عشان الدرجات وفوق هذا ما أخذت ولا درجة"
يمد كفه لها طالبًا ميداليته :" كنتِ بترمينها، احمدي ربك أخذتها وقدّرت تعبك"
تبعدها عن كفه برفض :" خلاص رحمتك، بتطوع وبسوي لك وحدة جديدة.. هذي خلاص تلفت"
تتسع ابتسامته :" تسوين فيني خير"
تتلاشى ابتسامته وهو يراها تتراجع للخلف، ينطق سريعًا :" وين؟ "
تعقد حاجبيها :" بجيب الأغراض، تحمست أسويها الحين"
ترحل عنه مبتعدة، ليزفر بضيق .. تغيب لدقائق وها هو صوت عجلاتها يعود و في حضنها حقيبة قماشية، تعود بقربه .. :" امسك الكيس"
يُمسك بالكيس القماشي، تنثر عدة أشياء :" تبي أي شكل؟ "
يهز كتفيه رافعًا حاجبه وهو يتكئ على الجدار:" عادي .. وش تحبين أنتِ؟ "
تزم شفتيها :" اممممم، خلاص راحت عليك فرصة الاختيار- تبدأ عملها باندماج- بسوي لك نخلة! "
يضحك ضحكة قصيرة :" نخلة؟ يالله خلصت الأشياء عشان تسوين نخلة؟ "
تهز كتفيها بلا مبالاة :" فاتك الاختيار .. والصدق والله ما أعرف أسوي شي إلا نخلة! "
يتأمل اندماجها وأصابعها تعبث بالقماش.. تتحكم بالإبرة بمهارة، يغوص في تفاصيلها الصغيرة
أما هي، قلبها يحدثها بأن تنطق، في ظل هذا الهدوء ولحظة السكينة كل مافيها يودّ إخراج السر الصغير من قلبها .. نجد رفيقها القديم، نظرة منه كفيلة بأن تجعلها تسكب كل مافيها.. تزم شفتيها بتردد :" نجد .."
يصلها صوته مرتخيًا :" هممم "
تعض شفتها ورغبة الحديث تتراجع :" ولا شي"
يرفع رأسه سريعًا :" وش في يمام؟ "
تهز رأسها نفيًا :" لا خلاص ولا شي، كنت بشوف انت معي ولا نمت"
يلتفت عليها ليُمسك بذراع الكرسي :" يمام، قولي .."
تدرك أنه لن يتركها حتى تتكلم، تمامًا كما كانا صغيرين.. تزفر بشدة :" ثامر .."
يعقد حاجبيه بقلق كبير :" شفيه ثامر؟ "
تلتقي عيناها بعينيه، التردد يغطيها أكثر .. يشجعها بعينيه، تهز رأسها سريعًا :" اوووف خلاص ولا شي"
يقف سريعًا ليُمسك بذقنها ويثبّته :" يمام قولي لي وش صاير؟ "
تترك قطعة القماش من يدها، تُمسك بكفه التي تحتضن ذقنها.. كان يظنها ستبعدها عن وجهها، لكنها شدتها إليها أكثر قرب قلبها :" بس أمانة ما تعلم أحد! "
يهز رأسه مطمئنًا :" سرك في بير .. بس قولي لا تقلقيني أكثر"
تزفر وهي تُبعد كفيهما عن قلبها إلى حضنها :" قبل يومين .. بالليل، ويوسف نايم عندكم، صحيت ورحت أشرب مويا.. سمعت صوت الباب، نورة كانت نايمة بالغرفة .. فتحت شباك الصالة شفته .... "
تصمت، وكأنها غير قادرة على الكلام .. تزيده خوفًا، ليشد كفها :" ايوه يمام "
تتنهد بقوة وتتحرر من كفه لتغطي وجهها :" شفته يدخل البيت ومعه بنت"
تفجرها في وجهه، لتأخذه الصدمة .. وتشله عن الكلام، تتابع ببسرعة :" دخل ودخلها معه، وكان خايف .. دخّلها المستودع ودخل وراها"
يشعر وكأنه تلقى ضربة على رأسه، هل يصل سوء ثامر إلى هذه الدرجة؟ أينسى كل شيء وكل مبادئه؟ يعلم أن ثامر دائمًا ما يجلب المصائب، ولكن هل يصل لهذه الدناءة؟ وأين؟ في منزل أمه؟ يتغافل عن ربه وعن احترام حرمة البيت ليجلب فتاة إلى وسط منزلهم؟
يقف مذهولًا لا يسعفه لسانه على نطق شيء، يصله صوتها متوترًا :" أمانة نجد ما تعلم أحد، يوم شفته خفت .. - تعقد حاجبيها بحيرة - بس يعني ثامر سوى شيء مو زين صح؟ ، المشرفة بالمدرسة دايمًا تقول لنا قصص .... - تزم شفتها وكأنها تنكر أن يكون ابن أختها ومن تعده أخًا كبيرًا على هيئة الذئاب البشرية التي تسمع تحذير معلماتها منهم.. تهز رأسها نفيًا بعدم تصديق- لا ثامر مو كذا "
يعقد حاجبيه بضيق وألم برأسه ينذر عن قدومه، يجلس بجانبها متكئًا على كفيه، يحاول استيعاب الأمر.. يعود صوتها مسببًا له توترًا أكبر :" من شفته يدخل معها وأنا مو قادرة أشوف وجهه، مابي أصدق .. نجد قول إن اللي فهمته خطا"
يتنهد بقوة، يهمس :" يمام اللي شفتيه لا يطلع عند أحد، خاصة أمي نورة .. لا تدري"
تهز رأسها إيجابًا :" وانت مثل ما وعدتني لا تعلم أحد .. "
تمر دقائق ثقيلة بينهم، ما نفثته في وجهه سلب منه المتعة التي كان يرجوها بقربها، أما هي تنتابها الراحة والسر الذي أتعبها تخففت منه ..
يمضي وقت طويل ولا شيء يقطع صمتهم، يوسف لم يفي بوعده ويعود بأمه سريعًا .. تمضي ساعة تتلوها ساعة، تعود أدراجها إلى داخل المنزل، ليبقى وحيدًا على عتبات الدرج.. يرفع هاتفه ليتصل بأخيه، لا رد سوى صوت تقطّع الرنين، يزفر بضيق .. لا بد أن خاله غادر، لا يرغب بأن يطيل ابتعاده عن أبيه، لا طاقة له بأن يرى انتكاسة أبيه .. منذ ثلاث سنين، ومنذ تلك الليلة، وذاك الضيف الغريب، أصبح ارتفاع الضغط من صفات دم والده، كل شهر تنتابه أزمه تؤلم قلب نجد أكثر .. لم يكن يتصور أن يكبر أبوه هكذا فجأة، كان شامخًا وشابًا قويًا، وبدون مقدمات شاخ.. أصبح يبدو أكبر من عمره بكثير، مرضه انتزع منه شباب الثلاثين وقوة الأربعين ..
" نجد روح لأبوك، عادي أنا بنتظر هنا"
يلتفت على صوتها، يعقد حاجبيه بتردد :" لا ما بتركك هنا، أمي نورة ما طلعت إلا وهي متأكدة إني معك"
تتنهد بضيق كبير :" طيب قول لعمي ياسر يجي هنا"
يهز رأسه إيجابًا :" بروح أجيبه، ما بطول"
يخرج مهرولًا كي لا يتأخر عنها، يدخل بيتهم ولا أثر لسيارة خاله، يتجه إلى المجلس الذي ترك والده فيه ولا يجده.. إلى الصالة، ولا أثر .. ينتابه قلق من السكون الذي يغطي المنزل، يفتح باب غرفة أبيه لينادي بصوت عالٍ :" يبـــه؟ "
لا رد، ولا أثر .. يتمالك نفسه ليسحب هاتفه ويتصل برقم أبيه، صوتٌ خلفه ينبئ عن وجود الهاتف في المنزل، يعض شفتيه بتوتر ليست من عادة أبيه أن ينسى هاتفه، يعاود الاتصال برقم خاله .. يرنّ ويرن، ومع كل رنين يزيد خوفه، حتى وصله أخيرًا رد من الجهة الأخرى :" هلا نجد"
يبعد الكوابيس من رأسه على صوت خاله الثقيل والضوضاء تحيط به :" خالي .. وينكم؟ أبوي معك؟ "
يتنهد مجبرًا :" ايه معي .."
قلبه يخبره بأن هناك ما يخافه، يتأهب لسماع الأخبار السيئة :" أبوي .. بخير؟ "
الضوضاء التي كانت تحيط خاله تخف، ويبدو أنه غادر مكانه :" ايه نجد، أبوك بخير .. خلك عند يمامة، شوي وأكلمك"
يصرخ مقاطعًا وكأنه يخشى أن يغلق خاله الخط :" وش صاير؟ أبوي وش فيه؟ "
يصمت، صمتًا طويل.. ثقيل على قلب نجد، لينطق أخيرًا بهمس :" أبوك بخير نجد .. بس يوسف..."
شعر بأن قلبه انتزع منه، كان يقوّي قلبه ويعدّه لسماع خبر عن والده، ليُفاجأ باسم بوسف.. :" يوسف وش فيه؟ "
-" بخير بخير .. حادث بسيط بس كلهم بخير، لا تشيل هم خلك عند يمامـ...."
يقاطعه بلا وعي منه :" انت تعال عند يمامة، هذا أخوي وأمي نورة .. بروح أشوفهم"
يصله صوت خاله مهددًا :" نجد ابقى عند يمامة، أخوك وأمه بخير.. بس إجراءات سريعة، ولا تقول ليمامة شي، وإذا قدرت كلم ثامر وقوله يتصل علي، كلها كم ساعة ويطلعون ونجيكم"
يقطع خاله الخط، يُمسك رأسه بألم .. وبداخله يواسي قلبه " هم بخير .. خالي يقول بخير، مافيهم شي.. بس حادث بسيط"
يزفر ليُعد نفسه للعودة إلى يمامة، يمشي بخطى ثقيلة وقبل أن يفتح باب منزلهم .. يتوقف ليتصل بالرقم الذي لا يرد عادة، لماذا يحمل ثامر جوال إن كان لا يرد؟ يعاود الاتصال أكثر من مرة حتى قُطع الخط ويبدو أنه أغلق جواله .. يضرب بكفه الجدار :" الله يلعنك يا ثامر ويلعن سواياك .. وياخذك كان مامنك فايدة"
يشعر بنار تغلي في جوفه، يجلس أمام باب المنزل ليهدأ قليلًا .. يرسل رسالة سريعة علّه يقرأها (ثامر، كلم خالي ناصر .. أمك في المستشفى)، يعود ليرسل رسالة أخرى لرقم خاله ( بأي مستشفى؟)
لا يتلقى أي رد منهما، يستغفر ربه إثر الدعوة التي رمى ثامر بها .. ثامر وبالرغم من كل شيء هو ابن عمه، أخ أكبر وإن كان يحمل كل السوء في حياته، لن يتحمل سماع أي شر يلحق به.
يستعيد نفسه قليلًا، يحاول تمالك ملامحه .. ليدخل إلى المنزل، لا يجد لها أثرًا في الباحة، يفتح الباب الداخلي بلا وعي ليتلقى السكون يغطي المكان .. يرغب بشرب ماء بارد علّه يهدئ نفسه، يهمس :" يما..."
وقبل أن يتم نداءه يراها على كرسيها تنام بكل طمأنينة محتضنة وسادة، وعلى فخذيها قطعة القماش والخيوط .. يزفر بضيق ليتجه لها، يجلس بجوارها .. لا يشعر بنفسه وهو يسند رأسه على ساقها، يغمض عينينه..
لا يعلم هل نام أم أخذته غفوة أو أغلق عينيه فقط ليهرب من قلقه، كل ما يعلمه أن صوتًا مألوفًا أمسك كتفه ليناديه "نجد، نجد"
يستوعب وجوده في المكان الخطأ.. وجه خاله يبدو خطأ أكبر، يفز عندما استوعب أنه يتكئ على قدميها.. كانت عيناها جاحظة، مليئة بالأسئلة.. ينتقل جحوظها إليه وهو يشعر بخاله يمسك كفه :" تعال يا نجد"
ناصر؟ ماذا يفعل هنا؟ وكيف دخل؟ لحظات حتى استفاق وهو يتذكر ما حصل قبل نومه، يفز سريعًا ليترك القلقة خلفه تصارع خوفها، يشده ناصر للخارج، يغلق الباب الداخلي.. ينطق بسرعة ووجل :" شلونهم؟ "
عينا ناصر الذابلة أخبرته بكل شيء، يطرد الحقيقة التي ترتسم على ملامح خاله ليعيدها إليه بقوة وهو يشد على كتفيه ويهمس :" نجد .. هذا دورك الحين، خلك قوي "
يغمض عينيه مستسلمًا لسماع الصاعقة، يهزّه ناصر بقوة :" مابيك تضعف، يمامة تحتاجك داخل.. "
يبتلع ريقه ولا طاقة له بتحمل ما هو أشد، يهمس بجفاف :" وش صار خالي؟ "
تلين ملامح ناصر، يغطيه الحزن.. يبتلع غصة داهمته ليفجرها بوجهه :" خالتك نورة تطلبك الحِل"
يتسارع نفسه، طنين حاد يخترق أذنه .. يغمض عينيه بشدة، يشعر بخاله يشده إليه ليحتضنه ويطبطب على ظهره :" الله يرحمها، قوّي نفسك .. كلهم يحتاجونك الحين"
فجأة يُبعد خاله عنه بقوة وتنفسه يزيد :" يوسف؟ "
يهز رأسه سريعًا :" بخير بخير "
تتوه عيناه بعيني خاله بشك كبير، ليوليه ظهره مسرعًا :" بشوفه"
يهز رأسه نفيًا ويسحبه إليه بسرعة :" والله بخير، بس كسر بسيط... نجد مكانك اليوم هنا، أبوك بيجلس شوي مع يوسف وبيرتب أمور الدفن ..وبأي وقت بيجون المعزين، لازم تخبر يمامة .. وثامر - يعقد حاجبيه وكأنه تذكر - ثامر وينه؟ ما كلمته ولا شفته؟"
ما كل هذا الهراء الذي يلقيه عليه خاله؟ عزاء؟ دفن؟ أمه نورة؟ .. يجلس بتعب على عتبات الدرج ليحاول استيعاب كل شيء.. يعود صوت ناصر قلقًا :" ثامر يا نجد؟ وينه؟ "
يعود لخاله، يهز رأسه نفيًا :" مقفل جواله "
يضرب جبهته بضيق شديد ويزفر بقوة :" ياللله! .. لازم نلقاه بسرعة، نحتاج توقيعه وهويته"
يذرع الممر ذهابًا وإيابًا يفكر بحلٍ سريع، لينطق بسرعة :" طيب أصحابه؟ عطني رقم لهم ولا عنوان وأنا بدور له"
يهز رأسه نفيًا والبرودة تجتاحه :" ما أعرف أصحابه .. دايمًا مع أستاذ خالد"
وكأنه تذكر وجود خالد، يهز رأسه إيجابًا :" بروح بيت خالد، نجد ادخل داخل وخبّر يمام .. وابقى معها، بجيب ثامر وأوديه المستشفى وبرجع لك"
يتركه ليتعجّل بسيره ويخرج سريعًا تاركًا خلفه تائه لا يعلم ماذا يفعل، كيف يخبر يمام؟ كيف يقنع نفسه أولًا كي يستطيع إخبارها، لا طاقة له بتحمل وجع فقد خالته نورة .. فكيف يطلب من يمام أن تصبر؟
" نجد؟ "
يلتفت ليجدها خلفه والبكاء يخفي ملامح وجهها ..

حادي العيسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن