مرت بضع ساعات منذ دلوفها للمطبخ كانت تمنع كل من يحاول مساعدتها ، فقد أرادت أن تبهرهم بما صنعته يداها .. كانت الروائح التي تنبعث من المطبخ تقتحم الأنوف لتزيد من شهيتهم لتناول الطعام بل كانت الرائحة وحدها تكفى لزيادة الوزن !
رتبت السفرة المكتظة بالعديد من الأصناف المفضلة لأليس وجولي بطريقة مبهرة ، بينما كان طبق الملوخية اللزج من أجله هو .
- رائحة الطعام تفوح فيرفرف قلبي من فرط السعادة .
قالتها جولي وهى تمضغ شريحة من اللحم المدخن .
بينما أشادت بها أليس وهى تتناول المعكرونة :
- أشعر أنكِ شيف عالمي .
بينما إيفان كان يتناول طبق الملوخية خاصته ، لتهتف لورسين متسائلة وهى توجه نظرها إلى الطبق أمامه :
- ما رأيك بهذا الطبق ، هل هو جيد ؟
أومأ برأسه .. لتضيف بنبرة واثقة شديدة الفخر :
- أعلم ذلك فالجميع يُشيد بأطباقي .. ثم تابعت تناول طعامها بنهم شديد .
على النقيض إيفان الذى كان يئن أنينًا خافتًا لا يكاد يتجاوز صدره وهو يشعر بتقلصات معدته التي كادت أن تفتك به !
استرقت النظر إليه لتجده لا يأكل شيئًا ، لتهتف بخبث وهى ترسم ملامح الحزن على وجهها :
- لم لا تأكل ، ألم يعجبك ما طهوت ؟
أغلق عيناه بشدة وهو يعتصر بطنه من الألم .. لتلتمس في نبراته صوت ألم شديد وهو يقول بصوت ضعيف :
- الطعام لذيذ .
ثم انسحب بهدوء ، وما إن توارى عن أنظارهم حتى هرول إلى دورة المياه !
قضى ليلته يلتوّى في الفراش بين الأنين والسهاد ، يعتصره الألم كلما مرت الدقائق وولت الساعات ، بينما لورسين كانت تنظر إليه بنظراتٍ متشفية كلما رأته ذاهبًا إلى دورة المياه !
نمت ابتسامة سمجة على ملامحها ، لتهتف وهى ترتشف ما تبقى من كوب القهوة :
- العين بالعين والسن بالسن والبادئ اظلم !
تفاقم الوضع لتشعر بالقلق عليه ، سرعان ما ذهبت إلى غرفته حاملة معها أقراصًا مهدئة للمعدة وكوبًا من النعناع الساخن .. كادت أن تقرع الباب لتتفاجأ به يفتح باب الغرفة من جديد ليتخطاها مهرولًا إلى دورة المياه ، مرت بضع دقائق لتجده عائدًا إلى الغرفة ولم ينبس ببنت شفة وهو يندس في فراشه ساحبًا الغطاء فوقه .
دنت منه لتجد الأرق واضحًا على خلجات وجهه الشاحب ، لتصيح بقلق :
- ماذا دهاك ، هل أنت بخير ؟
نظر إليها طويلًا .. لتطالعه بعينين دامعتين ثم همست بنبرة نادمة :
- أسفه ، لم أقصد ذلك .
- أريد النوم .
قالها وهو يمسك لجام نفسه أمام تلك الساذجة المتهورة .. تدفقت الدماء إلى وجهها من شدة الخجل ، لتبتلع غصة مريرة انتابتها ، ثم هتفت بصوتٍ مختنق وهى ترحل :
- تناول ذلك القرص سيساعدك على التحسن .
ذهبت إلى غرفتها لتنهمر دموعها بشدة جراء فعلتها ، أم هو فقد تناول القرص بهدوء وراح في ثبات عميق بعدما شعر ببعض التحسن .
لم يخرج ليتناول وجبة الإفطار معهم ، فذهبت جولي لحثه على الاسراع لتجده قد غادر ولم تجد شيئًا من مقتنياته !
صاحت جولي تناديهم .. لتنفض لورسين من مكانها ظننًا منها أن الألم قد بلغ مبلغه منه ، ثم تبعتها أليس مسرعةً إلي غرفته .
وقع نظر لورسين على فراشه المرتب لتتنفس الصعداء إذًا هو بخير ، ليُخرجها صوت جولي من أفكارها وهي تقول :
- لقد ذهب إيفان ولن يعود .
توجهت أليس بحديثها إلى لورسين التي تلقت الصدمة بحسراتٍ لاذعة ، لتصيح بها بغضب :
- هل أنتِ راضية الآن ؟
ثم أضافت وقد فرت الدموع هاربة من عينيها :
- لم يستحق إيفان منكِ ذلك ، لقد حاول بكل جهده مساعدتنا .. هل هذا جزاء من أراد لنا العيش بسعادة ؟
انصرفت أليس وهى منزعجة من تصرفات لورسين المعاندة ، لتدنو منها جولي وهى تنتحب ، لتردف بصوتٍ مبحوح والدموع تتساقط من مقلتيها :
- لقد أحبنا إيفان كثيرًا .. حتى أنه كان يساعدني في استذكار دروسي ، إيفان ليس وحشًا كما ذكر أبى .
ظلت صامته تنظر إلى فراشه بينما انسحبت جولي ، لتتساقط دموعها وهى تتذكره لتهمس بضعف :
- قال أبى أنه سَيبقى معي ولكنه رحل ، وها أنت إيفان لم تتحمل أكثر فذهبت .. الجميع يرحل ، بل جميع الوعد كاذبة !
كانت أليس تعلم أنها قست عليها كثيرًا ولكنها أرادت أن تعنف أختها قليلًا لتسقط حدة عنادها بينما جولي كانت تعتبره كأب جاء ليعوضها عن حنان افتقدته منذ أمد .
مرت عدة أيام على رحيله وعاد الصمت يعم القصر ، جولي في غرفتها تراجع دروسها بعقلٍ منشغل وأليس تحضر الطعام لأخواتها فقد تولت مسئوليتهم منذ زمن وكأنها والدتهم لا شقيقتهم الكبرى ، بينما لورسين عادت لتكتب رسائل غير مكتملة وتمزقها !
أنه الروتين مرة أخرى ، وكأنه حشائش ضارة كلما حاولن اقتصاصها نمت من جديد ، لتُصبح أكثر قوة !
مر ما يقرب بالشهر لتعتاد كل واحدةٍ منهن على حياتهن البائسة من جديد .
وذات يوم بينما كن متجمعات يُشاهدن إحدى الأفلام القديمة هتفت لورسين بنبرة جامدة وهى تهم للانصراف :
- وجدت عمل في إحدى الصيدليات المجاورة ، سَأذهب إليه من الغد .
كادت أن تعلق جولي ، لتجد أليس قد سبقتها بنبرة لا مبالية وهى تكمل متابعة الفيلم :
- حسنًا ، أفعلِ ما يحلو لكِ .
انصرفت لورسين بعدما القت نظرة أخيرة تجاه أليس .. لتتوجه جولي بكامل جسدها نحو أليس المتصنعة بمشاهدة الفيلم ، لتردف بجدية شديدة لا تليق بمظهرها الطفولي :
- إلى متى سيستمر هذا الوضع ؟
حانت التفاتة بسيطة من أليس نحوها ، لتردف بثبات :
- سَيستمر حتى تعترف بأنها المخطئة .
زفرت جولي بضيق لتصيح بغضب :
- بدت ضائعة بينكما ، أنتما كبيرتان بما يكفى لتتخلصا من ذلك العِناد ، إلى متى سَأتحمل خصامكما ، أنا الصغيرة لا أنتم .. يكفى تقلب حياتي إلى هذا الحد .
ثم استرسلت في حديثها وهى تمسح دموعها المنهمرة بأطراف ردائها :
- رحل أبى ثم تبعه إيفان .. هل على أن أتوقع رحيل واحدةٍ منكما ؟
وصلت صوتها العالي إلى لورسين لتهبط الدرج مرة أخرى توجهت صوب جولي لتهتف بنبرة أسفة :
- آسفة جولي .. أفجعتني الخسارات المتتالية فوقعت في قبضة الغضب .
ثم توجهت بحديثها إلى أليس الباكية لتتابع :
- أليس ، للمرة الأولى تغضبين إلى هذا الحد .. وددت لو أعناقك فينتهى ذلك الخصام .
تقدمت أليس إليها لتهتف من بين دموعها :
- حمقاء ، كنت أريد تعنيفك لا أكثر .
ثم ضربت أليس بخفة فوق مقدمة رأس لورسين لتهتف وهى تضمها إلى صدرها :
- اشتقت إليكِ أيتها الساذجة .
- وأنا أيضًا .
هتفت بها لورسين وهى تضحك ، لتتذمر جولي وهى تخبط قدميها بالأرض ثم دمدمت بصوت منزعج :
- أف ، أنا الغاضبة وأنتما من يتصالح ، اللعنة على تلك العقول .
همت لترحل فجذباها لأحضانهما ، لتعود ضحكاتهم تملأ القصر من جديد .
بعد مرور يومين كانت لورسين منهمكة بالعمل ، فقد تغيرت حياتها أخيرًا منذ خروجها للعمل بالصيدلية ، فقد أصبحت أكثر نشاطًا ، وشعرت وكأنها طائرًا يرفرف بلا قيود .. بالرغم من ضغط العمل إلا أنها تشعر أخيرًا بالسعادة .
- أريد أقراصًا للصداع .
انتشلها صوت أحد الزبائن من أفكارها ، لتتوجه إلى أحد الرفوف حاملة معها طلبه ثم توجهت إليه بالفاتورة دون أن ترفع نظرها نحوه وبيدها الأخرى ترسم ثلاث خطوط على علبة الدواء ، ثم هتفت بنبرة عملية :
- يؤخذ ثلاث مرات في اليوم .
مد إليها يده بالنقود وهو يتمتم :
- تفضلى .
نظرت إليه بابتسامة رقيقة سرعان ما تلاشت وهى تدقق النظر نحوه لتردف بصدمة :
- إيفان !!