رحل عِطرهُ إلى الأبد تاركًا خلفه ثلاث ورداتٍ تتأهب للتفتح فى غير مواسمها ، كانت الوردة الأولى تائهةً وضائعة ، والثانية تفكر بلا هدى ، والثالثة كالحاضر الغائب ، ترك خلفه خائفاتٍ ضائعاتٍ مستكيناتٍ !
مرت ثلاث ليالٍ بعد رحيله والحال كما هو يستيقظن صباحًا فى صمت ، ويعودن إلى الفراش مع رحيل أخر طيفٍ للشمس .
لم يعرفن غيره فى حياتهن ، ولم يكن لهن أصدقاء أو معارف ، عزلهن في حياته داخل القصر الواسع ظنًا منه أنه يحميهن من الضياع ولم يكن يُدرك أن ذلك هو الضياع بعينه !
طالما حذرهن من غدر الرجال ، فقد زرع داخل كل واحدةٍ منهن كُره الرِجال حتى ظنن أن تلك الكلاب التي تعوى ليلًا بالقرب من القصر لأقل خطرًا ممن يحمل لقب رجل !
" الرجال ذئاب تنتظر الوقت المناسب للانقضاض على الفريسة وما أنتن إلا فرائسهن يا عزيزاتي . "
كانت جملته تتردد على مسامعهن كل ليلة حتى بات الأمر حتميًا فى كره الرجال وما يمت لهم بصلة !
كان الفراغ يملأ حياتهن ، لا شيء سوى الفراغ القاتل !
طالما كانت حياتهن هادئة لا يُعكر صفوها سوى أحلامهن البريئة البائسة .. ماذا لو كانت حياتك محض صورة روتينية مملة ؟ لا تمرد أو اعتراض فقط أوامر مجابة وما عليهن سوى السمع والطاعة ، كانوا كالماريونيت يحركهم بيده كيفما شاء ومتى شاء ، بحركات انسيابيه بأصابعه يتحكم بهم ويشتعل المسرح تصفيقًا كلما أجاد وأبهرهم ، أما هن تلك اللواتى استكن لأوامره تقمصن دور العرائس ببراعة شديدة مما جعله يتحكم أكثر فأكثر ، فكن مجرد دورًا في مسرحيته يراهم المشاهدون أبطالًا وما هن إلا دُمى يتحركن بأمره يرسم تحركاتهم من خلف شرشف أو ستار هزيل فيظن الجميع أنهم سعداء بالبطولة وما هن إلا مستكينات يمتثلن لأوامر أبٍ زرع الخوف داخلهن ، وما أفجع ثوب الأبوة الذى كان يتوارى خلفه !
كانت واقفة على أطراف أصابعها فوق المنضدة ممسكة بأطراف إحدى الستائر ولم تنتبه إلى صوت تلك المذعورة التى تناديها منذ زمن .
- لورسين ، ماذا تفعلين ؟
انطلق صوت إحداهن من خلفها ، لتنتفض لورسين وتلتف نحوها .
- كدت أموت من القلق عليكِ .
ابتسمت لورسين بهدوء وهى تجلس فوق المنضدة ثم جذبت يد أليس بحنو لِتُجلسها بجوارها وهى تُمتم :
- أليس ، لست مجنونة لأنهى حياتي بتلك الطريقة البائسة ، ألا يكفى حرماننا من الحياة مرة واحدة ؟
ثم استرسلت في حديثها لِتُضيف بعض المرح :
- كان هنالك شيئًا عالقًا بالستار عزيزي كدت أزيله لولا تدخلك ، لم أفكر مطلقًا بالقفز من النافذة ، الانتحار للجبناء أختاه ، أما أنا فهنالك العديد من الطعام اللذيذ ينتظرني ، أتتخلى عنه من أجل ذلك الجنون ؟!
ضحكت أليس بمرح ، ثم تحولت نبراتها للضيق المفاجئ وبصوت مخنوق متحشرج تمتمت :
- لم نعرف في حياتنا سوى أبانا والطعام والشراب وأيضًا هذا السجن الذى يطلق عليه أبانا قصرًا ، أتعلمين لورسين كانت أمنتي الوحيدة أن أحلق كالعصفور خارج القصر ، الآن باستطاعتنا فعل ذلك ولا نجرؤ ، نخاف وحشًا من بشر .. الأمر مضحك حد البكاء !
احاطتها لورسين بذراعيها ، وضمتها الى صدرها بحنان وهى تمتم بصوت ضعيف :
- سَيكون كل شيء بخير ، فليطمئن قلبك عزيزتي ، ثقِ بي .
كادت أن تُجيبها أليس حتى استمعت إلى صوت حركة غير طبيعية ، لتهمس بذعر :
- لورسين .. أحد ما بالخارج !