وقعت كلمات جيلان عليها وقع الصاعقة ، لم تتخيل وجود أخرى فى حياته .. نعم تُدرك جيدًا أنهما ليسا على وفاق ولكنه لم يحكِ عنها من قبل ، تفاجأت أثر كلماتها ولم تكن بأقل صدمة من جولي التي شهقت بخفة ولا أليس التى نست فاهها مفتوحًا .
كان يطالع رد فعلهن بابتسامة ، وسرعان ما ابتعد عن جيلان متعللًا بحاجته لشرب الماء .. انقضى اليوم بين حكايات جوزيف وجاثمين والدة إيفان ليشعرن بدفء العائلة الغائب منذ زمنٍ بعيد ، بينما لم تخلو السهرة من مضايقات جيلان .
مر أسبوع على مكوثهن بمنزل جوزف تبدلت به أحوالهن كثيرًا فقد أصبحت لورسين أقل حِدة وباتت على قرب من إيفان فقد وجدا العديد من الأشياء المتشابهة بينهم ، ووجدت جولى من جاثمين حنانًا بالغًا وكأنها جاءت لتعوضها عن سنواتها الماضية ، بينما أليس كانت تقضى جل أوقاتها بصحبة جوزف تستمع إلى حكايات والدها منذ نعومة أظافره لتزداد شوقًا إليه ، بينما جيلان كانت تزداد حقدًا على لورسين يومًا بعد يوم .. فقد استشعرت قرب إيفان منها لتملأ الضغينة قلبها .
وفى مساء اليوم التالى صحبهن إيفان إلى مدينة الملاهى بعدما تأجلت تلك الخطوة مرارًا ، تجربة فريدة من نوعها بالنسبة لهن ، عذرًا .. أى جديد حتمًا سَيكون فريد بالنسبة لطيور سجينة خرجت للتو من قفصها ، بالرغم من هدوء أليس المعتاد إلا أنها بدت كطفلة فى السابعة من عمرها للمرة الأولى تضحك لهذا الحد ، كانت تشعر أن سعادة الكون بأكمله قد حلت بقلبها .. ابتاعت كل جميل رأته عيناها فقد كانت تحمل بيمينها غزل البنات بينما تلهو بيسراها ببعض البالونات المتفاوتة الألوان .. كانت طفلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، لدرجة أنها بدت أصغر من جولى التى كانت تصرخ هلعًا فور دلوفها " بيت الرعب " .
وللمرة الأولى يستمع إلى ضحكات لورسين ، ليهتف متعجبًا بنبرة تشوبها الصدمة :
- أتضحكين مثلنا ؟!
اختفت ابتسامتها تلقاء كلماته ثم رفعت إحدى حاجبيها ، ليتمتم ضاحكًا :
- أعتذر منك ، بالكاد أصبحنا أصدقاء .
ثم أشار إلى كفه الذى لم يشفِ بعد من أثار عضتها :
- يكفى اصابة واحدة !
ضحكت لورسين مرة أخرى ، ثم نظرت إلى أليس لتهتف بمرح :
- يبدو أن أليس قد فقدت عقلها بالفعل .
انتهى اليوم سريعًا فقد كان يومًا مثالي بالنسبة لهن بينما قلوبهن كانت ترقص من فرط السعادة .. وظل ذلك اليوم ضمن أيامهم القليلة التى ظلت خالدة فى ذكراهم لجمالها الطاغى .
ولم تدم السعادة طويلًا فقد عكر صفوها جيلان الحاقدة عليهن ، وبدأت تحيك الاعيب لتجذب إيفان إليها بمكر ودهاء ، استطاعت بعض الشيء ابعاده عنهن ببعضٍ من المسكنة والالحاح فقد حملته عبء جديد على عاتقه كانت تلومه بدموع أنثى أهملها حبيبها من أجل أخريات دخلن حياته فجأة ، فقد كانت ماهرة في رسم دور الضحية وما كان عليه سوى التصديق ، ماذا عساه أن يفعل فهى أيضًا لها حقوقًا واجبة عليه ، لم يشعر بشيء تجاهها فقد كانت خطبة تقلديه ، اعتاد على وجودها وعلى الرغم من ذلك لم يرها يومًا تصلح لتكون شريكة حياته ، ولكنه انصاع بالأخير لقرارات عقله .
على الرغم من ابتعاده عنهن تلك الفترة إلا أن تفكيره كان عالقًا بهن يشعر بالمسئولية تجاههن أينما ذهب وأيضًا يشتاق إليهن وكأنه غاب عنهن قرنًا من الزمن ، لم يقترب يومًا من أجل احتياجهن إليه بل كان هو دائم الاحتياج إلى وجودهن ، ملأن حياته الفارغة وأزحن عن قلبه الوحدة القاسية !
كلما حاول الاقتراب من جيلان شعر بالضيق الشديد يجتاحه ، كان حديثها فارغًا ، لا تتحمل المسئولية مطلقاً كطفلة يحترص من تصرفاتها أينما ذهب ، ضاق صدره من أفعالها ولم تعد لديه القدرة على التحمل أكثر .
عاد إلى المنزل مبكرًا على عكس عادته الأيام الماضية ليجد لورسين جالسة تحيك بعض الملابس ، ليهتف بذهول :
- لورسين ، لا أصدق .. ماذا تفعلين ؟
اكملت حياكة الثوب دون النظر إليه ، لتردف باقتضاب فقد كانت شديدة الغضب منه :
- كما ترى .
جلس بالقرب منها ليبعد الثوب عن يديها ، ثم هتف بنبرة حانية لم تعتادها منه :
- اشتقت إليك .
خفق قلبها بشدة واكتسى وجهها بالحمرة .. لتتمتم بخجل :
- وأنا أيضًا .
انتابته مشاعر غريبة تلك اللحظة ، كان يشعر بأن شيئًا ثمينًا قد عاد إليه فور لقاؤها .. لا يعلم كم مر من الوقت وهما على الوضع فقد تاه بعينيها الزيتونية التى طالما كانت تأسره ، ليهتف وقد أسكرته عيناها :
- عيناكِ ساحرتان يا زيتونية ، أقسم أننى قد أصبحت متيمًا بهما .
اخجلتها كلماته لتهرول مرتبكة إلي غرفتها وهى تضع يدها فوق قلبها .. ليبتسم فور ذهابها ببلاهة ثم همس :
- أحبكِ يا مجنونة !
كان لابتعاده عنها أثرً كبيرًا فى معرفة مشاعره ، فمنذ رؤيتها أول مرة وهو يشعر نحوها بشعور لم يستطع تفسيره ، دائمًا ما كان يتهرب منه ولكنه الآن لم يقوى على ذلك ، فقد أضناه العشق الصامت تجاهها ، وكما تعرف عليها أكثر كلما شعر بحبٍ ينمو فى قلبه ، ليغمره بالسعادة ويمنحه الحياة .
استمع جوزيف إلى كلماته ، ليهتف بسعادة :
- هل كنت تتحدث مع جيلان ؟
كاد أن يجيبه ، ليضيف جوزيف ساردًا مكالمة كيفين :
- حدثنى والد جيلان اليوم عن سفره الشهر القادم واقترح إقامة حفل الزفاف قبل رحيله إلى باريس ، ما رأيك بإقامته يوم ميلاد جيلان ؟
الصدمة ، لا شيء سوى الصدمة !
كانت ملامحه جامدة ، خانته الكلمات .. فللمرة الأولى يشعر بالسعادة لقرب أحدهم ، دق قلبه أخيرًا .. أبتلك السهولة يتخلى ؟!
وما عذره الآن حب جديد !
وماذا عن تلك التى انتظرته ثلاثة أعوام ، هل يتركها من أجل قلبه ، أم يخون قلبه من أجل واجبه ؟
حطمت الصدمة أحلامه ، وقف عاجزًا أمام مشاعره للمرة الأولى يشعر بأنه ضائع بين عقله وقلبه ، بين واجبه وحاجته فهى كل ما يحتاج .
قربها كان مؤلم وبعدها أكثر ألمًا ، وماذا إن تخلى هل ستكون حبيبة لأخر ، لا يطيق التخيل فماذا إن تحقق ذلك ؟
ذهب إلى غرفته دون أن ينبس بنبت شفه ، فقد أثقلته همومه ، هو بحاجة للتفكير ، بحاجة لا شيء لا يريده .. التفكير قاتل فى تلك الحالات ، وهو مدرك بأنه قادم على قرار سَيهلكه !
بينما لورسين كانت شاردةً فى عالمٍ آخر تارة تبتسم وتارة تخجل وتخفض عيناها وكأنها تراه أمامها ، ترسم عالمًا ورديًا مليئًا بالعشق .. طالما رسمت صورة بلا ملامح لفارسها كانت تظن أن تلك الصورة سَتظل وهمًا ولكن الوهم الآن أصبح حقيقة ، تشعر بالسعادة .. لا بل السعادة لا تكفى لوصف ما تمر به الآن ، تطير لا بل ترفرف ، تحبه ؟
لا تعلم .. هل هذا ما يُدعى حبًا ؟ ابتسمت .. أجل أنه الحب !
لورسين " فتاة الجليد " كما تطلق عليها جولي تشعر بالحب !
الآن يخفق قلبها فرحًا ، كارة الرجال ، تحب رجلًا طالما حذرت أخواتها منه ، أنه الحب لا يفرق بين جنس أو لون !
الآن تدرك أنها أبنة أبيها ، تحب على طريقته .. أتبعت خطاه دون أن تعلم ، ظنته فى البداية غضبًا ولكنه كان خوفًا من التعود ، بكت فى غيابه شوقًا وندمًا ، كاد أن يضل قلبها السبيل ولكنها وجودته يمد يد العون دون تطلب ، فى كل مرة تشعر بشعور لا يمكن وصفه ولكنها تعلم أنه الحب ولا شىء سواه .لم تستطع النوم تلك الليلة لتخرج من غرفتها لتشاهد فيلمًا علها تكف عن التفكير ، لتجده جالسًا أمام التلفاز ، لتهتف متسائلة :
- إيفان ، ألم تنم بعد ؟
أومأ برأسه .. لتضييف بملل :
- وأنا أيضًا حاولت النوم ولم أستطع .
صمت قليلًا لتجلس جواره تتابع ما كان يشاهد ، ليهتف بنبرة جامدة :
- حفل زفافى الأسبوع القادم .
شهقت بصدمة :
- ماذا ؟
صمت وهو ينظر إلى اللاشىء لتتذاكر الموقف وتبتلع مرارة خيبتها ، ثم تمتمت بوجع حاولت تخبئته ولكنه كان واضحًا :
- مبارك عليك .
ثم رحلت إلى غرفتها فى صمت ودموعها تنهمر بلا هوادة ، أرادات أن تصرخ بوجهه ، توبخه ولكن بأى حق تفعل ذلك .
كانت تتجرع الوجع داخلها ، تبكِ حبًا ظنته ملجأها الأمن ولكنه لم يكن سوى حائط هش استندت عليه ليسقط بها إلى قاع أحلامها ، لتراها تتهدم بلا شفقة !
أما هو فقط أختار واجبه ومزق قلبه أربابًا دون أن يعلم أنه قد قتلها معه بسكنينٍ بارد !
كان الأسبوع على وشك الانتهاء وكلما اقترب ذلك اليوم كلما زاد ضعفها وشحوب لونها ، بينما هو كان دائم الانشغال فى تجهيزات زفافه التى اتخذها حجة للتهرب من عيناها اللائمة .
جاء يوم الزفاف ، يوم إعلان قتلها .. تبكِ لا تكف عن البكاء ، ألم يعدها ألا يخذلها .. أين هو من وعوده ، الرجال ذئاب بشرية لم يخطأ والدها بل كان صادقًا حد الوجع !
اليوم سيكون لأخرى ، لا يحق لها النظر إليه بعد الآن .
إلى أين تذهب من قلبها ؟
كيف تتخلص من ذلك الوجع الذي يضنيها ؟
ليتها لم تتخلِ عن عزلتها يومًا ، ليتها لم تلتقِ به ، أى وجع هذا الذى يلازمها ، ألن ينقض يومًا ؟
كان يرتدى حلته السوداء بقلبٍ ممزق ، يعلم أنه يقسو على قلبه ولكن ماذا يفيد البكاء على اللبن المسكوب ، فقد انتهى الأمر فلن يجدى الندم نفعًا !
- تليق بك .
قالتها لورسين وهى تنظر له عبر المرأة ليلتفت إليها وهو يعدل من رابطة عنقه السوداء ، ثم تمتم قائلًا :
- لا شىء يليق بى بدونك لورسين .
سقطت دموعها وهى تنظر إليه بضعف ثم تمتمت بصوت مذبوح :
- ولكنك خذلتنى !
ثم ترنحت قليلًا لتفقد الوعى ، فقد تحملت ما يكفى فلم تعد تقوى على الصمود !