¹

1K 100 107
                                    

-

كندا، ١٩٩٩.

كانَ الشَفَقُ في بدايةِ أوجهِ، الشوارعُ اكتظتْ بالعامة، فباتَ زحامُ السير أشدَّ من زحامِ السيارات نفسه. هذا ما صعّب الركضَ على ذاتِ القامة المعتدلة، فباتتْ ترى وجوهَ من يطاردونها في كُلِ أمرئٍ تصطدمُ به، ثمّ تكمل طريقها جرياً مبتعدة عن تذمرات الناس من دفعها لهم.

« إيڤيريت، أيتها اللعينة عودي إلى هنا! لا تدعوها تهرب! »
صوتٌ خلفها سارع وتيرة أنفاسها الباردة التي كانتْ تتسابقُ مع رفيق ركضها؛ البليل البارد الّذي يهبُ جاعلاً من أطرافها ترتجف.
استمر جريها حتى وصلتْ إلى أحد الأزقة الداخلية، و وقفت تلهثُ من عناء الركض، سرعان ما خارت قواها و هبطت الأرض محتبية على نفسها، تُفكرُ في طريقة للخروج من مصيبتها، فأغمضتْ عينيها سامحة لدموعها الساخنة في التغلب عليها، فإنضمتْ سلسلة ذكرياتها إليها.

أن تكونَ لقيطًا وسطَ عالم أنانيٍ لن يرحمكَ أمر في غاية المشقة، هذا ما أدركتهُ إيڤيريت ذات السبعة عشرَ عاماً، نشأت و ظلتْ وحيدة طوالَ سنينها تكافحُ للبقاء، متمسكة بما تعلمتهُ من الأناس الخيرين الذين قابلتهم في حياتها، فكان بعضهم سبباً في بقاءها حية حتى الآن.
و لكنها تظلُ مراهقة طائشةً في محيطٍ يتواجدُ فيه مختلفُ الأنواع من الشر، و كان أكبرهمْ الّذي أصابها في بداية اليوم، حين دخلتَْ إحدى الحانات التي تعمل بها، بعد أن عرض صاحبها عليها العمل منذ فترة قريبة على تنظيفها مقابل ما يسد الرمقها، و لن تنكرَ عدم راحتها من حانته، الّتي لم تكن مليئة إلا بأصحاب النزوات، والمثليين، و لم يفح خشبها ذو اللون الأحمر القاتمِ إلا برائحة الخمور، التي كانت متزامنة مع روائح المتواجدين المثيرة للإشمئزاز.

كانتْ مضطرة لتجاهل كل ما حولها و التركيز على وظيفتها فقط كباقي الأيام، لكن اليوم كان مختلفا،ً فنظرات صاحبِ الحانة كانت تحوم حولها طوال الوقت، و بإشارة منه أخبر أحد الندل أن يرسلها إلى مكتبه، فذهبت مستغربة من إستدعاءه.
أشار لها بالجلوس أمام مكتبه، ثم اقترب من المقعد الذيّ يقابلها و جلس يحادثها.
« للآن تعملين هنا لمدة شهر يا إيڤ، لما لا تحدثينني عن نفسك.. عائلتكِ و إلى ما ذلك؟ »

نبرتهُ كانت لعوبة بقدرِ ما حاولَ خداع الأخيرة بلطفها، لكنها كانتْ دائماً حريصة، محاولة عدم التحدثِ مع الناس، فهي توقن أن شخصًً مثله لن يجلب لها سوى المتاعب، فإستأذنت الذهاب لإتمام عملها إلا أنه انقضَ عليها كوحشٍ كاسر و الصقها على مكتبهٍ محاولاً تمزيقَ ملابسها و السطوَ على جسدها، حاولت مقاومتهُ و لكن بدنها كان صفراً أمام قوة الأخير، فزحفتْ يداها حولها حتى وصلت إلى مخرزة معدنيةٍ أطبقت بها على رأسه، و بمجرد أن ابتعد متألماً ينزِف هرعتْ هاربةً مصطدمة بكل من كان في الحانة، متجاهلة صراخَ الأخير لرجاله
« لا تدعوا الفتاة تهرب أحضروها! »

فتحتْ عينيها مجدداً مُجفلة من غفوتها الّتي جعلتْ كابوس يومها يعاد، و ازداد رعبها حين رأت أضواءَ المصابيح و الهمسات المقتربة منها، تسارعتْ وتيرة أنفاسها و تمسكت بالصليب في رقبتها هامسة لنفسها
«ليكن الرّب معي.»

سرعان ما إستقامت تهرب إلى حيثما تأخذها أقدامها، متأبطة بطرفِ معطفها العلوي على خصلاتِ شعرها محاولة التخفي بينما تجري، حتى وجدتْ نفسها أمام محطة النقلِ البرية، و كانت عيناها تبرقان بأمل وحيد؛ ألا و هو أن تقحمَ نفسها في أحد الرحلات و تهرب إلى أي مكان!

حاولتْ التمسكَ بشجاعتها بينما تمشي بتخبطٍ و تناظر من خلفها كل برهة حتى توقفتْ على صوتِ نداء أحد الرجال.
« تَذكرة ذهاب بلا عودة مجاناً، التذكرة الأخيرة!»

وجدتْ الفكرة مناسبة لها رغم القلق الذي يحاصرها، توارتْ أنظارها إلى الخلف، فرأت الرجلينِ اللذانِ يلاحقانها يستفسرون من العامة عنها، فشدتْ على غطاءِ رأسها أكثر و اتجهت صوب الرجل.

«أريد التذكرة»
إلتفتَ الأصهبُ مصدر الصوتِ و استقرتْ عيناهُ عليها، حدقَ بها برهةً حتى إرتفعتْ زاوية شفتهِ ببتسامة ماكرة بينما تملكتْ عيناهُ على خاصتها و جعلتْ هالة غريبة تستوطن هواجس إيڤيريت، و بتركيزها على وميضِ عينيهِ شعرتْ بـ لسعةٌ حارة جرتْ داخلها، من رأسها حتى أخمضِ قدميها، اتسعتْ إبتسامتهُ الهرمة بينما ينحني حتى قاربَ إستقامتها مقرباٌ التذكرة نحوها، ثم أردفَ هامساً لها:
«لقد إستحققتها!»

°°°°°°°°°




المحطة الأخيرةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن