³

335 58 101
                                    

-

الخصلاتُ السوداءُ الشعثاءُ ذاتها، جسُر أنفٍ حادٍ تموضعَ أسفلهُ خطا شفاهِ رقيقان باهتانْ، و عيونٌ زرقاءُ غائرة، كالّتي لاحقتها طوالَ حياتها، و ذاتُ اللون الخبيثْ الّذي احتلَ المرتبة الأولى في مخاوفها.
كانَ الأصهبُ يحدِقُ بها بعيونٍ باردة منتظرًا صحوتها من جمودِها كما يفعلُ الباقون بذاتِ النظرات. شدّت أعضائها لحظتها و دفعتها للوقوفُ و الخطى البسيطة الّتي إتخذتها نحوَ باب الحافلةِ و فتحتهُ تحتَ نداءِ السائق.

حالما خطت مستشعرةً برودة الجو صوبتْ أنظارها نحوَ مكان جسدهِ لكنها لم تجد لهُ أثرً، دَقاتُ خافقها قدّ هدأت و عادتْ حواسها للعمل حينما سمعتْ جدالًا داخل الحافلة. فورما دخلتْ وَجدت الحديثَ بينَ امرأة المقعدِ الأول و الجالسِ أمامَ عُجلةِ السياقةِ؛ بينما كان الفتى قربها يرقابها بأعينٍ محتارة.

«سيد ثيودور، مِن السخيفِ جعل قليلةِ عقلٍ مثلها تصعد، أكمل طريقكَ و تجاهلها!»

سَمعت إيفيريت ما قالته الّتي صمتت حالما رأت جسدها، لكنها فضلتْ تجاهلها؛ فَمن ملابسها تبدو من الأثرياء فارغيّ العقولِ الّذين ولدو بملعقةٍ من ذهبٍ في أفواههم. لَم تتقرحْ معدتهم جوعًا لأيام، لم تتلهفْ أعينهم لمجرد رغيفِ قمح، و لم ترتجفْ أبدانهم تَحت وقعِ الهطل و البرد.

«لِم نزلتِ؟»

كان صوتُ الأصهبِ الّذي سحبها من دوامةِ أفكارها الّتي لَم تَزل بعد من صدمتها، شعرُها كان مبعثرًا أسفلَ غطاءهِ و صدرها يعلو و يهبطُ على وتيرة متسارعة.

«لَقد لمحتُ جسدَ رجلٍ أمام الحافلة..»

«عَظيم، بدأت بالترهات..»

صوتُ المتذمرةِ قد قاطعها، بعدما إستقرتْ في مكانها متكتفةً باستعلاء. لكن الأصهبَ قد رمقها بإنزعاج.

«سيدةَ فَلنتين!»
نَطق إسمها معاتبًا، قبل أن تتموضعَ يمناه كتِفَ إيفيريت.

«ثيودور يصدقُكِ يا صغيرة!»

صوتٌ داخلَ الأخيرة تعجبَ من ذلك، وكانتْ زرقاوتاهُ تحدقانِ بها بطريقة بدتْ لها مريبة، و بثتْ لنفسها شعورًا غير مريح.

«أعني، بالتأكيدِ أنتِ متعبة، إرتاحي فقد إقتربنا من إستراحتنا»
صححَ، قبل أن تضربَ أناملهُ كتفها بخفةٍ، ثمّ تعودُ هيّ إلى مكانها بعدما ترجل هو كذلك، حيثُ وجدتْ الصغيرة نائمة بسلام؛ وفكرت، أيعقل أن ما رأتهُ كان من خيالها فحسب؟ بعد الرُعب الّذي تعرضتْ لهُ فهيّ قلقة، وربما هذا سببٌ لكلّ ما تراه. أراحتْ رأسها مجددًا إلى المسندِ مغمضةً عينيّها، إلا أن سكينتها لمْ تدمْ مع صوتِ طقطقةِ الزجاجِ خلفها.
وَقعتْ عيناها على جَسدٍ لُثمَ بالأسود، أحد الركاب في الوراء، يتقدمُ نحو مقدمة الحافلة، يدهُ تحمل زجاجة بلون أخضرَ قاتمْ، و بحسبِ خبرتها المحدودة فالسائلُ داخلها ليسَ إلا جَعّة من نوع ثقيل.

«أنتْ، ثيودور كما تدعيّ، إلى أيّ جحيمٍ تقودُنا إليه؟»

أردفَ بتَخدرْ، بعدما إستندَ قربَ المقعدِ الّذي يجاورُ الأصهب، فتنطلقُ ضحكاتهُ مترافقة مع ثيودور مشكلينَ صخبًا يقاطعُ هدوءَ المقطورة.

«لَستَ مضطرًا بتلويثِ أفكاركَ يا ولدَ كِيرت.»

إنتطلقت ضحكاتهما مجددًا، إلا أن الثملَ قد هدأ فجأة،  يقترب من الأصهب ساحبًا إياهُ من مقدمةِ قميصه، صارخًا في وجهه.
«كَيف تعرفُ اسمي يا ابن اللعينة؟»

عادَت سلسلة ضحكات ثيودور ذاتِ البحةِ، قبلَ أن تمتدَ ذراعُ الآخر ليلكمهْ، إلا أنهُ قد تصداهْ، مثبتًا أنظارهُ في عينيّ الآخر، الّذي شعرَ بضعفَ عضلاته، فدفعهُ ثيودور ليرتطمَ بمعدنِ الأرض.
وكانَ لاحقُ الإرتطامِ ضحكاتُ اليفنةِ القابعةِ خلفَ إيفيريت، الّتي إستقامتْ تدفعُ الامرأة قربها للأرض كذلك، و تتعالى ضحكاتُها بصوتٍ ضعيف ولكنُه كفيلٌ لبثِ المزيدِ من التوتر.

«فالتذهبوا إلى الجحيم وتوقفوا عن إصدارِ أصواتكم إنها تُخرشُ مسامعيّ.»

لَم يصدرْ من المرأة أيُ صوت بعد وقوعها، فامتدتْ يدُ إيفيريت لتساعدها على الوقوف.
«أنتِ بخير؟»

وبينما تسحبُها لتقف إمتدتْ يدُ العجوز لتفصلَ إتصالهما، فيرتدُ جسدُ الأخرى متزامنًا مع قفزاتِ الحافلة من مطباتِ الطريق. فتلتفتُ إليها صاحبةُ الفعل مشيرة نحوَ إيفيريت بسبابتها.

«هذهِ المسكينةُ بكماء، ستصبحينَ مثلها قريبًا! الجميعُ سيكونُ مثلها في النهاية، بلا نفع!»

عادَت أنفاسُ إيفيريت بالإضطرابِ من نظرات الهرمة نحوها، و من الجنونِ الّذي حولها، تريدُ أكلَ نفسها من الندمِ على خطوِ خطوة غبية كهذه. الأصواتُ بعدها امتزجتْ بينَ تذمرِ اليفنة، وشتائمِ الثملِ الّذي لا زالَ يبرحُ الأرضية، شجارُ المرأةِ الثرية و ضحكاتِ الصغيرة قربَ إيفيريت. كلّ ذلكَ جعلها تغلقُ مسامعها بتشتتْ راغبة بالهدوءِ داخلها و خارجها. لكنَ صوتًا قد إقتحمَ البقية فجأة،و كان أقواهم؛ كهبوطِ مئاتِ الجثثِ على سقيفة الحافلة.
الجميعُ إستكنَ بعد ذلك بخوف يناظرون السقف، وكان صوتُ تصفيقِ ثيودور هو ما صدر بعد ذلك، لافتًا إنتباههم.

«رُكاب رحلتي العزيزة، أنا راغبٌ بتقديمِ جَميع وسائلِ الراحةِ لكم، و لكن بذلك التمرد فإن روحَ قاطرتي لن ترضى عنكم..»

صعد الدرجتينِ الفاصليتينِ بين مقعدِهِ و باقيّ الحافلة، و ببتسامة جامدة راحَ يَعدُ بيده.

«فلنتين هانر و توماس الفتي، الصغيرة كريستال، إيفيريت، العجوزُ مايلي مادنيس و البكماءُ فيلدا نورس، أيدن كيرت، وصاحبُ السحرِ الأسود ماثيو أندرسون..»

إنتهى عِندَ آخر مقعدٍ، ونظراتهمْ كانت مترقبةً منه...من معرفتهِ لهوياتهمْ دون إفصاحهمْ عَنها.

«جميعكم أخترتم لتصعدوا هذه الرحلة،
إبتعادكم فناء، ولمعصيتكم عقاب. فقوتكم حتى النهاية هيَ أملكم الأخير، فَجميعكم تشتركون بصفة واحدة؛ ضعافُ النفوسِ لَن يصمدو حتى المحطة الأخيرة..»

°°°°°°°°




المحطة الأخيرةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن