يدك التى حطت على كتفى

9.4K 201 13
                                    

غوتنبرغ 
قبل اشهر 
أكبر مدينة للملاهي غوتنبرغ.



كان آصف يمشي بجانبها يتأملها بتعجب وهو يقول بضحكة مستنكرة "أنتِ لا تغريكِ الملاهي، لا تحبين القفز مثل الفتيات، لا تأكلين الحلوى ولا تغريكِ الشكولاتة...ما الذي تفعليه في حياتكِ تحديداً للاستمتاع؟"

هزت كتفيها بلا معنى وهي تخبره "أعيش فقط كما يحلو لي لا أنقاد لمعايير اجتماعية ولا أحبذ أن أتبع أي نمطية"

قال آصف بتسلية "اه نسيت أنكِ بوهيمية الفكر تتبعين نهجاً واحداً لا تحيدين عنه"

قالت على الفور بذهنٍ يقظ "إن كنت مهتماً حقاً بمعرفة نهجنا لن تسخر منه وتحاول وضعه في إطار ليبدو كغيره من أي فكر أو مدرسة تتقيد بنمطٍ واحد"

توقف آصف مكانه مجبرها أن تستدير إليه...تأمل عينيها الواسعتين التي تحدق فيه منتظرة سؤاله ولم يتأخر عن المجادلة الحذرة وهو يقول "إن كانت بمعايركِ أنتِ فهي قمة التناقض."

لم يعجبها إطلاقاً ما يشير اليه ولكنها سألته "ماذا تعني؟!"

أخذ آصف نفساً عميقاً وهو يعود ليمسك بيدها فلم تمانع وهو يشدها ورائه ليجلسا هناك على مقعد من الرخام أمام بحيرة صناعية صغيرة مطلة على كنيسة الأسماك...جلست بجانبه منتظرة إجابته التي لم تتأخر كثيراً وهو يخبرها "أنتِ لا ترتدين الفساتين"

أجابته مرتبكة "هذا صحيح"

أردف "ولا تعترفين بزينة النساء ...كما أنكِ تمقتين المجوهرات وتكتفين بالفضة!"

أزاحت شعرها للوراء بتوتر وهي تخبره "نعم...ما الذي تحاول قوله؟"

قال بصوت رخيم متزن "هذا بحد ذاته نمطية...أنتِ تنقادين لفكر معين لا تستطيعين الخروج عن إطاره وتضعين نفسكِ في دائرة مغلقة لا تستطيعين التحرر منها...من أخبركِ أن الفكر البوهيمي المستقل يعني هذا؟!"

جادلته وهي تقول بقوة "هذا غير صحيح البتة أنت أرستقراطي تأتي من عالم يتعالى على البشر ...فكر نرفضه نحن وإن كانت أمثلتك تلك دليل تأخذه ضدي سأجيبك ببساطة كل ما قولته يضع المرأة في إطار نمطي مهين...فهي تتجمل لتعجب الرجل، ترتدي باهظ الأشياء لتتنافس مع أخرى حتى تعجب هذا وذاك...وكله في صالح مجتمع أحمق لا يبغي إلا مرضاة عنصر واحد وضع نفسه درجة أولى منذ بدء الخليقة ومتحكماً فيها معتبراً أن الأنثى درجة دنيوية يقتصر دورها للترفيه عنه"لم  يجيبها آصف على الفور بل مد يده بهدوء يلتقط كفها فارداَ معصمها على ساعده وكشفه ليظهر وردة فانديتا التي تضعها كوشم رمزي لها!
ثم  قال "هل تعرفين معناها الحقيقي؟!
تغضنت ملامحها بحزن وهي تقول "لا يعجبني ما تشير إليه ولكني بالطبع أعرف وإلا ما كنت رسمتها هناك لتعبر عني"؟!
مرر آصف أنامله متتبع خطوط الرسمة وهو يشرح متجنباً رد فعلها "هل تعنين أنكِ تتخذينها شعاراً حتى وأنتِ تعرفين أنها كانت رمز للموت يضعها فانديتا عبر كل عملية اغتيال يقوم بها لتعبر عن الحياة الأخرى التي تنتظرهم بعد الموت"
أجفلت وهي تجذب معصمها من بين أصابعه وقالت معترضة "بالطبع لا لم أعنى هذا...بل أتخذها لتعبر للعالم أني شخص مستقل ومقاوم للسلطة لا يقبل بالتهديد والوعيد ولا بفرض حياتهم عليّ"
"أو لأنكِ شخص غامض مثلاً "عاد يقولها بتسلية مغيظة.
زمت فمها بتمرد وهي تقف من جانبه تخبره "ربما...وهذا يعني ابتعد عن طريقي ولا تحاول فرض أفكارك عليّ"
نظر لعينيها مباشرة وهو يقول "أنا أناقشكِ عزيزتي بحجج وقناعة شخصية يجب أن تحترميها كما تنص مبادئ مدرستكِ البوهيمية؟!" نظرت إليه مشوشة الذهن وقالت بتردد "أنت لا تناقش...أنت تفرض نفسك ورأيك كما تريد...لديك طريقة غريبة لتجعلني أتبعك دون تفكير رغم أني...!"

قال بهدوء وأحرف ثابتة "أنكِ ماذا دجينة... أُحب أن أسمعكِ"
تورد وجهها وهي تقول بصدمة مما يفكر به عقلها ويترجمه لسانها "أنا أخافك يا آصف...ليس ذلك الخوف المنفر الذي أهرب منه منذ سبع سنوات منذ أن تخلت عنى أمي وأنا في السادسة عشر...بل خوف لذيذ محفوف بالمخاطر وكأنك نار تجذبني بقوة...أعلم أنها ستؤذيني ولكنى اعلم جيداً أنى لن أجد الدفء والأمان إلا عندما ألقي نفسي بها"
للحظات طويلة كان ذاهلاً من كلماتها...متخوف من وصفها...وسرعان ما استحال الأمر لصدمة وهو يكتشف تلك الأحاسيس التي تنمو داخله بقوة وسرعة غريبة تجاه تلك الفتاة...ثم قال بصوت أجش "هل تستوعبين ما تحاولين قوله دجينة؟!"
لاحظ أنها تحبس أنفاسها وهي تومئ برأسها وشردت عنه ببصرها غير قادرة على النظر إليه وهي تقول "أعتقد أني أخبرك بطريقة غير مباشرة أني أحبك!"



...................................................




مُرهقةٌ أنتِ...وخائفةٌ

وطويلٌ جداً...مشواري

غوصي في البحرِ...أو ابتعدي

لا بحرٌ من غيرِ دوارِ...

الحبُّ مواجهةٌ كبرى

إبحارٌ ضدَّ التيارِ صلب وعذابٌ ودموعٌ

ورحيلٌ بينَ الأقمارِ...

يقتُلني جبنُكِ يا امرأة

تتسلى من خلفِ ستارِ...

إني لا أؤمنُ في حبٍّ...

لا يحملُ نزقَ الثوارِ...

لا يكسرُ كلَّ الأسوارِ

لا يضربُ مثلَ الإعصارِ...

آهٍ لو حبُّكِ يبلعُني

يقلعُني...مثلَ الإعصارِ...

نزار قباني



كان يتقلب منذ ساعات على فراشه دون جدوى محاولاً أن يستجدي ساعة واحدة من الراحة فيفشل تماماً وصوت خطواتها القلقة بالغرفة الأخرى لا يساعد ...أخذ آصف نفساً عميقاً وهو يعتدل ويجلس على الفراش بتعب يحني كتفيه غير قادر على تجنب نظرة الحزن التي أصبحت لا تفارق عينيها والضياع الذي يملأها منذ أن وصلا إلى أرض الوطن منذ ثلاثة أيام مضت ...لم تتمرد كما المعتاد ولم تبادله الاتهامات ...بل استسلمت تماما لما يفعله وما آلمه حقاً تلك الدمعة الهاربة من عينيها وهي تتلمس جنينها على شاشة البعد الثلاثي عند الطبيبة التي أخذها اليها بالأمس ...وجعه حقاً عندما كانت ترجوه أن يفسر حديثه بالفرنسية لعدم قدرتها مجاراته هو والطبيبة في الحديث الدائر بالعربية!

إنها شابة عربية مسلمة بالثالثة والعشرين من عمرها ولا تستطيع الحديث بلغتها الأم! ما الذي كان يفعله والدها أثناء تنشئتها؟! كيف لم تثُر دمائه أو ينبض قلبه تجاهها ليغرز فيها قيمه ولغته والحب الفطري لوطن تنتمي إليه.

زفر بحرقة متذكراً حديثها الخجول السابق وهي تخبره أنها لا تعرف عن العرب إلا ما درسته في مدارس فرنسا أو بعض المعلومات العامة التي يتناقلها الناس هناك وبالطبع الصورة التي تأخذها دجينة عنهم غير مشرفة على الإطلاق!

لقد أدرك آصف الآن أن دجينة لم تُربى من الأساس! وعندما يفكر بهذا لا يأخذ الأمر بمحمل سيء بل بتفسير منطقي بسيط ...فالتنازع التي عاشته والضياع الذي عانته في سن حساس جداً يجعله يتقبل بكل أسف كل ردود أفعالها...وما هو على يقين منه الآن أن ما منعها الانجرار مُضَيعة نفسها للنهاية هو شيءٌ واحد فقط "الفطرة!" فطرة تبعتها غريزياً لتمنعها من الانغماس في الخطيئة...مثلما اعتقد فيها يوماً عندما اتهمها بعلاقة مخجلة مع جلاء!

رغماً عنه شعر بغيرة الحارقة وبالدماء الحارة تضرب في عروقه فتتوحش ملامحه لينازع فيما بين الإقرار بأن جلاء أنقذها بطريقة ما ومنعها في وقت حساس جداً أن تلقي بنفسها في طريق التهلكة والذي لا عودة منه ابداً! وبين شعوره بالغيرة والحقد!

.............

توقف عن أفكاره عندما فُتح باب غرفته بتردد ليُطل منه وجه دجينة المرهق تناديه بدون تركيز "آصف هل أنت نائم!"

التوى فمه بابتسامة صغيرة لم يستطع مقاومتها وهو يقول بالعربية "وهذا إثبات آخر أن الجينات المصرية تؤثر فيكِ بشكلٍ فعال!"

عنينها المتوسعتين حملقت فيه بشكل مضحك وهي تقول بعربيتها الركيكة "لا أفهم"

اجتاحه شعور مبهم لم تفهمه وهو يقول بقهر "بالطبع لن تفهمي ولن تستوعبي، وهذا ما يؤلمني أكثر يا قطيطة لذا لا أعلم لمن أوجه جل غضبي"

اضطربت وهي تتراجع مرة أخرى للخلف وقالت "حسناً لا عليك ...أنا الأخرى لا أريد رؤية وجهك"

دوى صوته حازماً دون أن يكلف نفسه الاعتدال من مكانه وهو يقول "تعالي إلى هنا حالاً وأخبريني بالشيء الذي دفعكِ لتتنازلي وتشرفيني بوجودكِ"

تسمرت مكانها وهي تقول بفظاظة "ليس قبل أن تشرح لي ما قصدته قبل قليل"

هز رأسه أن لا فائدة مرجوة أن تفهمه يوما وقال بهدوء

"كنت أسخر منكِ إذ أن سؤالِك هو أحد تلك الأسئلة الغبية فأنتِ ترينني مستيقظ بالفعل!"

سمحت لنفسها أن تقف أمامه وهي تقول "ربما هو فقط مقدمة أو محاولة لبدء حديث لا أجد له افتتاح مناسب"

زفر بصبر "وما هو ذلك الحديث؟"
ترددت وهي تخبره "أنا أكره هذا المكان ...أشعر فيه بعدم الأمان والطمأنينة"

دوى صوته حازماً وهو يقول "يؤسفني إخباركِ أن مشاعركِ بتلك اللحظة لا تهمني بقدر شعوري أنا أنكِ لن تجرؤِ على الهرب من هنا وستفكرين ملايين المرات قبل أن تخطو قدمكِ خارج باب تلك الشقة"
لم تدرك أن جفنيها توسعا بقوة وهي تتنفس بعنف فقد ضربها الإدراك للمغزى الحقيقي لوجودها هنا "هل تعني أنك أتيت بي إلى هنا فقط لتسجنني، ألا تثق بي آصف؟!"
وقف أخيراً من مكانه ليتجه لطاولة صغيرة مرتب عليها بعض أشيائه الخاصة بعناية...ثم ما لبث أن قال بأناقة يعبر عنها بكل تصرف أرستقراطي "إن صدمتكِ من الأمر مبهرة حقاً وكأنكِ لم تفعليها من قبل، وإجابة على سؤالكِ بالطبع أنا لا اثق بكِ دجينة! كما أخبرتكِ أنا اتحملكِ فقط من أجل طفلي إذ أنى لا أستطيع التفريط بشيء ينتمي لي ...جزء مني بكل أسف أنتِ تحملينه الآن لذا أنا مُجبر على التعامل مع شخص لا ائتمنه متمثل فيكِ!"
اغرورقت عينيها بالدموع وهي تشعر بأنها تتلاشى شيئاً فشيئاً من قلب آصف وأنها فقدت كل نقاطها لديه دون رجعة... حتى أنه لم يحاول أن ينفي عن نفسه تهمة شرائها من والدها... وأنها لم تعد تعني له أكثر من امرأة أقام معها علاقة وكبلته بطفل يسكن أحشائها...لم تدرك أن صوتها كان مرتجف وهي تنازع وتعافر لتستخدم لغة عربية سليمة وهي تقول "وماذا عني؟ ألم أعد جزءاً منك كما تشدقّت وأخبرتني يوماً؟"
هز رأسه بأسف وإحباط وهو يقول ساخراً "العفو منكِ وكأنكِ سمحتي لي! هل أنتِ مختلة؟! لقد عبرتِ عن كرهكِ لي وعن تمردكِ على الانتماء إليّ بأكثر الطرق المهينة"
قالت سريعاً مندفعة وكأنها تنفي عن نفسها أي شعور قد يصله أن هناك جزءاً صغير منها مازال يريده، يرغبه، كاره للانفصال عنه "نعم بالطبع وماذا قد يخيل لعقلك غير هذا؟! سأذهب لبلدي فور وضعي لهذا الطفل مطالبة بالانفصال عنك... سأمحوك من حياتي كأنك لم تمر فيها أبداً"
أظلم وجهه وظهر غضب مكتوم وهو يقول بقسوة "سيكون هذا أذكى شيء تفعلينه لأني لا أنوي أبداً تعريف طفلي على امرأة مثلك أنانية ومتهورة ستُعرض كل دقيقة من حياته للخطر!"
"هذا يعني أنك ستربيه وحدك ليصبح نسخة أخرى همجية منكم أعتقد أنه لا يشرفني أية علاقة به!"
أدار آصف ظهره لها غير قادر أن يتعاطى مع الألم من كلامها المسموم عن مجرد جنين سكن أحشائها كان يجب أن تتمسك به وتحبه بالفطرة بالغريزة...أخيراً تماسك وقال بتمعن وهدوء "هل أخبركِ أحد أني قد أكون راهباً عزيزتي لأوقف حياتي بعدكِ؟ أو عاجزاً عن إيجاد امرأة متزنة كاملة تليق بي تحبني أنا وطفلي وتمنحني ما نريده ممحية ذكراكِ تماماً من حياتنا؟!"
لدقيقة كاملة ظلت تنظر لظهره المسترخي تماماً... وبغضب خالص وثورة أرادت أن تجلده بمزيد من الكلام المسموم ثم سرعان ما تحول الأمر لقهر ومزيج متداخل من الذعر والحرقة وهي تهتف به "لقد قُلت سابقاً ألا امرأة قبلي منحتها نفسك بالكامل ...فأنا الأولى لك كما أنت الأول والأوحد لي!"
مؤكد تقلباتها النفسية ستنتهي به فاقداً لعقله تماماً... فقط لو تعلم ما يكلفه ضبط نفسه معها فاللعب على الحبال لم تكن يوماً طريقته...حاول تقدير ما تعانيه من عدم اتزان ثم تأتي هرمونات الحمل فتزيدها اختلالاً نفسيّ ...
اعتدل مرة أخرى مواجهاً لها متأملاً لكل تفصيله منها يحفظها عن ظهر قلب ثم قال بهدوء سلس "أنا لم أقل أبداً أنكِ الوحيدة يا دجينة...بل عرفت قبلكِ الكثير والكثير جداً في الحقيقة... من تفوقكِ جمال وحنكة وثقافة ...نساء بحق قد يرغب أي رجل أن يربط نفسه بهن ...فالأمر وما فيه أنه كان لديّ دائما حواجز صارمة أقيمها لنفسي مانعها ومجاهدها ألا أنغرس في الخطيئة وألا افعل أمراً ينافي مبادئ وعادات مجتمعي ...ألا أقدم على فعل يهز عرش الرحمن فأنا كنت اخاف الله لا مجتمعكِ الاحمق ...لذا عندما أخبرتكِ أنكِ الأولى لي فقط كنت أعني الجانب الجسدي فقط !! وبعد طلاقي منكِ أمر طبيعي أن أسمح لنفسي بالارتباط بأخرى تناسب معايري الصحيحة هذه المرة!"
ظهر الضعف المعتاد على ملامحها اخيراً وهي تخبره بهشاشة "ولكنك ستظل الأوحد يا آصف"
لوهلة. لوهلة فقط كان عاجزاً عن استيعاب رسائلها الخفية... ما تحاول قوله!
لقد لمح عينيها الخضراوين يبرقان بعنف من بين دموعها وهي تخبره بتصلب "ولكن هذا لا يعني أني قد أسلم لك مرة اخرى وقد كشفت خبث روحك فأنا عرفتك على حقيقتك مجرد مخادع، كاذب كان يتربص بي كأفعوان سام التف حولي وخدرني بنعومته حتى استطاع أخيراً لدغي فنشر سمومه بي ومن أجل ماذا؟! فقط لتأمين المدللة ابنة أخته!"

ظللت عيناه غشاوة حمراء وهو يقترب منها ليجذبها إليه بعنف ويخبرها من بين أنفاسه الغاضبة "ما الذي تحاولين فعله؟ ما الذي تهدفين إليه باتهاماتكِ المستمرة؟ لقد أخبرتكِ أني تزوجتكِ لأنني أردتكِ...لأن جزءاً غبياً مني قد صدق تلك الطفولة المجروحة والمراهقة المكسورة والشابة التي وجدت نفسها بين فكي الرحى كي تباع في سوق النخاسة لمن يدفع أكثر...أحببتكِ لأني رغبت بكِ فتزوجتكِ لأمنحكِ ذاك الأمان الذي كنتِ تبحثين عنه بتخبط ثم تأتين الآن لاتهامي بالخداع؟!"
أطلقت شهقة قصيرة وهي تهتف فيه بحقد "كاذب...بل اشتريتني من نفس سوق النخاسة وهذا فقط لتبعدني عن جلاء...لتقطع الطريق عليه كلياً...لأن مدللتك تخشى أن يتركها ويفر هارباً كما فعل قبل سنوات!"
كان غاضباً...غاضباً بشدة فلم يقاوم نفسه أن ينحرها وهو يقول بتوحش "أعيدي نفسكِ لأرض الواقع من أنتِ لتنافسي آيتان؟ لتضعي نفسكِ في مقارنة معها؟ يبدو أنكِ نسيت مقداركِ الحقيقي فأنتِ مجرد سلعة غبية عديمة النفع حتى ذلك المتشرد جلاء لم يرضى بكِ...فترككِ بدون تردد أو مقدمات وعاد لامرأة حقيقة ...فتاة محترمة لا تسلم نفسها لأول غريب يخبرها بعض كلمات الغزل!"
رباه أما آن للألم أن يتوقف؟! أما هناك حل لجعل ذلك الطعن الغادر يعرف طريقاً أخر غير قلبها هي دوناً عن باقي البشر؟! لم تستطع أن تواجهه أكثر وأن ترى عينيه الداكنتين الذابحتين لأدميتها فنكست رأسها سريعاً امامه بانكسار وتهدلت كتفيها وبين يديه خارت روح قواها المجابهة...تراجعت خطوة للوراء مفلته نفسها منه وهي تقول بحرقه مصدومة "أنت لم تغازلني ابداً يا آصف بل ما كان بيننا شيء أسمى من أن يوصف وأرقى من أن يُذكر بكلمات، لقد ولجت إليّ ...إلى داخلي دون حواجز أو استئذان وأنا فقط سمحت لك بالمرور عبري علك تفهم صراع نفسي والذي قد عجزت أنا عن فهمه!"

أحنى رأسه نحوها يحدق في ملامحها المجروحة التي تعذبه فتجعله لا يفكر في شيء واحد إلا مد أنامله ماسحاً كل هذا الحزن الساكن في عينيها... شعر آصف بقلبه يخفق بين أضلعه ندماً تبعه اليأس وهي تعود لتهمس بضياع "علاقتنا لم تكن إلا وهماً لم يسبب لي إلا مزيداً من الإذلال"
وكما أتت بعاصفتها كانت تبتعد لتدخل إلى غرفتها بمزيد من خيبات الامل

....................................

    "لماذا سُميت بكنيسة الأسماك؟"
أخذ آصف بعض الربيان في معلقة الطبخ الخشبية وقدمه لفمها وأجابها ببساطة "فيسكيرك ...هذا اسمها منذ أن بنيت في عام ١٨٧٤ وكان الغرض منها تجربة إذا كان هيكل واحد يمكن أن يقف دون ركائز ويبدو أنها نجحت...لذا ببساطة شديدة هذا اسمها الحرفي الذي أطلقه عليها مُنشِئيها"
مالت برأسها تلتقط منه ما قدمه بوجنتين محمرتين وقالت متهربة من الحرج الذي تستشعره من تصرفاته العفوية معها "حسناً ولكن بصراحة لم أتوقع أن أراك في مكان كهذا"
فتحت ذراعيها مشيرة لمجموعة الحرفين والباعة الذين يترصصون بالأسماك المتنوعة على الجانب الأخر المقابل لهما ثم تابعت وهي تعود لتراقبه وهو يطهو بنفسه ما اختاره من أسماك بحرية متنوعة قبل أن ينتقلا للقناة المجاورة والتي يتواجد عندها طاولات عريضة بها ما يساعد على الطهي

"أنت تتصرف بعفوية كما الجميع هنا متنازلاً عن المطاعم الراقية والتصرفات المصقولة والتي عرفتها عنك خلال تلك الفترة البسيطة"
ابتسم آصف بهدوء وهو يضع لمساته الأخيرة على أطباقهما...ثم رفعهما بعد أن نظف مكانه بنفسه وقال بسلاسة "المكان يعتمد على الخدمة الذاتية وبما أنكِ فاشلة تماماً لم أجد حلاً إلا أن أخدمنا بنفسي"
قالت سريعاً بامتعاض "هناك مطعم غابرييل العلوي وهو مطعم يليق بك على فكرة وقد رفضت أن نذهب إليه"
تقدمها خطوتين فتبعته وعندما وصلا لمائدة صغيرة خشبيه مكسوة بمفرش حريرى ابيض ..و مطلة على المجرى المائي رص عليها ما بيده من أطباق ثم أجابها "هذا يدعى الصدمة...كيف لفتاة عفوية التصرفات مثلكِ لا تهتم بالمظاهر الاجتماعية الخادعة أن تتذمر من مجرد غداء بسيط أعددته لها بنفسي بل وتريد العشاء في مطعم فاخر؟!"
صاحت فيه وهي تشوح بذراعيها "هييييي أنت! لم أقُل ابداً أني أريد العشاء في مطعم فاخر ولكن اتعجب من تصرفك"
غمز آصف بعينه وهو يلتقط بأنامله بعفوية إحدى قطع السمك وحشرها في فمها مباشرة وهو يقول "لا تجعلي المظاهر تخدعكِ يا قطيطة ربما ما أريد إظهاره للناس من تصرفات أرستقراطية اكتسبتها بالفطرة ليست أبداً حقيقتي"
قالت بفضول وهي مازالت تمضغ الطعام "وما هي حقيقتك!"
لم يقدر أن يمنع نفسه من أن يعلق "أيا كانت حقيقتي أو وجهي الآخر مؤكد لا يعجبني أبداً حديثكِ وفمكِ ممتلئ"
لم تغضب وهي تقول بنبرة عادية "هكذا أفضل عُد لحقيقتك كدت ألا أعرفك"
التف ورائها ليسحب أحد المقاعد وهو يقول بنبرة متكلفه مقصودة "سيدتي أرجو أن تنال دعوتي استحسانكِ"

ضحكت من كل قلبها وهي تفهم مداعبته ثم قالت "سأخبرك بعد أن أتذوق طهوك بكل صراحة"
كان يجلس أمامها وهو يقول بنبرة رخيمة "لا تتعجبي من بعض ما قد ترينه مني ...يوماً ما أعدكِ أنكِ ستفهمين وتستطيعين موازنة حياتكِ مثلي"
قالت دجينة على الفور "العيش كشخصين متناقضين ليست موازنة بل خداع للناس والنفس!"
لن ينكر أنه معجب بفهمها لحديثه دون شرح ربما هذا أحد ما يجذبه لتلك الفتاة فأجابها بحكمة "إن الخداع يتوقف تحديداً على الفعل ...هل تلك الواجهة التي أظهرها لأحدهم تؤذيه؟! فالموازنة التي أقصدها أن اعيش في دائرة حياتي دون أن أؤذي أحداً أو افرض عليه تصرفاتي أو آرائي ...أن أمنحه مساحته الشخصية كما أطالب أنا بها."
"ولكن إرضاء الناس لا يعني أن تحبس نفسك فتهدرها وتجور عليها بما لا يشبه روحك"
أخذ آصف نفساً عميقاً قبل أن يقول بهدوء "إن كنا نتحدث عني أنا كحالة بحد ذاتها دعيني أخبركِ ...أنا من أردت رسم طريقي والنجاح بما أنا عليه وما ولدت به... فأنا شخص لا يجيد التعامل مع البرية ولا أحبذها كمذهب في حياتي ...قد أحن من وقت لأخر لتصرف عفوي للخروج من ذلك الشخص المصقول كما أشرتي سابقاً ولكن أبداً لن أستطع أن أتبعها كنهج أو فكر"
لا يعرف ما سر تبدل حالها وهي تقول بشحوب "هذا يوصلنا لشيءٍ واحد فقط أنا وأنت شخصين متناقضين ...لن نلتقي في طريق واحد أبداً"
سمح ليده أن تلتقط كفها على الفور وضغط على أناملها بتشدد وتمسك غير قابل للتنازل قائلا بقوة وحزم "ما كنا التقينا إن لم يكن مقدر لنا منذ بدء الخليقة طريقاً واحداً ورابطاً مقدس لن ينفصل ما حييت"

أصابعها المفرودة التوت لتلتف بقوة حول أنأمله وهي تقول برجاء، بضعف وخوف "هل تعدني بهذا؟"
سيطر آصف على ردة فعل جسده العنيفة وتوسلها الذي أتبع اعترافها بالحب يصفعه بقوة ...يجعله يهتز هزاً وأمنية وحيدة بداخله تشتعل وتحرقه ليت كان من حقه في تلك اللحظة أن يسحبها اليه ليحتضنها بقوة ممتزجاً فيها ومعها عله يسكن جزء من روحه داخل روحها فيمحي تلك الوحدة والضعف والمرارة التي تسكنها!
"أعدكِ طالما في صدري نفس يتردد أنا لن أتخلى عنكِ مهما طال جنونكِ وتخبطكِ"
موسيقى الناعمة انسابت في تلك اللحظة لفرقة موسيقية تسرح على طول القناة المائية وتدور بين الناس وهم يحضرون طعامهم بأنفسهم فتمنحهم بعض السكينة أثناء تناولهم الطعام ...تركت دجينة تشابك أيديهما وعينيها تتصارع بها مشاعر مختلطة بحنين لموسيقاها التي لم تمارسها منذ وقت.
حدق آصف في ملامحها التي أشرقت مشدوها فوجهها كان أكثر أملاً وعينيها الخضراوين أكثر حياة ...ملامحها الطفولية الناعمة أكثر حيوية وصوتها الناعم انساب إلى مسامعه حالماً كالموسيقى وهي تخبره "العفو منك...لن أستطع المقاومة؟!"
لم يعي تماماً عما تتحدث فراقبها دون رد رغبةً لمعرفة إلى أين تتجه فتوجهت لأحد أفراد الفرقة الموسيقية تهمس له بشيءٍ ما قابله الرجل بابتسامة مرحبة وهو يناولها "الكمان" الخاص به على الفور دون نقاش ...رجع آصف بظهره على المقعد يضحك بخفوت وهز رأسه علامة لليأس وهو يراقبها تمسح يدها في بنطالها من أثر الطعام دون اكتراث كعادتها ثم تناولتها على الفور ووضعت طرف الكمان تحت ذقنها وباقيه على كتفها ثم شرعت بأخذ العصاة الخاصة به ومررتها بهدوء ناعم كأنها تربت عليه وتهادنه وتطمئنه وتعرفه عليها...تغازله كأنه حبيب تبغي مرضاته قبل أن تنثر عشقها على أوتاره ثم بدأت في الامتزاج والذوبان ..جفنيها مغمضتين وشعرها الأسود الكثيف يتطاير مع كل ايماءه منها بجنون خالقاً هالة من الروحانية!!! تحفر وتحفر بموسيقاها المميزة والتي لم تتماثل أبداً مع باقي الفرقة الموسيقية ولكن دون نشاز أجبر كل الأفراد الباقية على التوقف ومراقبتها تلحن حتى وصلت عنان السماء ...لا لم يكن وحده الذي اعتدل ليقف بإجلال أمام متمردته التي خلقت حاله من الثورة والانبهار لكل من كان يتواجد في المكان ... رغم عينيه التي تعلقت بها فقط كان يستشعر الجميع الذين تركوا ما بيدهم لينظروا لتلك السلطانة التي غزت مشاعرهم عبر لحن موسيقي لم يستمع إليه من قبل ...تعزف وتعزف بلحن يحكي الكثير من الصراع بداخلها ...تارة يتدرج بلحن حزين يجلب الدمع لعين الجميع وتارة ينخفض ليخرج من بين أوتاره حكاية الألم وكأن تلك الآلة تموت وتنطفئ بين يديها غير قادرة على النجاة ثم تعلو وتعلو بجنون مرافق للحن متوحش جالباً لشعاع من النار ببركان ثار ليقذف حممه فتصهر كل من يحاول الاقتراب ثم وأخيراً لحن أخر خرج كأنه تعويذة سحر تَجُر كل من حولها لينحني لسلطانة تعرف كيف تغازل قلوب الجمع فيسلم لها دون حول له ولا قوة!!!
تعالى التصفيق من حوله فجعل قلبه يتراقص بين أضلعه رغم أنه حافظ على واجهته الرزينة وسيطر على جسده الذي يريد أن يهرع إليها يسحبها من وسط الجمع الذي حام حولها ويدفنها بعنف عميق جداً بداخله فارضاً حمايته وقيوده عليها!
فتحت عيناها بارتباك وكأن ما كانت تفعله بتلاعبها بمشاعر الجميع غير مقصود...راقبها متعاطفاً وهي تبتسم بارتباك تحاول الابتعاد...تتشبث بالكمان الذي حافظ على موضعه بين ذراعيها كأنها تحتمي فيه ...عندما اقترب آصف يشق الصفوف التي حامت حولها فاجأته بأن تشبثت بذراعه مما أجفله للحظات فمد يده الأخرى يجذبها نحوه مخلصها من الكمان ومنحه للعازف ثم شكره.
ففاجأته الفرقة بالعزف الفوري لنغمة شعبية شهيرة وأحدهم يغمز بعينيه ويصيح بالسويدية "احتضنها يا رجل ...إلهة آيديا تستحق رقصة؟!"

نظر إليها فلمح بعينيها الذعر وكأن الفكرة بحد ذاتها لم تكن مريحة على الإطلاق ...مما جعل شيئاً بداخله يريد المشاغبة ليكمل تلك الصورة البرية التي تخرج معها ومعها هي فقط ...جذبها معه خارج الدائرة فأصبحا على الرصيف المائي مباشرة ...مال اليها يخبرها بهمس خافت "امسحِ ذلك التشوش عن عينيكِ وعيشي بعض السلام معي وتذكري أنكِ من بدأتِ آيديا!"
عبست دجينة وهي تقول "لا يعجبني وصف الرجل لي"
قال آصف على الفور بصوت حار لم يقاومه "لقد وصف ما رأيناه جميعاً يا قطيطة!"
انزلق ساعده القوي يحتضن خَصرها ويده الأخرى امتزجت مع كفها لترفعها فوق رأسها ثم رفعها للأعلى قليلاً ليدور بها... معلناً بدء الرقصة فعادت دجينة لأغلاق جفنيها وهي تتبع أوامره دون مقاومة... فقط تعيش معه حالة من السكينة عبر رقصة على الفليون المسيطر على باقي الآلات الموسيقية... سلمت له دون قيد دون تفكير متناسية تماماً كل ما كانت تأخذه ضده وكل صراعها وتخوفها أنه مثلهم لن يتفهم حقيقتها وبراءتها التي حافظت عليها برغبة داخلية عميقة ألا تسلم أبداً نفسها لرجل إلا إن استطاع أن ينتزع منها فؤادها و آصف غانم رغم كل شيء فعل!؟
شعرت بِه يضعها لتلامس الأرض أخيراً... وقدميه التي تصدر دبكة متناغمة تجبرها لتفعل مثله... يلفها حول نفسها ...فتدور وتدور إلى أن يرتطم جسدها الصغير بصدره ... فيعود لاحتضانها بقوة كأنه أصبح عاجزاً عن مقاومة ضمها إليه وكأن كل الأسوار المنيعة التي وضعها كليهما لعدم الاقتراب أو التلامس ذابت تماماً... وكيف يمنع أحدهما نفسه من الاقتراب؟ من الشعور بالآخر بعد كل ما عشاه؟ بحق الله لقد هربت معه من الجميع رغم أنها كانت تخشاه وترهبه... وهو لم يقدم وعوداً بالحماية الكلامية ولكنها كانت تعرف أنه سيفديها بروحه وأنه أبداً لن يؤذيها"

والفكرة بحد ذاتها جعلتها ترفع رأسها لتنظر عينيها لعينيه مباشرة ويدها تلتف حول خَصره وقدميها تدبك أمام قدميه جذعها يميل للوراء ليطير شعرها حول ملامحها وتلتف أطرافها ملامسه ذراعه التي تحتضنها فتضرم نيران التملك على طول جسده...مال بجذعه نحوها وهو يقول بالعربية بصوت خشن من العاطفة الملتهبة "أنتِ نغمة شاذة محببه تخرج عن السلم الموسيقي لتفرض نفسها على أي مغرور ظن في نفسه الكمال يوماً وبدلاً من أن يطوعها هي من تعيد تشذيب روحه!
وفاق آصف من ذكراه ليعيش واقعه الحالي مستشعراً المرارة في حلقه، العجز أن يحتويها دون جلدها بالمزيد وتعذيبها بما قاله وقد دفعته هي دفعا ليفقد أعصابه ويؤذيها...تأوه وهو يسند جبهته على باب غرفتها... يستمع لها منذ وقت وهي تبكي وتبكى بحرقه فلم يقدر أن يحافظ على تلك الواجهة القاسية أكثر بل سرعان ما ذاب كل شيء وأصبح شيئاً واحداً يسيطر على عقله وهو محو الحزن عنها حتى لو كان الأمر يدفعه ليذل رجولته معها... لم يتردد مرة أخرى وهو يفتح الباب واندفع إلى الداخل فقد جلبه الحنان المخالط للوجع من أجلها وهو يراها تتمدد على الفراش وتدفن رأسها في الوسائد لتبكي دون توقف حتى شعر أنها ستفقد أنفاسها إن استمرت على تلك الحالة.
اشرف عليها بطوله يدفع أحدى يديه تحت قدها ليعدلها كي تواجهه... فتحت عينيها الخضراوين فيه وبرد فعل غريزي وكأنها اعتادت منذ الأذل كانت تندفع إلى صدره لتدفن نفسها هناك... تشبثت يديها بقميصه تلويه بين كفيها فرفعها آصف يحملها بين ذراعيه ليضمها أكثر إليه حتى لم يعد هناك مكان للمزيد... هدهدها كطفله العاصي الذي مهما اخطأ لن يستطع أن يستمر في القسوة عليه... همس بقهر وذقنه يستند على قمة رأسها "فقط لو تفهمين! لو تُقدرين معنى اعترافي المتكرر بحبكِ ما كنتِ أقدمتِ على كسري يا دجينة!"

لم ترد بل استمرت في إغراق صدره بدموعها المنسابة...فأغمض عينيه بقوة وهو يصدر أنيناً متألماً قبل أن يتراجع على الفراش فارداً نفسه عليه ومُوضعها فوق جذعه...لم يحرك تكورها فوقه بل كان مكافئاً تماماً بقبولها لمواساته...لدقائق طويلة ظلت على حرقتها بينما اكتفى هو بضمها إليه ويده تتحرك فوق رأسها لتنحدر مربته على ظهرها يهمس بكلمات مهدئة... حتى هدئ بكاؤها الحار أخيراً وتحول لشهقات ناعمة متقطعة.
أبعدها قليلاً عنه يمددها بجانبه دون أن يفلتها من حصاره ... نظر لوجهها المحمر من أثر البكاء وجفنيها المتورمين دفعت فؤاده للتضخم والاختناق بمشاعر كانت أكبر من أن يفسرها عندما قال بصوت أجش "أنا آسف على ما أسمعتكِ إياه!"
هزت رأسها هامسة "لا بأس أنت لم تقل إلا الحقيقة كعادتك دائماً "
لا لم تكن أبداً تلك الحقيقة التي يراها بها! بل إن طامته الكبرى أنه يفهم ويعرف أن علتها لم تكن ابداً بيدها...وأنها أطهر من عرفه من العربيات اللواتي يكبرن ببلاد الغرب دون رقابة قوية من الأهل فيأخذن مذهب الانحلال الغربي ومعيشتهم كحياة!
أجلى حنجرته مبتلعاً تلك الغصة التي تكورت في حلقه وهو يقول بصوت أجش "لم تكن الحقيقة...بل فقدت أعصابي فأذيتكِ"
ابتلعت ريقها وهي تقاوم غثيان كانت تجاهد كي لا يتمكن منها وقالت وهي تشرد بوجهها بعيداً عنه "لا بأس لقد أعتدت على تلك الاتهامات منك ومن غيرك...الغريب بالأمر أن جميعكم يضعني في صورة واحده لا يريد أبداً تصحيحها "
لم ينتبه لجمعها بل اعتدل سريعاً يجذبها لتجلس وهو يقول بقلق ملاحظ شحوبها "هل أنتِ بخير؟"
هزت رأسها بالرفض سريعاً غير قادرة على منع نفسها أكثر وسرعان ما انفجر ما كانت تكتمه مغرقة نفسها وملابسه...

تصلب جسدها عقب انتهائها غير قادرة أن ترفع رأسها به... متوقعة مزيداً من اشمئزازه نحوها ولكنه انحنى سريعاً يحتضن ظهرها من الخلف ويده تمسح على شعرها ليبعده عن وجهها... وهمس بحنان وتفهم "مشكلة صغيرة. سنحلها  "
همست بخزي "رباه! وكأن محاولة إذلالي لنفسي أمامك لن تتوقف...ما الذي أفعله؟!"
ارتكز آصف على ظهر السرير وهو يسحبها لتبتعد عن مكان الغثيان ثم وقف وهو يضعها على الأرض ليدفعها للتوجه للحمام قائلاً بهدوء "هذا طبيعي أنتِ لست المرأة الأولي ولن تكوني الأخيرة فالطبيبة أخبرتنا بالأمس ألا تتذكرين؟"
"اذكر أن كل حديثكم كان بالعربية وأنت رفضت أن تفسر لي أي شيء"
تمتم "دعيني أعالج تلك المشكلة وبعدها سأخبركِ ما تريدين إن كان مازال لديكِ أي اهتمام بهذا الطفل"
استندت دجينة على باب الحمام وهي تقول بتهكم متعب "لقد أردت الابتعاد عنك...هربت وكنت انتهيت منك وفقدت الأمل فيك...ورغم هذا حافظت على طفلي ولم أحاول التخلص منه وأنت تعلم سهولة هذا الأمر بأي مشفى مجاني في باريس ...وإن كان لديك أي ذرة ذكاء فستفسر هذا بأني أحب وأهتم بابني "
ضاقت عيناه وهو يقول بسئم "ليس هذا ما صرحتي به منذ قليل...على كل حال نظفي نفسكِ وبعدها سنناقش ما تريدين دون تبادل اتهامات هذه المرة" وأدار ظهره على الفور غير منتظر منها اجابة.
خلع ملابسه المتسخة أولاً ثم توجه لسريرها وأزاح جميع أغطيته ثم اختفى خارج الغرفة.

...............
ظلت دجينة لدقائق طويلة تحت الماء الجاري تسند رأسها على الجدار البارد بتعب وفكرة واحدة تدور بعقلها ما الذي تفعله هنا معه؟! بل ما الذي تريده ولما استسلمت بسهولة لكل أوامره ولم تعد لديها أية رغبة في الهروب معلله لنفسها أنها أرادت فقط حمايته من أجل طفلها ولكنها تعرف جيدا أنها ترغب أكثر من الحماية ... فروحها تهفو لأكثر من وعد بأمان لصغيرها...أغمضت عينيها ألماً وحديثه يتردد في أذنيها بصدى موجع ... سيأخذ طفلها ، سيمنح كل ما وجدته معه لامرأة أخرى راقية وهادئة حصلت على أبوين منحاها كل ما افتقدته هي يوماً...امرأة مستقرة عاطفياً غير ملوثه بتاريخ مخزي...لم تتشرد ولم تلجأ لكل يد امتدت إليها دون تفكير ممنية نفسها بأنها قد تجد عند تلك اليد ما لم تحصل عليه يوماً.
"ألم يقدم لكِ آصف عهوده ووعوده؟!"
واجهت نفسها بما كان وأجابتها بجرح عميق لم يشفى يوماً
"بل فعل ولكن بنفس طريقة والدكِ بيع وشراء انتقال من مالك لآخر... بماله يتحكم بكِ يخنقكِ...لسبب واحد فقط تغاضيتِ عنه بغباء -تأمين زوجة جلاء! لم يفهمها آصف كما اخبرها ولم يثق بها كفاية ليعرف أنها لم تطارد جلاء...لم يصدقها كفاية عندما أصر ليلة الزفاف أن يتأكد بنفسه من طهرها...أليس كل ما حدث بينهما تلك الليلة كان يدفع تلك الفكرة برأسها لقد كان أشبه بمهوس وهو يضع قبلاته فوق كل إنش منها وهو يعرضها لاختبار وراء اختبار ليطمئن من براءتها... مازال صوته العنيف يهدر في أذنيها وهو يأمرها أن تنظر لعينيه وهو يمتلكها وهو يدمغها به...لتعرف من رجلها لتطبع في عقلها ألا أحداً ملك برأتها إلاه ...لم يرحمها حتى وهو يشعر بتخبطها في عذرية أفكارها وذهولها الذي لم تستطع التحكم فيه كرد فعل عما كان يفعله بها"

"دجينة"

شهقت وهي ترتد للوراء محاولة ستر جسدها من نظراته...ولكنها لم تجد به إلا وجهاً جامداً متحكماً مسيطراً لا يفسر عنه أي شيء وهو يمد يده ليغلق الماء...ويضع على كتفيها مئزر الحمام وقال "لقد أطلتي قليلا"
هاجمته وهي تدفن يدها وتلملم الروب حولها مغلقه اياه بأصابع مرتعشة وقالت "هناك شيء يدعى الباب تستطيع أن تدق عليه لا أن تستبيح حرمتي هكذا"
يده تحركت على شعره الرطب وقد علمت منه أنه اغتسل هو الآخر في مكان ما ثم قال بنزق ساخر "هذا على أساس أنى لم أرى كل جزء منكِ سابقاً؟ بالله عليكِ أخبريني هل مازال لديكِ أي نفس للشجار والمجادلة؟
للغرابة راقبها تخفض وجهها تداري عنه ابتسامة شقت وجهها وبالتتابع جلبت لملامحه هو الآخر الاسترخاء ثم ابتسامة هادئة قال وهو يمد يده "هل تسمحين لي بالمساعدة؟!"
قالت بمشاكسة وقحة مما جلب له صدمة "إن لم تكن تنوي استغلال الأمر كعادتك وتحويله للقاء غرامي قد أفعل"
هل أصبح قاب قوسين من فقدانه لعقله؟!فهمس وهو يمد ساعديه يرفعها من خَصرها ليخبرها بحيرة "عن نفسي ليس لدي أية رغبات الآن ...ولكن إن كنت سمعتكِ تصفين ما بيننا أخيراً بأنه غرام فأنا أكثر من مرحب لتلبية ندائكِ"
امتعضت وهي تقول "هذا ما توقعته تماماً مستغل فرص...أنا لم اقصد هذا ...مازال ما تأخذه مني هو مقابل ما دفعته"
أحنى رأسه وهو يقول بهدوء "أنا بالفعل تعبت وأسلم لكِ الراية وأرفعها وأطالب بهدنة ألتقط بها أنفاسي لأستطيع اقتلاع عينيكِ المرة القادمة على وقاحتكِ"

قالت بخفوت "إن أطعمتني قد اتنازل وأمنحك إياها!"

انتهى
قراءة سعيدة

الجزء الثانى من فرشاة وحشية حيث تعيش القصص. اكتشف الآن