الخاتمة
نظرت دجينة حولها بنوع من الارتباك والتشوش وهي تراقبه يزيح أريكته الوثيرة جانباً لتستقر في أحد أركان غرفة المعيشة الواسعة... رفع وجهه مرة واحدة يخبرها بنبره صارمة "أجلسي هناك حتى أنتهي وأعود إليكِ"
لم تستطع أن تكبح فضولها وهي تقول بسرعة "ماذا تفعل ولما قلبت كيان المكان هكذا؟"
توجه آصف ناحية المدفئة الحجرية بتكاسل وهو يقول "بضع دقائق يا قطيطة وستعلمين"
جلست بحرص على مقعدها المفضل وهي تحيط بطنها المنتفخ بكلا كفيها ثم قالت بنوعٍ من الضيق "كُف عن مناداتي بهذا اللقب أنا أكرهه"
كانت يديّ آصف تعمل سريعاً على وضع بعض جذوع الشجر ليزيد من حرارة المكان ثم ما لبث أن اعتدل ليغلق الباب الزجاجي الصغير والعازل للنار المشتعلة
وقال بنبرة هادئة "بل تتمردين عليه كما كنتِ تدّعين رفض الكثير؟!"
لم ترد ولم تحاول حتى أن توجه عينيها مرة أخرى نحو عينيه بل ظلت تنظر للنار التي تتراقص من خلف الزجاج متأملة فخامة المنزل ككل مرة تفعل حينما تتواجد معه ويفرض هيمنة وجوده حولها... مدفئة حجرية من القرميد الاحمر الأثري يتوسط بنائها باب من الزجاج الحراري المقوي والعازل ثم يعلوها أرفف مصنوعة بطريقة حديثة كأنه خطط لها هو بنفسه لينثر فوقها بعضاً من الكتب في معظم المجالات... وبالطبع جهاز تلفاز حديث يعينها قليلاً على وحدتها... منزله بسيط رغم فخامته وكأنه صمم بحميمية ليسكنه هو ومن سوف تسكن قلبه وحياته كما أخبرها... بعد أن تبتعد هي؟!
خفق قلب دجينة بجنون وارتفع صوت أنين من حلقها... كأن مجرد الفكرة تطعنها ألاف المرات... كأن اتفاقهم لم يتم برضاها وشرطها؟! عندما غادرا مصر ليأتيا إلى هنا... وقد أصرت كردة فعل على ما حدث هناك أن تنفصل عنه كما كان مخططاً منذ بداية علاقتهما... ولكم كذبت.
شعرت بيده تبعد خصلات شعرها الكثيف وراء أذنيها ليدس أصابعه تحت ذقنها يرفعه نحوه وهو يقول بتعجب "ماذا بكِ؟ هل هناك شيء أزعجكِ ؟!"
فغرت شفتيها قليلاً وهي تنظر له بعينين خضراوين متوسعتين وغير مصدقتين لما يهمس به فمها "اكتشفت فجأة أني سأفتقد كل شيء هنا؟!"
أومأ آصف برأسه وهو يقاوم نفسه وقلبه بأن يحتويها بين ذراعيه... أن يضمها إلى قلبه ويهتف فيها مراراً وتكرار بأنه لن يسمح لها أبداً بالابتعاد أن تفقد أو تفتقد مرة أخرى!!! ولكنه قال بخشونة تخللها شعور بالاختناق "سيظل المكان دائماً ملجأكِ الخاص... أنا لا أرد سائلاً أبداً دجينة"
ابتلعت غصة في حلقها قبل أن تقول بنبرة مرتعشة "أنا أحب شكله الخارجي جداً وسط زهور الأدونيس التي تنعكس عليها أشعة الشمس لتصبح المنطقة المحيطة بلونٍ واحد"
هز رأسه وقال مجاريها "أنتِ وقعتِ في غرامه من أول مرة قبل عامٍ من الأن؟!"
قالت بنبرة غير واثقة "ما زلت أذكر عندما أتيت بي إلى هنا وعندما نهرتك وضعت المفتاح في يديّ بهدوء وانصرفت دون كلمة؟!"
ضحك وهو يهز رأسه بتفهم متذكراً ملامحها وقتها وجنونها الأهوج ثم ما لبث أن قال "في العادة لا أحب الجدال مع الحمقاوات"
ارتفع حاجبي دجينة وهي تقول بحيرة "كيف يصح ما تقول وأنا منذ أن رأيتك وأنت لا تكف عن مجادلتي؟"
تحركت يديه نحو انتفاخ بطنها الكبير ثم مسد على الصغيرة بهدوء حنون وقال بصوته الرخيم "أنا لم أجادل دجينة... معكِ أنا كنت أصحح صورة وأكمل طريق كنتِ تبحثين عن أوله ولكنكِ لم تستطيعي أن تعرفي أيهم الأنسب لكِ ولوضعكِ كأنثى عربية الهوية"
قالت بهدوء "وهذا قد فعلته أنتَ ...ولكني ما زلت أحتاج الكثير للتعلم؟!"
طبع قُبلة مفاجئة على بطنها جعلت كل جسدها ينتفض بردة فعل غريزية بينما ابتسم هو بأناقة أرستقراطية معتادة وقال بتلك النبرة الملكية التي تجعلها تهتز للأعماق "أنتِ أثبتِ أنكِ لا تحتاجين أحداً ...دائماً قوتكِ كانت بداخلكِ "
وقف مرة أخرى على قدميه وراقبته يتحرك نحو مكان الأريكة التي أزاحها جانباً في السابق وهو يفتح إزرار قميصه حتى أسفل خَصره بقليل ثم يتبعه بأن حل أكمامه يطويهم واحداً تلو الأخر ليكشف عن ساعدين قويين... خلع حذائه الأنيق ورماه جانباً..
تحرك نحو ستارة ضخمة مخملية الملمس من القماش الثقيل باللون الأسود المتداخل مع الأبيض... لطالما تسآلت دجينة عن سر وضعها وراء تلك الأريكة المماثلة للونها وببطء ازاحها آصف ليظهر من خلفها باباً ملوناً بالأسود اللامع... وقفت دجينة وهي تمتم بانبهار "رباااه... ما هذا ؟!"
أخذ آصف نفساً عميقاً قبل أن يلتفت إليها من خلف كتفه وقال "سري الصغير والذي لم يكتشفه أحد يا قطيطة؟!"
اجابته دجينة متشككة بتردد "وأنت تكشفه لي أنا؟!"
مد يده في دعوة أن تنضم إليه فلم تتردد وهي تتوجه ناحيته حتى جاورته فلف ذراعه نحو خَصرها بأريحية وقال بتلك النبرة الواثقة "ليس هناك مخلوقاً أحق منكِ في معرفته... كما أنكِ الوحيدة التي ستتفهمه؟!"
هزت رأسها موافقة وهي تبتلع ريقها بتوتر بضغط يزداد وسؤال يعصف بعقلها يتواطئ مع دقات قلبها التي تتعثر بلغط مجنون غير مستوي يخفق في بعض دقاته ويتعثر في بعض نبضاته... يخفق في ضخ الدم لأوردته "كيف يمكنها ترك هذا الرجل... كيف تستطيع الانفصال عنه كما أوهمت نفسها؟!"
رفع أصابعه يتلمس بها وجنتها الحارة ثم همس بنعومة "مستعدة؟!"
"بل متلهفة لأعرف سيد آصف غانم ماذا يخبئ"
إبتسم وهو يتركها وأمسك مقبضي الباب الجرار يسحبه على اتساعه وهو يقول "أخبئ أوتاراً موسيقية وعالماً من النسيان والانعزال عن العالم ...دنيا من الارتقاء وسمو المشاعر ...غذاء العقل والروح يا دجينة"
قفزت دجينة أمامه وهي ترفع وجهها لتستطع مقابلة وجهه الهادئ الباسم بأريحية لتقول باستنكار "أنت... أنت عازف بيانو مستحيلللللل"
أزاحها آصف برفق ليلف جسدها الصغير لتواجه الغرفة الموسيقية ثم مال يضع رأسه على كتفها وهو يقول ببطء "ولماذا مستحيل؟! الفن لم يقتصر يوماً على فقير أو غني... مثقف أو جاهل.. ثم أنا قد عزفت لكِ بالسابق في ليلتنا الغرامية... ألا..."
صمت فجأة فأدركت من توتر جسده أنه يتذكرليلتهم الأخيرة والتي اعتقدت أنها خسرت كل شيء بعدها..
أجابته ببساطة متجنبة إحساسه العميق بالذنب والذي ما زال لم يتخلص منه "أنت متكلف جداً في طريقة كلامك، مأكلك، ملبسك وكل شيء حولك يدور بدقة وثقة دون خلل... فكيف أصدق أنك مثلنا؟"
أخذ آصف نفساً عميقاً قبل أن يدفعها برفق أمامه وقال "إذاً دعيني أثبت لكِ بالرهان"
سحبها برقة ليجلسها على كرسي خشبي مكسو بطبقة مريحة من الإسفنج مبطنة بقماش أسود قطيفي ناعم له ظهر واسع مريح مماثل وأخبرها
"أريحي نفسكِ تماما لا نريد أن نرهقكِ"
لم تستطع أن تقاوم الإثارة التي تجتاح كل جزء منها وهي تقول بحماس وترقب "أنا بخير لا تقلق ولكن أرجو أن أستمتع ببعض من عزفك لقد افتقدت جزءاً من هويتي يا آصف منذ أن توقفت عن ممارسة الموسيقى!"
تركها آصف وتحرك نحو البيانو وجذب شيئاً ما من خلفه قبل أن يعود إليها ممسكاً بالحقيبة الجلدية المماثلة الشكل تماماً لما تحتويه بداخلها ...جلس على عُقبيه ووضع الحقيبة على ركبتيها وقال "لن أعزف وحدي أريد التشجيع بمشاركتكِ بلحنٍ واحد متناسق يا دجينة"
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقلب نظراتها بينه وبين آلتها الغالية وقالت باختناق "لقد ظننت بأني فقدته؟!"
وقف مرة أخرى يرتكز بكفيه على جانبي المقعد محاوطها قبل أن تلفحها انفاسه الحارة وهو يقول بصوتٍ مكتوم يقاومه لينسى ما فعلته نحوه وعاد يرده بقسوة الجهل نحوها "لقد نسيته يوم أن هربتِ مني... واحتفظت به من أجلكِ... كيف استطعتِ التفريط فيه؟ لقد منحتكِ إياه واضعاً قلبي بداخله"
صمتت ولم تجد ما تخبره به فأشاحت بوجهها بعيد عنه ثم ما لبثت أن قالت بصوتٍ خفيض "هل لديك خيال معين نحو اللحن؟!"
ابتعد ببطء ولم تفارق عينيه الداكنتين وجهها المتورد رغم تمرده المقاوم بينما هو يزيح كرسيه ويفتح الغلاف ليكشف عن أصابع البيانو وقال بصوت أجش متحشرج "لحن النسيان هل تعرفينه؟!"
أغمضت دجينة جفنيها فإنسابت الدموع فوق وجنتها ببطء ثم همست برقة مبتسمة باكية "نعم... هذا لحني المفضل منذ سبع سنوات مضت"
التفت إليها مبتسماً دون أن يرد بكلماتٍ... فالكلمات فقدت معناها في تلك اللحظة بينهما... شاهدها وهي تفتح الحقيبة وتخرج "الكمان" من موضعه مررت اناملها عليه برقة بشوق فضحه كل إنشٍ منها وكأنه جزء من روحها كان قد سُرق منها وعاد بتدفق من جرعات الأمل والحياة... لم تهتم بغلالات دمعها التي هبطت حتى شوّشت الرؤية وهي ترفعه برفق تضعه على كتفها وأناملها تلتف لتعانق الجزء الأخر من أوتاره ثم باليد الأخرى تناولت عصاه الخاصة به ثم وضعتها لتعانق أوتاره الأربعة برقة بحب برفق وتمهل... ثم مررتها بهدوء شديد وبدأت في العزف المتناغم... لم يتأخر آصف وهو يضع يديه على الأصابع الحساسة لتتابع عزف دجينة الهادئ في بادئ الأمر... كان يبتسم وهو يتذكر القواعد الفنية البسيطة بأن آلة الكمان من أرقى الآلات الوترية والتي لا تزاحمها أية آله موسيقية أخرى وقد اصبح للكمان السيادة على كل الآلات الوترية ما عدا البيانو والذي لم يستطع رغم كل شيء أن يُضعف من مكانتها أو يقل من سيادتها... فأصبح كليهما آلتان لا تتضاربان؟!
أغمضت دجينة عينيها ووترها المشدود يتصاعد بصخبٍ صارخ يتراقص على نغمة الكلمات... رأسها يميل يميناً ويساراً يرتفع وينخفض ناثراً خصلات شعرها المتمردة بجنون... ورغم أنامله التي تعزف بتسارع محاولاً أن يلحق بكلماته الهادرة التي تنساب بصمت من بين ألحانها لم تستطع عينيه أن تتوقف عن مراقبتها ولا أن يكف قلبه عن الخفق بقوة من أجلها...
"وتبقين حلماً يتحقق... بعد أن انهارت كل المسافات بيننا"
همسها آصف وهو يرى موهبة حقيقة أمامه وليس مجرد تائهة لا تعرف ما تريد بل كانت كل نغماتها الصارخة التي تتمرد لكسر الطوق للمطالبة بالحرية، بالإنسانية بحق تقرير المصير تمتزج مع موسيقاها التي تعزف وتحكيها ملامح وجهها وتتفاعل بكامل جسدها مع كل لحن... غزت قلبه بتحكمها الفريد، بأناملها التي تعانقت مع الأوتار الأربعة فلم يعد يفرق بينهم... بروحها التي كانت تأن بصمتٍ نازف... وقلبها الذي يصرخ بجنون متوحش... الأن فقط علم وصدق "كمان دجينة هو لغة روحها فكيف لا يدعها تُلحن؟!"
قيل عن لحن النسيان أنه يحفر السماء!! وجفني دجينه المغلقين ويدها التي تحتضن الأوتار وعصى الكمان ورأسها الذي يدور بتسارع ثم يتباطأ فجأة بوتيرة متمهلة ...لقد كانت فعلاً تحفر السماء... بالبكاء وبإخراج كل مأساتها... بشكوى حنينها وإهمالها، بضياعها، بيعها، باستغلالها وسلب حريتها من أهل لم يعرفوها أبسط أمور دينها وهويتها... كانت تتراقص بخفة فراشة على لحنٍ لا يشبهه عزف... بإحساس لم يشابهه إحساس بعالم صادق لا يكذب لا يُكفر به... بلحن يودع الماضي بخجل ويأمل في مستقبل أخر دون شعور اليأس؟! توقفت يديه مرغماً عن عزفه وهو يراها تمتزج مع آلاتها ...مشاعرها وإحاسيسها التي تخرج من قلبها جعلت فؤاده هو يأن... يتتبع كيف تضم أوتارها بحنان تحت رأسها كيف تحرك أوتاره بمشاعرها وليست أناملها... لقد كان يُؤْمِن دائماً أن للموسيقى صوت للحن كلمات تخرج مستترة من وراء كل تحكمٍ وها هي دجينة عبر موسيقاها تخرج كل ما عجز هو أن يصل إليه لقد أصبحت مكشوفة أمامه أخيراً دون حواجز أو تردد ،دون إغلاق على قلبها... قطيطته ومالكة قلبه الذي تمرد تريده تحتاجه... تحبه... ولكن مأساتها خوفها... أفكارها المخلوطة تجعلها تنأى بنفسها.. وتتمسك بجنونها السابق.
انتهت أخيراً وهي تنزل الكمان من على كتفها بهدوء وانسيابية... فتحت عينيها الجميلتين أخيراً نحوه مباشرة وقالت بنبرة متحشرجة "شكراً لك كنت أحتاجه؟!"
كان في عينيه انفعال من المستحيل أن تخطئه أبداً... هل أرخى حصونه أخيراً نحوها مرة أخرى؟!! مجرد الفكرة جعلت شعور الحاجة يتأجج داخلها يطالب صارخاً باحتواء لم تجربه من قبل إلا معه وبين ذراعيه ...بجعل عقلها يتطرف في تفكيره متذكرة كل لمسة من آصف كل ليلة لمسها فيها... كل خلجة منه وكل همسة ...كانت وكأن تلك الغشاوة انزاحت من على بصرها ببطء لتظهر الصورة الحقيقية أمامها بوضوح؟! ابتسمت وهي ترتجف فعلياً جراء تلك النظرة في عينيه... لكن جسدها تصلب حينما قال بهدوء "أرجو أن يكون كشف سري هذا طمأنك أن الطفلة ستكون بخير معي ولن أصيبها بضرر كما فعل والدكِ معكِ؟!"
ازدادت الرعدة في جسدها على الفور بينما يديها تضم الكمان على بطنها بتلقائية خفضت وجهها نحو جزئي روحها الغاليين وهي تقول بخفقة شعر بالألم فيها "هل تعتقد أنها ستحبني إن علمت بأني لم أستطع التضحية من أجلها والبقاء معك؟!"
استدار آصف نحو جهاز البيانو مرة أخرى يضع ساعده عليه وسند رأسه على كفه وهو يقول بنفسِ صعب أجش "لا أعرف ولا أستطيع وعدكِ بعكس مخاوفكِ... لكنكِ ما زلتِ تستطيعين البقاء؟!"
قالت بفظاظة رغم الغيرة الحارقة التي فضحتها نبرتها "وماذا عن زوجة أحلامك تلك المرأة بمواصفاتك القياسية والتي لا أملكها؟"
أسبل جفنيه وهو يتخيل مظهرها الصاخب المشرد والمهمل دائماً بملابس غير متناسقهة الألوان كذلك الفستان المهمل الذي ترتديه الأن وقال ببرود معاكس لصورتها في مخيلته "سنجد حلاً لبقائكِ ومقاييسي تلك... كما أن مغادرتكِ إياي لم تكن لهذا السبب"
تجهمت ملامحها وهي تقول صارخةً بتوتر متجنبة جملته الأخيرة وكأنها تستفزه تدفعه ليتوسلها البقاء "بالطبع وماذا أتوقع منك غير هذا؟! عربيّ غبيّ أنانيّ تريد الجمع بين اثنتان كالجواري وربما أربع"
هز كتفيه العريضتين وملامحه تبتسم دون أن يسمح لها بأن تراه ...لم يرد حتى وهو يسمع أنفاسها الحادة تخرج ملتهبة بنارية إن سمحت لها قد تحرقه... فقال مجاريها وكأن إخفاقه الأخير معها لم يحدث أبداً وكأنهما عادا لجدالهما الممتع أول الأمر
"هل انتهيتِ؟ ليس لي مزاج الليلة بعد أن استمتعت بلحنكِ أن أجادلكِ!"
عبارته البسيطة عادت لتطفئ نار غضبها تتغلب على لغط تمردها فقالت بتردد "هل أحببت لحني حقاً... هل رأيت أني أملك تلك الموهبة أم مثل ما قال هو مجرد خبط طفلة غبية لا تصلح لشيء؟"
أخذ آصف نفساً عميقاً قبل أن يستدير مرة أخرى نحوها يتأمل التشكك في عينيها وملامحها الرقيقة التي تعاني من ثقتها المهتزة المعتادة... رق قلبه كما صوته وقال "بل استمتعت بكل جزءٍ منها... لم أشعر بذلك الهدوء والرقي والسمو منذ زمن دجينة؟! أنتِ نغمات تتحدث وأنأمل تتراقص ومشاعر تتمرد لتكسر كل قيدٍ فُرض وسيُفرض... فراشة تتنقل بين كل وترٍ وأخر وكأنكِ تصنعين حديقة من زهور ألحانكِ الخاصة؟!"
تأوهت بصمت بينما يديها تسند الكمان على الأرض برفق مرغمة وكأن شيء يقيدها لتسير نحوه كانت تقف ببطء تتوجه لجلسته الأنيقة ودون مقدمات كانت تجلس على الأرض تمسك بكفه تضعها على ركبته ثم أمالت برأسها تريح وجنتها في راحة كفه؟!
في البداية كان مصدوماً وكأنه لم يتخيل أن يصدر يوماً تصرف مثل هذا من دجينة مرة أخرى "أنا لا أريد ترك طفلتي يا آصف ولا أريدك أن تتزوج من امرأة غيري"
أحس آصف بأن جسده يرتعد عندما انساب همسها إلى مسامعه... بأن الزمن يمنحه فرصة أخيرة كان ليدفع أي شيء... أي شيء ليحصل عليها... "أرجوك لا تتركني الليلة... سأموت قهراً وخجلاً إن رفضتني"
رفعت رأسها وهي تعتدل تجلس على ركبتيها بين ساقيه كفيها تستند على وركيه وجسدها الضئيل يتطاول لتلامس شفتيها فكه... لم يتمالك نفسه وأصابعه تلتف حول شعرها ووجه ينخفض نحو فمها مباشرة يضغط عليه برغبة وإجتياح بحاجة لم يعلم أنه يحملها نحوها... فقد سيطرته التي مارسها خلال تلك الأشهر الطويلة وجسده يتحرر من إرادته... يرتعد بإثارة بشغف بحاجة برية لأن تكون امرأته ملتحمه فيه ...هو يريدها... استنشق آصف بعمق ونشوة نفساً طويلاً صاخباً وهو يميل كله إليها حتى أصبح يواجهها على أرض الغرفة... جسدها الضئيل اصطدم بعنف على صلابة جسده ...يديها الناعمتين تتعلق بكتفيه بينما يديه تحتضنها إليه تعدل من وضعها ليسمح لقُبلاته أن تجتاحها! كلما تعمق معها شعر بجسدها يرتعد، بسيطرته تهرب، بجنونها يزداد، بحاجتها تصرخ وببرائتها تفضحها... تباً هو أكثر احتياجاً إليها مما كان يظن... "قطتي" همسها من بين شفتيها بحرارة لم يستطع أن يسيطر عليها... كانت صغيرة جداً حارة جداً ومغوية لقلبه وعقله جداً جداً... للحظات وربما دقائق أو حتى ساعات نسي نفسه تماماً ...نسي حملها ...وعده لنفسه بأن يتركها حتى توازن نفسها ...ألا يمسسها الا عندما تدرك بقائها معه باختيارها.. وتاه كليا بها وفيها... أطلق صوتا أشبه بالزئير وقد غابت حواسه في حاجة لم يدرك أنه كان يعاني منها لوقتٍ طويل فخرجت دون مقدمات عندما صرخت هي بحاجتها إليه! "لا تتركني" ثورة جسده لم تمهله للتعقل... لأخذ حذره والتمهل حتى لا يصدمها في جنون اجتياحه واحتياجه مددها على بعض الوسادات المنثورة بين البيانو وباب غرفته المخفية ويده تعمل ليرفع ثوبها محررها منه ملقي به بعشوائية لم تكن يوماً فيه؟! بينما نبراته الخشنة كانت تهدر فيها بغضبٍ محذر "أقسم دجينة إن ندمتِ بعدها أو جُن جنونكِ او استيقظت لأجد ذراعي خاليين منكِ.. لأفصل رأسكِ عن جسدكِ هذه المرة دون شفقة"
وبجنون تمردها ومشاعرها التي أثارها برغبة لم تعرف يوماً بتواجدها داخلها كانت تخبره بصدق وحرارة "لن أفعل أعدُك ...لم يعد بيننا أسرار ولن أختار أبداً الهروب بديل لمواجهة مصائبي!"
توقف للحظات مطلاً عليها برأسه كليهما أنفاسه تخرج لاهثة صاخبة عينيه تتعلق بعينيها الخضراوين شعرها الذي يتناثر على الوسادة بإهمال وكأنها صورة لحورية من حوريات شارع الشانزليزيه المعروضة!! جسدها الذي تناسق بجمال وبنعومة جعلت حرارة جسده تتصاعد كجمر ملتهب...
لم يستطع أن يبادلها المزيد من التوعد أو الكلمات... لم يملك القوة بعد أن بدأ معها بالفعل بما كان يكاد يموت شوقاً لأن يفعله... بل لم يكن في الكون شيء واحد قد يجبره أن يتوقف بعد أن اجتاحها بأكثر الطرق البرية والتي كان يحتفظ بها عميقاً بعيداً عن كل عين تحت ملابسه وتصرفاته الارستقراطية.
&&&&&
عندما انتهت فورته العاطفية عاد يجذبها ليحتضنها بين ذراعيه يديها تستريح على صدره ورأسها يتمرمغ بنعومة مهلكة في عنقه بينما تهمس "هل هذا يعني أننا عدنا؟"
لم يتمكن من كبح الابتسامة التي صدرت نابعةً من عاطفته الجامحة الممزوجة بالتسلية "ألم يتأخر سؤالكِ هذا قليلاً؟"
توقف تحركها بينما إجابته بدلاً أن تريحها أربكتها "ماذا تقصد... هل.. هل ما حدث كان رغم إرادتك أو أني أغويتك؟ ربما أنت لا تريدني حقاً وربما..."
لم تتمكن من إكمال حديثها عندما أرجع رأسه للوراء وهو ينفجر ضاحكاً مستمتعاً لعودتها للردود الساذجة..
عبست وهي تنتزع نفسها منه غاضبة فامسك بها وهو يقول من بين ضحكاته "حسناً... أقدم اعتذاري بوهيميتي الغاضبة"
اختفت ضحكته مرة واحدة بينما ينظر لوجهها المتجهم وهو يقول بجدية "نحن لم تفترق من الأساس لنعد... وأنتِ لم تجريني لشيء... لقد دفعتكِ فقط لما أريد!"
تلاحقت أنفاسها وهي تسأله مرتبكة "لقد اتفقنا في شقتك في مصر أنك ستتركني وأنا أخبرتك أني ما عدت أثق بك... أعني..."
سكون جزئي عاد يلفهم من جديد قبل أن ينسحب هو يجلس أمامها وقال بصوتٍ أجش "نحن لم نتحدث أبداً عما حدث هناك وأنا لم أعد أستطيع الكتمان"
هزت رأسها نفياً وهي تقول بصوت مختنق وكأن تذكيره إياها عاد يدفع إليها كل أحاسيس القهر الذي عاشتها هناك في زنزانة أبيها "لأني لا أريد الحديث في الأمر كلانا أخطأ... كلانا معترف بأنه يريد الأخر... فلماذا نزيد الدراما العربية دعنا نتخطى الأمر بهدوء"
هز رأسه متفهماً ولم يستسلم لمحاولتها الالتفاف هذه المرة لرغبتها الدائمة في التهرب ثم قال بهدوء "ذلك النوع من الأحاديث لا يعني دراما يا دجينة نحن نحتاج حقاً لكشف هذا الأمر قبل أن تأتي طفلتنا"
ردت هامسة بصوتٍ مرتجف "أنا لا ألومك... ربما كنت غاضبة، مقهورة وشعرت بالخيانة، بالخوف أن تكون صدقت كلماتي الكاذبة... بأنك.. بأنك ما أحببتني قط... بأنك لن تأتي لإنقاذي أبداً"
أغمض عينيه بقوة متذكراً حرقته آن ذاك ...شعور القهر عندما كشفت له آيتان الحقيقة المريرة... الصفعة القاسية التي ما زال يستشعرها فوق وجهه "أنتِ اخترتِ جلاء عني يا دجينة... لم تمنحيني ثقتكِ الكاملة... لم تصارحيني رغم مطالبتي إياكِ مراراً"
جلست أمامه تضم بطنها بذراعيها وكأنها تحاول أن تحمي جنينها ونفسها من نوبة الانيهار التي تخللت صوتها وهي تقول "لقد هددني بكشف قبح أفعالي أمامك... بسذاجتي وغبائي... أنت أنت عرفت عني ما يكفي من الصور المشوهة ولم أرد منحك المزيد لتكرهني... لأسقط من ناظريك"
تنهد وهو يقول بهدوء "أنتِ حكمتِ على كلينا بوجهة نظركِ المشوهة المعتادة... إذ أني لم أكن لأسلمكِ إليه قط أو أستمع إليه أبداً... أو حتى أصدقه... أنا كنت سأستمع للحقيقة منكِ فقط... إلى هذا الحد أنا كنت أثق بكِ"
هتفت فاقدة أعصابها "إذاً لماذا لم أجد ثقتي هذه عندما رميتني أسبوعاً كاملاً بين أنيابه... لما لم تأتي إليّ تدافع عن حقك بي... تكسر رأسه إن تطلب الأمرلتعيدني إليك؟ أنا كنت أنتظرك كل لحظة هناك يا آصف... كان لديّ الثقة أنك لن تصدق ذلك المسلسل الرخيص الذي قمت به... أنا أنا نزفت هناك حتى مات أملي في انتظارك"
كيف له أن يحافظ على ذرة تعقل أو تحكم ظنها في نفسه وهو ينظر لعينيها يراقب جسدها الذي يختض عائداً لألمه، لإنفعاله الذي قد يسبب لها أذى وهي بحالتها تلك لم يفكر قبل أن يسحبها إليه معيدها داخل صدره الذي بلغ شوقه مداه خلال الأسابيع الطويلة الطويلة جداً التي قضاها يفتقدها رغم أنها تعيش معه تحت سقفٍ واحد وتشاركه فراشاً واحداً دون أن يسمح لنفسه بأن يلمسها... محترماً تلك المساحة من الاتزان التي كانت تريدها "هشش... اهدأي حبيبتي"
قالت بقهر ويداها تخبطه على صدره بحرقة "لا تقل حبيبتي... لا تكرر مشاعر لم تكن صادقة نحوي"
أصابعه تخللت شعرها الناعم ويده الأخرى تشبثت بها مانعاً محاولتها الابتعاد "لا أصدق أنتِ تستحمين يومياً... تمشطين شعركِ دون أن أطلب... هذا حلمٌ أخر يتحقق!!"
فغرت دجينة فاها وهي تردد ببلاهة "ما.... ماذا؟!"
كتم ابتسامة أخرى متسلية دفعتها لتضربه بقبضتها مرة أخرى وهي تقول "أنت تحاول تشتيت تركيزي رغم أنك من طلبت ذلك النقاش!"
قال بصوتٍ أجش"لا أريد لك الأنفعال"
صمت ثم أخذ نفساً عميقاً أخر قبل أن يسحبها فوق حجره محتوياً لها بكل ما فيها بين ذراعيه... جسده يلامس جسدها مشكلا كل إنشٍ منها بداخله "أنا الأخر كنت أتألم يا دجينة... بالنهاية أنا مجرد بشر يتعذب يشعر باليأس بالفشل عندما يسمع الرفض والهروب من الفتاة الصغيرة التي أحب... المرأة التي تحمل جزءاً مني... لتلك الحبيبة التي قضت طوال الليل تخبره بوعود وعهود وتكرر عشقاً أسطورياً ناله منها أخيراً... ليستيقظ على فاجعة هروبها منه... بل وطلبها الطلاق راميةً كرهها الشديد على أذنيه..."
للحظات ظلت تنظر إليه تحاول أن تتفهم دفاعه عن نفسه... مبرره الذي جعله يخفق معها ثم قالت بتعاسة "أعرف... الأن أستطيع رؤية الأمر من جهتك... ولكن ذلك الألم في قلبي وتلك الغصة المريرة التي صنعتها بداخلي بخذلانك لي لا أستطيع تخطيها"
قال بحزم "وأنا الآخر أمتلك جرحاً مماثلاً منكِ ولكني أستطيع تخطيه من أجلكِ...من أجلنا!"
هتفت في وجهه بيأس "وأنا الأخرى أستطيع... لقد لقد أثبت لك للتو مقدمة نفسي وروحي... ما الذي تريده أكثر؟!"
سمعته يقول بصوته العميق المثخن بالعاطفة "ربما أن تعودي لتُحبيني... أن تمحي ذنبي هذا وإثمي في حقكِ... أن نتخطى سوياً أية ذكرى بشعة للماضي... أن تفتحي لي قلبكِ دون خوف مني... أن تجعليني وطنكِ وسكنكِ وأمانكِ الذي عشتِ تبحثين عنه"
أحست بالدموع تحرق عينيها بينما تجيبه بدون تفكير أو ترتيب "بل سأجعل منك شعاري للحرية.. نبراسي للهداية.. وعقيدتي التي لن أكفر بها أبداً!"
صوته بدأ يهتز وهو يحني رأسه و كفه يندفع نحو رأسها من الخلف غارزها في شعرها الكثيف يقربها منه أكثر وأكثر بينما عينيه تقع على شفتيها التي ما زالت تحمل أثار قُبلاته قبل ساعات... جسدها الذي لا يفصله شيء عنه ما زال محملاً برائحته مختلطة برائحة التفاح الذي تنبعث منها "هذا يعني أنكِ ستبقين أخيراً بإرادتكِ ولأنكِ ترغبين... لا عثرات مرة أخرى يا دجينة... لا غباء منكِ لا حجج ومبررات سخيفة... أنتِ ستكونين زوجتي وأم ابنتي ،لا أم أبنائي... أريد الكثير الكثير منكِ أنتِ ولا أقبل بامرأة سواكِ يوماً!"
همست "هل هذا وعد جديد غير قابل للخذلان آصف"
رد دون تردد "نعم... وما يجب أن تعرفيه أني أحبك... أحبك بكل المعاني التي تحملها هذه الكلمة... أحبك وسأقضي ما تبقى من عمري محاولاً إسعادكِ... معوضكِ عن كل لحظة قضيتها شاردة هاربة لا تحملين هوية ولا تعرفين وطناً"
ارتجفت.. ارتجفت حتى العمق... ليس ألماً هذه المرة بل عشقاً حباً وسكينة وهي تهمس "ولكنك فعلت... إذ أنك وحدك هويتي ووطني يا آصف"
عندها فقط لم يجد آصف للكلام معنى... كفيه الكبيرتين حاوطت وجهها برقه متخللاً شعرها الذي انسدل من حوله ثم انحنى دون تردد وقبلها بينما أغمضت هي عينيها مسلمة لعاطفته العميقة... مؤمنة أنها وجدت المرسى أخيراً.
&&&&&&&&&&&
"الحب ليس شيئاً مادي يُكتسب... بل يولد معنا ويسكن بداخلنا وفقط يحتاج للشخص الصحيح ليأتي ويوقظه"
في المسرح الفني لمدينة جوتبرغ لم يقبل أن يجلس في الصفوف الأولى مع المتفرجين... بل كان يقف هناك بجانب ستار المسرح... يرتدي بذلته السوداء الأنيقة يعلوها معطف صوفي أسود ويلف حول عنقه شالاً من نفس اللون... كان صورة حية لأناقة ورقي فطري... لا يبذل جهداً لإظهاره.
فناقض الصور البوهيمية الجمالية بشكل أخاذ لامرأته التي ترتدي فستان فضفاض طويل يصل حتى كاحليها مبهرج الألوان... مناقضة للفرقة الموسيقية الفخمة التي تعزف ورائها... لقد فعل شيئاً جيداً معها شيئا يتفاخر به لنفسه... ولم يبدي الندم أبداً على تلك الفرصة التي سعى لها بكل قوته كهدية أخرى يقدمها لها لقبولها البقاء داخل قيوده التي رحبت بها بكل ما يعتمل في صدرها من عشق تجاهه.
لم يستطع في تلك اللحظة تفسير إحساسه كعادته معها بينما يأمر مايسترو الأوركسترا فرقتة الموسيقية بالتوقف سامحاً لتلك البوهيمية والمعجزة الفنية أن تسحرهم... لقد كانت صورة حية للسلام ،للحرية... لجميع الأصوات النسائية التي تحارب من أجل امتلاك حق المصير... منادية بآدميتها... عينيها مغمضتين بينما عيناه تبرقان بالمشاعر التي تنتمي إليها وحدها... أناملها تلتف حول عصى الكمان مطلقه ألحانه بينما أنامله تحترق للمسها... ذراعها يحمل بكل حنان العالم آلتها الموسيقية بينما ذراعيه يحترقان يحاربانه علهما يصلان إليها وطفلتهما التي تتكور بداخلها وقد أوشكت على الخروج... جاعلة كل من ينظر إليها يشده انبهار وعينيه تتوسع بالدهشة.
لقد كانت تلمس بالكمان وتراً حساساً بداخل كل فرد يستمع إليها... تلحن وتحفز الكون من حولهم بنغمة آسره لا فكاك منها... غامضة مثيرة وفي الوقت ذاته واضحة وضوح الشمس... نغمات تطلقها لتنقل من يستمع أليها إلى عالمٍ أخر خارج الحد الزمني... ليبدأ فقط القلب بالعد كاتماً صرخة تريد أن تخرج مخترقة حدود الكون... لقد كان ببساطة يرتجف تأثراً... هل من المنطق أن تتحول النغمات الصوتية لشيءٍ ملموس عبقري يقيد الإنسان بسحر... سحر لا فكاك منه أبداً... لقد أصابت كل من استمع إليها بالابتهاج بالصفاء... بالصرخات ...وحتى ببكاء حاد للبعض منهم"
&&&&&&
عند انتهاء مقطوعتها لم تستطع أن تتبين هل دموعها التي تنزل مدراراً دموع الابتهاج... دموع النصر والنجاح... أم دموع الارتباك والخجل الشديد الذي أسرها فور رؤيتها جموع الناس التي وقفت تصفق لها بحرارة هاتفين بكلمات سويدية بمدى العبقرية والموهبة... حتى الفرقة الموسيقية خلفها اشتركت في هذا التصفيق الحار... ولكن عينيها لم ترى كل هذا بل كانت تبحث عنه وحده.
هي في تلك اللحظة تريد وطنها المتمثل فيه... أن يحتويها بقوة... تحمد الله فقط أن مايسترو الفرقة يفهم تخبطها والذي منحها هذا الشرف... كما فهمت عندما أخضعها للتجربة أكثر من مرة أنه يملك علاقة ودية بآصف... آصف غانم رجلها حبيبها، صديقها وأبيها حتى قبل أن يكون والداً لطفلتها... غمز الرجل بعينيه مشيراً لها نحو الباب خلف الستار... فلم تتردد وهي تحتضن الكمان خاصتها وتهرول ناحيته متجاوزة حتى حملها الثقيل بطفلتها...
كان يوشك على الخروج بالفعل من باب المسرح متجاوزاً بعض درجات السلم الرخامية فصرخت بكل ما يحمله قلبها من اضطراب واضعة كل توسلها الصامت أن يعود ليحتويها "آصف... كيف تجرؤ أن تتركني؟!"
التفت إليها متسمراً في مكانه بينما كل ملامحه تحمل الفخر والحب الذي لم يعد فؤادها يتسع استيعابه.. .اندفعت نحوه ملقية نفسها... واثقة تماماً أنه سيتلقاها... وقد فعل... ضمته بتشدد... فضمها هو أقوى وأقوى "أين كنت ستذهب وتتركني؟"
همس من فوق رأسها الذي كان يطبع عليه قُبلاته "أردت منحكِ المساحة لتحتفلي بنجاحكِ الذي حققتيه وحدكِ"
لم ترفع رأسها من على صدره الذي دفنت نفسها فيه وهي تهمس "لا طعم لشيء بدونك... لا تتركني أبدا أبداً... أنا ألزمك بكل وعد أطلقته لي"
"ربما التزم عندما تكررين تلك الكلمة السحرية لي"
رفعت عينيها ليرى ربيعه الذي ازدهر فيهما بعد صقيع الجليد وحرب الخريف... وهمست بصدق وببساطة "أحبك... لطالما حبك كان يسكن بداخلي منذ مولديّ وكان يقبع هناك ينتظرك لتأتي لإخراجه"
&&&&&&&&&&&&&
بعد شهرين
كانت تحرك وركيها بصعوبة لليسار واليمين بينما ضحكتها تتعالى وهي تتراقص على نغمات تجبر جسدها الانثوي على القيام بتلك الحركات البهلوانية ليس رقصاً احترافياً ولكن شيء يعبر عن كم السعادة التي أصبحت تغمرها ...سعادة ما كانت تتخيل يوماً أن تعيشها ...سعادة وراحة نفسية كانت تخيفها ..إذ أنها لم تتعود أبدا على كل هذا المقدار من الفرح والأمان والاطمئنان كما تعيشها مع زوجها ..كم حققتها هي لنفسها وباختيارها الكامل.. لقد عرض عليها ماسيترو الفرقة الموسيقية التدريب والعمل معهم وهي ببساطة من رفضت رغم منح آصف لها الدعم وحتى التشجيع ..لقد أخبرها يومها أنها طالما تلتزم بشرائع مذهبها وإيمانها الذي منحها السكينة هو ليس لديه مانع ولكن هي من تعترض.. والسبب الوحيد صغيرتها التي أوشكت على الخروج ..ضمت بطنها العاري الذي يبرز من تحت قميصها القصير الذي يغطي جزئها العلوي.. وبنطالها الواسع ذو الخصر الهابط ..ثم همست "لا أريد لأي أمر أن يعطلني عن تواصلي معكِ واهتمامي بكِ ..حلمي يمكنه الانتظار ..أما موسيقاي سننميها أنا وأنتِ سوياً .."
"وأين مكاني أنا من كل هذه الخطط؟"
توقفت رقصاتها بينما تستدير بين ذراعيه التي حاوطتها وبنعومة قطة ..تسرق قلبه وتثق في امتلاكها روحه كانت تقول "يمكننا أن نجد لك مكان بيننا ..إن أردت البقاء معي!"
عبس وهو يقول بجفاء "ما معنى هذا؟!"
قالت ضاحكة "اختبار آخر لحبك لي ..أو ربما استفزاز بغرض المزيد من الاعتراف "
"إذن لن تحصلي عليه"
تجهمت "لماذا!"
قال ببساطة مغيظة "لأنكِ تتلاعبين بغير إنصاف ..كما أني مثلكِ لا أحب الإجبار!"
تجهم وجهها بشدة وعقدت حاجبيها بغرابة وكأنها تستنكر شيء ما ..كفيها استندت على ساعديه تزيحه عنها وهي تقول من بين أسنانها "أعتقد أني لن أجادلك "
قال بقلق ملاحظ تغير هيئتها "ماذا هناك؟"
اغرورقت عينيها بالدموع والألم يتسارع بوتيرة فائقة وهي تقول "أعتقد أن كلام الطبيبة صحيح أنا ألد"
&&&&&
بعد عدة ساعات
"دعيني أذهب بكِ إلى المشفى أرجوكِ"
قالت من بين بكائها العنيف بينما تبعد يد الممرضة التي تمسح عن جبينها حبيبات العرق "لا لقد اتفقنا سألدها بطريقتي.."
كان متوتر كما لم تراه أبداً من قبل وهو يميل نحوها وقال "أنتِ تتألمين فوق ما توقعنا بحق الله دجينة.. استمعي لي"
أمسكت بيده بشدة تقول من بين أسنانها متحاملة على الألم الذي تشعر بها يشطرها ويحطمها كأنها ألواح من زجاج "لا سألد ابنتي بالطريقة الطبيعية دون تدخل طبي ودون مسكنات يجب أن أشعر بها ...أنا أحتاج لمزيد من الارتباط لمزيد من طعم الألم حتى أتذكره دائماً ..أرجوك أحتاج لدعمك لا خوفك!"
أنامله تخللت شعره الكثيف بعصبية بينما يرفع عينيها للطبيبة التي هزت كتفيها وهي تقول بالسويدية "لقد فعلت هذا عدة مرات.. لا تخف ستكون بخير!"
ابتلع آصف ريقه بينما يعود ينظر إلى الحوض البلاستيكي المخصص للولادة والذي كانوا قد جهزوه منذ شهر أو أكثر.. بعد طلبها الملح أن تشع ابنتهم بتلك الطريقة البوهيمية المجنونة ..ورغم استحسانه للأمر وتفهمه أسبابها ولكنه الآن بينما يراقبها تتألم وتصرخ عذاباً ..بينما جسدها يتمدد في الماء داخل ذلك الحوض، يشعر بالرعب وكم المخاطرة التي يقدم عليها.
جسده العلوي كان يسند على حافة الحوض بينما هو يحتضنها من أسفل كتفيها ليساعدها على الاستقامة مدت أناملها تقبض على ساعديه بشدة وهي تصرخ بعذاب "آصف، هذا مؤلم افعل شيئا لا أستطيع "
كان يشعر بالعجز حقاً إذ أنه الأمر الوحيد الذي يجب أن تخوضه متحملة الألم كاملاً وحدها، فكيف له أن يمنحها عون أو يمنعه كما تطلب..."
"امنحيها شيئاً!" قالها صارخاً.
فردت الطبيبة "لا أستطيع.. أنا هنا فقط لمتابعة عملية الولادة والتدخل وقت الطوارئ ..هي من طلبت هذا أتذكر!!"
"تباً ..لجنونكِ دجينة" قالها بالضعف بالعجز المختلط بالرعب..
لتزيد جنونه ضحكت من بين دموع الألم بينما تقول "فات أوان الندم أو التراجع.. قل ما تشاء!"
زمجر بخشونة بينما ينفضها بعيداً عنه يستوي سريعاً على ركبتيه "آصف" قالتها باستعطاف وصوتها بكائها يزداد تعثراً "أنتَ لن تتركني"!
خلع آصف قميصه ثم رفع ساقه ودخل إلى الحوض يرفع جسدها ثم جلس خلفها ذراعيه حاوطت جسدها جيداً وركبتيه احتوت ركبتيها ساقيه المفرودتين كانت تغطيان ساقيها كلياً بينما يهمس بتحشرج جانب أذنها "تباً لكِ ..ولانعدام ثقتكِ يا لغط القلب"
كانت أنفاسها تتسارع وهي تتمسك بذراعيه التي تحتويها كليا بصدره الصلب الذي منح ظهرها السند المريح والحماية والأمان "أنتَ نبض قلبي آصف ..بل أنا أثق فيك أكثر من نفسي"
دقائق طويلة مرت بعدها بينما صراخها الذي يشتد فتطلقه متألم مذعور فيحتويه داخل صدره ضامها اليه اكثر فأكثر..
أظافرها تحفر ذراعيه فيقدمها لها بكل نفس راضية ربما يشعر ولو بجزء يسير من ألمها.. وجهها يلتفت تدفنه في صدره أسنانها تنغرس هناك مطلقة أناتها ..أنفاسها تتلاحق حتى تكاد تفقدها فيحاول هو رغم رعب الموقف أن يمسد على قلبها مدفئه ماسح على صدرها ربما يمنح رئتيها السكينة لتلتقط أنفاسها...
"أنا معكِ.. أشعر بكِ حبيبتي" يهمسها ربما تجد صدى فتمحنها قوة فتصرخ هي من بين أوجاعها "أنا احبك ..وأحب طفلتي"
كانت كل خلية في جسده مشدودة متوترة بينما يضغط على بطنها بلطف كما أخبرته الطبيبة "جيد ..كنت أنتظر أن تلقي كرهكِ في وجهي"
"ولماذا قد أكرهك وأنا على وشك الإنجاب منك"
قال بحيرة "هذا ما أعرف أن كل النساء تقوم به أثناء الولادة"
قالت من بين أنفاسها "تلك حماقة وتناقد.. كيف أكرهك وأنا آتي بطفلك للحياة ..أليس هذا أكبر دليل للحب؟!"
"ليس دائماً هناك نساء تأتي بأطفال لمجرد إكمال المسيرة"!
"مهلا للحظة.. هل نقوم بالنقاش بهذا بالفعل والآن"
ضحكت بينما تطلق صرخة الألم من داخل قلبها الذي كان يقفز حرفيا من قفصها الصدري "هذا جيد لقد قام بالهائك ..أشعر أنك من تتألم يا آصف وليس انا.. أاااااااااااه"
ومع خروج تألمها الأخير كانت صرخة صغيرته لبرهة قبل أن تسقط في الماء الذي يرقد فيه كلا أبويها..
جسد دجينة في تلك للحظة ارتمى كليا.. صراختها تخرج متحشرجة.. ألقت بكل حملها على صدره بينما هو أزاحها قليلاً وبسرعة على أحد جانبيه ثم مال يلتقط جسد صغيرته برهبة برعب ومشاعر مختلطة لم يستطع تفسيرها ..كان جسده كله يختض كفيه ترتعشان يقربها منه ببطء وتمهل وكأنه مشهد تصويري حتى اعتدل جسده بالكامل وأصبحت صغيرته تستلقي على صدر أمها التي رفعت ذراعيها بوهن تضمها اليها.. ثم انفجرت في بكاء أعنف وأشد مما كانت تشعر به منذ ساعات..
حاوطهم آصف أخيراً بين ذراعيه جاعلها تشعر بجنتها داخل جنان حنانه وقلبه.. شفتيه تبتسم فمه يطبع قبلات عميقة فوق رأس حبيبته ..بينما عيناه لم تفارق أبداً وجه صغيرته..
&&&&&&&&&
بعد ثلاث سنوات
"ماذا تفعل بابا؟"
قال بصبر"أُصلّي"
"لماذا؟"
سحبها لتجلس على ركبتيه بعد أن أنهى صلاته للتو "لأني أحتاج أن أكون دائماً بين يديه وصلتي به لا تنقطع"
بفضولها المعتاد الذي يبرق من عينيها الكبيرتين "من هو بابا؟"
"رب العالمين... من خلقني وخلقكِ... ونظم الكون أجمع"
"وكيف فعل هذا؟"
عقد آصف حاجبيه بشدة قبل أن يقول بالعربية "ألا تتفقين معي بأنكِ ثرثارة قليلاً وفضولية بالنسبة لعمركِ"
ضيقت ما بين عينيها ثم قالت بتمرد لم يستعجبه "لا أفهم... هل تسخر مني بابا؟"
الأن توسعت عينيه ذهولاً وصدمة ثم انفجر ضاحكاً... متبيناً سر الكلمة الجديدة التي التقطتها ابنته... إذ لا تملك أمها غيرها عندما يعجز قاموسها اللغوي عن إسعافها بإجابة ذكية خلال حواراتهم.
كانت ما زالت تنظر له بتلك الطريقة الفضولية الغير متنازلة وكأنها تنتظر منه توضيحاً كما يفعل منذ أن كان عمرها مجرد أشهر... ورغم سخرية الجميع مما يفعل هو كان واثقاً تماماً ومؤمناً بمد جسور الحوار مع ابنته منذ نعومة أظافرها... ولا ينوي تغيير هذا أبداً.
"أين ماما (فليون)؟"
أشارت بكفها الصغير المدبب نحو الخارج "هناك"
وقف مرة واحدة برشاقة حاملاً صغيرته فوق كتفه يدغدها مداعباً وهو يقول مرحاً "وأنتِ لماذا لا تبقين معها وتأتين لإزعاجي؟"
ضحكتها الطفولية انطلقت بينما تنطق ببساطة منطق أمها "لأني أحبك بابا"
خرج من باب المنزل أخيراً ووجدها هناك تجلس بين زهور "الادونيس" وككل مرة يتسمر سحراً أمام عزفها الأخاذ... تسلبه عقله تتلاعب بقلبه... تمنحه كل سكينة بحثت عنها يوماً ولم تبخل أن تشاركه فيها... أنزل صغيرته (فليون)
التي توجهت على الفور نحو بيت صغير خشبي يرقد به كلبها الصغير الذي أتى به لها كهدية في عيد ميلادها الأول.. بينما ألحان أمها تلفهم لفاً بنغمة صافية سعيدة... تجلب الاستقرار العاطفي والراحة النفسية... جلس آصف مستوياً على ساقيه يجذب رأسها بين يديه يطبع قُبلة على جبهتها... ثم همس "أحبك"
ابتسمت شفتيها بجمال مانحة إياه عهدها وقلبها مسلمة إياه كل ما كانت تخشاه يوما عبر كلمة واحدة "أحبك"
اخفضت الكمان على الفور تضعه بجانبها.. ثم همست "هل يمكنك أن تقرأ لي كما وعدت!"
انخفض يتمدد بجانبها ثم جذبها ليمددها على ذراعه مطمئن للسور العالي الذي يحيط المنزل فلا يكشف نومتها تلك.. " كنت أريد أن أئمكِ في الصلاة اليوم لما لم تلحقيني!"
قالت بتبرم "أنت من تأخرت فسبقتك أنا ..وأيضا لأتهرب من (فليون) أصبحت فضولية وتسأل كثيراً وأنا لم أحصد رصيد جيد بعد لأجيبها"!
"فترسلينها لي" قال مستنكرا
انكمشت بين ذراعه وجذعه وهي تقول ضاحكة "أنت أفضل معلم حصلت عليه.."
أنامله داعبت خصلاتها بحنان بينما يقول بنبرة رخيمة "وأنت أفضل امرأة على وجه الأرض ومن حسن حظي أني حصلت عليك كزوجة لي"
عينيها كانت تنضحان بالراحة والسعادة وجهها مشرق الملامح وهي تقول "بل أنا من حصلت على كل شيء مع رجل مستعد أن يهز الدنيا وما فيها فقط ليمنحني السكينة"
"بل لأنه يحبكِ، ومازال قلبه ينبض بعشقكِ كأني أراكِ لأول مرة"!
"أقرأ لي"
قدمت كتاباً فالتقطه منها عارف تماما ما تطوق لسماعه وترغب في نقاشه ما زالت دجينة تتلمس طريقها تتعلم وتجاهد لتصل لمرساها.. تخطو ببطء ولكن خطوات منتظمة حثيثة ومتمهلة نحو هدفها ..الرضى الكامل نحو نفسها وعلاقتها الفريدة التي صنعتها بينها وبين خالقها!
تعالت ضحكات دجينة بينما هز هو رأسه يأساً وشفتيه تبتسم بينما عفريتته الصغيرة تندفع بقوة نحوهم تلقي جسدها الصغير لتندس بينهما "أحبكما عندما تتشاجران"
وبينما ينظر لعائلته الدافئة الصغيرة... داخله كان يبتهل إلى الله حمداً وشكراً.
وامتناناً واحداً يحمله في قلبه لمدرسة جلاء الوحشية التي منحته أكثر ما كان يحلم يوماً.
&&&&&&&&&&&&
في مكان آخر وحكاية أخيرة أخرى...
أنت تقرأ
الجزء الثانى من فرشاة وحشية
Romanceفتاة عربية تربت فى فرنسا مشردة ضائعة وجدها تعيش فى منزل رجل دون رابط شرعى او حتى اجتماعى فكيف يكون الصدام بينها وبين رجل أرستقراطي متدين لا يقبل الأخطاء ولا يصفح عن المنحلين ...