بهتت ملامح دجينة من دخولها المباشر إذ لم تتوقع مواجهة مباشرة معها...قالت دجينة ببرود مسيطرة على أعصابها "جيد عدم التفافكِ إذ أني أنا الأخرى أكره الإلتفاف أو تصنع ود زائف...ولكن هذا يوصلنا لأكرر سؤالي الغير منطوق ما الذي تريدينه مني؟"
تراجعت آيتان على ظهر كرسيها تأخذ نفساً عميقاً قبل أن تقول بهدوء"معرفتكِ ...أنتِ تحصلين على دعم أكثر رجلين مهمين في حياتي ...أحدهم كان مستعداً لرمي نفسه في النار التي هرب منها مضحياً بكل ما آمن به في حياته وعاد لقيود يكرهها...والآخر؟ حسناً ما الوصف المناسب؟ مستعد لتقديم كل حياته فقط لتظلي بجانبه"
هزت دجينة كتفيها وهي تقول "أنتِ تبالغين في نظرتكِ قليلاً...رغم ثقتي واحترامي لما أقدم عليه جلاء ولكن عندما دفعته ليأتي إليكِ كنت على يقين أنه يأخذني حجة ومبرر لنفسه للعودة إليكِ...أما عن آصف أنا لن أناقش علاقته بي معكِ"؟!
"دفعتيه"؟!رفعت آيتان حاجبيها باستنكار قبل أن تكمل بجفاء "على حد علمي أنكما اتفقتما على الزواج...وحتى عودته وزواجه مني لم يمنعكِ من مطالبته...من إلزامه بوعده!"
عقدت دجينة حاجبيها مستنكرة بشدة قبل أن تقول بغضب مكتوم "من اخبركِ هذا السخف؟ إذ أنه لم يحدث أبداً...أنا رغم كل ما تعتقدين لدي مبادئ...ولم أكن لاقترب من رجل ملك لأخرى رغم غبائه ليعرف أنك كل ما أرداه يوماً."
لصدمتها لم تبدي آيتان أية ردة فعل للغضب للثورة بتكذيبها...بل كانت تنظر لها بتركيز شديد وبدات كأنها تستجوبها لا تتهمها تعرضها لاختبار ما في الصدق وكأنها سمعت ما تفوهت به دجينة من قبل وأردت فقط مطابقته "جلاء أخبركِ كل هذا...أنتِ لم تأتي لمزيد من الشجار أو الدفاع...بل أنتِ تعرفين عنى أكثر مما يجب...يا إلهي!" قالتها بخفوت شديد وشحب وجهها بشدة حتى أصبح لوحه من الرخام الأبيض...لتستحيل لحالة من الهشاشة والضعف بل ربما الجبن عندما وقفت بإختضاض تخبرها ببهوت "أخرجي من هنا...مشاكلكِ وعقدكِ حليها مع زوجك وليس أنا"
أمسكت آيتان بمرفقها سريعا تمنعها من الهرب ثم وقفت تشرف عليها بطولها الفارع وكأنها تحاول فرض سلطة ما عليها وهي تقول بحزم ذكرها بتحكم آصف "لن أسمح لك بالهرب قبل سماع ما أريد قوله...أجلسى ودعينا نجد حلاً لتلك العلاقات الغريبة التي جمعتني معكِ"
هزت رأسها بعنف تفلت نفسها منها وهي تقول بخشونة"أنا لا اريد أية علاقة معكِ...أنتِ لا تهميني بأية طريقة...وزوجك لم يكن من حقه إخباركِ عني ما كنت أخفيه"
صدر صوت مكتوم من آيتان وهي تقول "آصف لا يعرف الحقيقة كاملة ؟!"
قالت دجينة من بين أسنانها وعيناها تقدحان شرراً"وما المهم في الأمر ليعرف...غير غبائكم الاجتماعي ما حدث لم يكتمل بالنهاية إذ أني دافعت عن نفسي جيداً... وآصف يعرف الأن أنه لم يقترب رجل غيره مني...فهلا رفعتي انفكِ من شئوني؟ لا اعتقد أن خالكِ طفل مضلل يحتاج لحمايتكِ!"
انسحب كل غضب أيتان واستعدادها للهجوم وهي تقول بصبر "إذاً لماذا تصرين على إخفاء الامر؟!"
قالت دجينة ساخرة"اسمعي نحن لسنا صديقتين أو رفيقىتين ...حتى تلك العلاقة العائلية لا تسمح لكِ بسؤالي ولا تجبرني على نقاش نفسي معكِ!"
قالت آيتان بهدوء "أنتِ محقة تماماً ولكن أنا حقيقة أريد أن اعرف ...ليس لشيء ضدكِ ولكن أنتِ تعرفين ذلك الفضول النسائي نحو المعرفة"
عم صمت مشحون لدقائق حتى ظنت أنها لن تجيبها وستصر على رفض هذا الحديث معها ثم صدمتها بالقول المختنق "هل إن حدث لكِ ما تعرضت له كنت ستخبرين جلاء ؟!"
لفهم الصمت مرة أخرى...احست آيتان بقلبها يعتصرمختنقاً بمشاعر غير منطوقة"لا لم أكن لأفعل أبداً إن عشت نفس ظروفكِ...أنا لن أمنح الرجل الذي أُحب نظرتي الدونية لنفسي"
توترت دجينة وتعرق جبينها بطريقة مؤلمة وكأنها تكبح الألم الذي احتلها كاملة بصعوبة ...رفعت يدها المرتعشة تمسد على جبينها وهي تقول ببهوت "أنتِ صريحة أكثر من اللازم!"
اقتربت منها آيتان تلمس كتفيها برفق عجيب ثم قالت بخفوت "وهجومية بشكل غبي أحيانا..."
همست دجينة باضطراب صريح مماثل "اعتقد أن التهور والهجوم المتوحش سمة في تلك العائلة...تخبئونه جميعاً تحت مظهركم المتكلف!"
رفعت آيتان كتفيها واخفضتهم موافقه باستسلام "لا أستطيع الإنكار...نحن هكذا بالفعل"
قالت دجينة بضحكة مشوبة بالمرارة "ها أنتِ تعلمين بسري ودفاعي...أنا لدى بالفعل سمعة غير جيدة على الإطلاق رسمها الناس هنا من حولي ...آصف نفسه كان لديه نفس تلك النظرة الاجتماعية عندما تقابلنا أول مرة...وأنا. أنا حسناً لم امنحه باستسلامي وقبولي مساعدته على الفور ما يدفعه لإصلاح نظرته عني...فكيف كنتِ تريدين مني أخباره أني كدت أن اُغتصب من ذلك الرجل بعد أن ذهبت معه بنفسي لشقته!"
حافظت آيتان على انفعالاتها جيداً وهي تقول بهدوء "وقتها أنتِ كنتٍ مجرد مراهقة دجينة وجاهلة بقيمنا الاجتماعية التي تمنعكِ من الجلوس معه في معتزل وحدكم ...لذا لا تحملي نفسكِ حقارة نفس هذا الرجل"
قالت بنفس صعب "أبي كان يثق به...وأنا صدقت حجته أني يجب أن أرى المكان الذي سأقيم فيه معه...لم اعرف أنه كان يخطط لسحبي لهناك لإقامة علاقة معي ...لقد قال وقتها بالحرف الواحد عندما رفضت بقوة: ألا ادعي شرفاً لا أملكه وأني مجرد عاهرة لعينة يجزم أني فقدت برائتي منذ أن كنت في التاسعة وبأني ذهبت معه وأنا اعرف بأن الأمر سينتهي بتسليم نفسي إليه ، لقد قام بتسجيل كل شيء ..عاده جزء مقوماته واجبارى؟!"
توترت آيتان وهي تقول بحرقة
"لا اعرف على من ألقي الأخطاء...ربما أنتِ بتصرفاتكِ ومظهركِ وأفعالكِ للاسف تمنحين الناس تلك النظرة...ولكن ليس من حق أحد اتهامكِ بشيء ما لم يقترب منكِ ويتأكد بنفسه"
أغمضت دجينة عينيها بقوة وهي تقول "هل تلقين عليّ الأن الذنب مثلما فعل أبي الذي ادعى عدم تصديقي بالمناسبة بل وقدم اعتذاراً لذلك الرجل وأجبرني على اعتذار مماثل وعندما رفضت قام بحبسي وتهديدى ...ليس ذنبي نظرتكم لمن ولد في الغرب يا آيتان ...ربما بعضهن ينجر لهذا بسبب إهمال أهلهن لهن...ربما هذا لانهن لم يتلقين الرعاية المناسبة.وتركوا الحياة المختلفة والقيم المدسوسة المسومة هناك تُزرع فيهم...ولكن صدقيني أكثريتهن لسن منحلات بهذا الشكل البشع"
إبتسمت آيتان دون مرح وهي تدرك أن تلك الفتاة مثلها مثل الكثيرات ممن تتحدث عنهن...معطوبة بشدة بحيث يعجز أي شخص عن انقاذها ولهذا امتلكت السلطة لتجعل جلاء يهتم لأول مرة في حياته بأحد غير نفسه...ورغم هذا هو فشل بالفعل في إصلاح ما بها ولكن ربما كما قال حماها في فترة حساسة من الانجرار للسقوط في الوحل لتدمير ذاتها انتقاماً من الجميع لتحقيق نظرتهم الزائفة عنها...ولكنها تعرف الآن سر تشبث آصف بها وتعلق الفتاة فيه ،عندما تلتقى نظراتهم في حديث صامت لا يفهمه سواهما...لذلك التملك والإحاسيس العجيبة التي تنطلق منه نحوها...هي الأن تعرف بأنها لا تملك أية أسباب للغيرة نحوها...بل التعاطف المرافق للشفقة والرغبة في الاقتراب واكتشاف المزيد منها...بل وربما مساعدة آصف لجعل دجينة تملك أسباباً للبقاء وبأن لا تنفصل عنه...بأن ترحب بها فرداً جديداً في عائلتها...
"أنا أعرف الآن كل ما تقولينه ورداً على سؤالكِ أخيراً...أنا اتيت إلى هنا لأعرض عليك السلام وصداقة أن تقبلتيها ستكون شرفاً لي"
همست دجينة بذهول"ماذا!"
ادعت آيتان الحزن وهي تقول بخفوت
"إن رفضتي سأتفهم أسبابكِ على فكرة...ولكن لن اكذب عليكِ كان لديّ عشم أن قلبكِ أبيض من قلبي ولا يحمل الضغينة!"
اختنقت إبتسامة على وجه دجينة مدركة تصنعها ثم قالت "لا بأس...أنا أكرم منكِ بالفعل وسأمنحكِ شرف رفقتي"
إبتسمت آيتان إبتسامة متوسعة قبل ان تسحبها على الأريكة الواسعة وتجلسها بجانبها قبل أن تخلع حذائها ترميه بطريقة غوغائية ثم جلست تطوي ساقيها تحتها وهي تقول"حسناً إذاً لا داعي للتكلف أمامكِ ولنبدأ في محاولتي أن أحبكِ"
امتعضت شفتي دجينة وهي تقول"هل لديك خاصية ما لتحويل الكره للحب...هذا عجيب!"
تلبس وجه آيتان الجدية وهي تقول "الكره كلمة كبيرة وشعور أكبر من أن أوجهه لشخص لم يؤذيني بشكل مباشر...أنا لا أكره دجينة"
ردت دجينة برقة "أنت تتحدثين مثله...اعتقد أنه يمكنني بدء الثقة فيكِ!"
قالت آيتان بحرص "هل هذا يعني انكِ ستخبريني لم كنت تبكين !"
همست متصلبة "كيف عرفتِ؟"
قالت بهدوء بطيء "لم أعرف توقعت من ملامحكِ فور أن فتحتي لي باب المنزل..."
ردت "لست مستعدة لمنحكِ هذا الامتياز بعد، لا أحب أن أكون مكشوفة بالكامل لشخص...تخبطي في الظلمة أفضل بكثير من أن يعرف حقيقتي القاتمة"؟!!!
.................................................
ركع آصف على ركبتيه أمام الفراش ولدقائق كان يتأمل نومتها الغوغائية , عيناه تمشط وجهها الهادئ الذي استكان أخيراً من صراعاته وكوابيسه عندما تخلد للنوم ... على الأقل هدأت روحها وسكنت نفسها ...حتى اللحظة يستطيع القول أنها راضية سعيدة تحاول التعامل مع عائلته وتتقبل محاولة آيتان للتقرب منها بفضول ... ولكن تبقى المشكلة الحقيقة به هو إذ يعلم جيداً أن جروح دجينة لن تختفى بين ليلة وضحها ولا حتى بعشقه و بدفء عائلته ... بل هو يدرك جيداً أنه يحتاج إلى الكثير حتى يحصل على ما يريده حقاً ... أولاً أن يصل لجرحها الأخير الذي مازالت ترتعش رهبةً عندما تدرك أنه على وشك اكتشافه .
حرك أنامله على ملامحها الناعمة ثم أخذ نفساً عميقاً قبل أن يهمس بهدوء " دجينة هل يمكنكِ الاستيقاظ قليلاً حبيبتي؟ "
لم تأته إجابة على الفور بل ظلت يده لبضع دقائق تتلمس وجنتها في محاولة هادئة لإيقاظها ...بضع ثوان أخرى وكان صوتها الناعس يجيبه " لا. لا يمكنني فهلا أتيت أنت وغفوت بجانبي؟"
منحها ابتسامة وهو يقول " كسولة ...هيا أريد أن أريكِ شيئاً سيعجبكِ "
تأففت وهي تلف يدها حول ساعده واعتدلت بمساعدته وهي تقول " أياً كان ما لديك مؤكد لا يضاهي سحر النوم "
ارجحت قدميها من السرير فأعتدل هو سريعا متلقيها خوف من أن يهتز جسدها الذي لم يستيقظ بعد " هيا أرني هذا الشيء وأغرب عني"
جز على أسنانه وهو يقول ببساطة " أنتِ وقحة "
قالت ببرود " وأنت شرقي متعنت ذكوري مزعج "
قال محذراً باسمها " دجينة!"
تشبثت بكفه قبل أن تقول مداعبة " أمزح معك ...ولكنك مزعج بالفعل وأنا لا أحب أن يوقظني أحد"
تنفس بصبر وهو يقول " أعرف والآن هلا أبدلتِ ملابسكِ لشيءٍ ثقيل!"
" لماذا المنزل دافئ؟"
لا تناقشي هيا قبل شروق الشمس!"
........................
كانت تتبعه بحذر تتمسك كفيها الاثنان بذراعه وهو يصعد بها لأعلي المبنى الفارغ إلا منهما ؟!
وصلت أخيراً أمام باب حديدي فقام هو بإخراج أحد المفاتيح حتى فتحه على مصراعيه وجذبها لتصبح فوق السطح المكشوف الذي يسوره نصف حائط من الخرسان ... تركها هو يتقدم نحو الجزء الأمامي يخلع حذائه ويفك بضع من ازار قميصه وفتح ذراعيه وهو يقول " أتمنى في يومٍ من الأيام أن أستقر هنا "
لم تتحرك من مكانها وهي تقول بتوتر " وما الذي يمنعك من أخذ هذا القرار ؟!"
التفت إليها برأسه مبتسم الوجه قبل أن يقول ببساطة " يوماً ما سأفعل ...ربما حياة الغرب تغرينا وإثبات الذات يجرفنا في معترك الحياة ولكن العودة للجذور شيء حتمي دجينة لا أستطيع الهروب منه "
عبست وهي تقول مقرة بالواقع " لا ليس حتمياً أنت مخطئ ...الكثيرين ينفصلون عن جذورهم ويرفضون تماماً العودة ولا يتحدثون بهذا الشغف الذي تتحدث به ؟!"
اقترب منها وهو يقول بهدوء " أدرك هذا...والكثيرين منهم يضلون طريقهم ... والأكثرية تضرب بالعادات والتقاليد والدين عرض الحائط آخذين من الغرب سوء طباعهم فقط... موهومين بقيد حرية كاذب الغرب أنفسهم يكرهونه ويرفضونه ...أتعلمين كم نسبة الذين يفشلون من العرب هناك بالنسبة للناجحين؟"
هزت رأسها ببطء " ومن أين سأعلم انا ؟!"
اخذ آصف نفساً عميقاً يملأ صدره من الهواء العليل وهو يقول " سبعون بالمائة تقريباً يفشلون تماما ً ...لمعلوماتكِ لا ينجح حتى في الغرب إلا من يحافظ على عقيدته أيا كان انتمائه... من يبتعد عن ملذات الخمر والنساء والقمار وغيرها والتي يظن السفهاء المضللين أنها علامة من علامات التحضر والحرية الكاذبة ؟!"
هزت رأسها وشيء ما يلمع في عينيها قبل أن تقول بإدراك " أذاً الكذبة الكبيرة للحرية ليست للنساء فقط؟"
قال مؤكداً على الفور " لا! كذبة الحرية في الغرب معممه ...إذ يعتقد من يعيث فساداً غير مبالي لمستقبله أو أن يحقق ذاته ليترك شيئاً يذكر من بعده أن تلك هي الحرية ...غير مدرك أنه يضع نفسه في سجن كبير أسواره من حديد لا يفل ولا ينصهر ؟!"
أطرقت برأسها للأرض وتمتمت بخفوت " أحيانا أخاف من كل تلك الحقائق التي بدأت في تلمسها!!"
كان قد اقترب منها ورفع وجهها بين كفيه وهو يقول بصوتٍ أجش " لماذا الخوف حبيبتي ؟!"
همست مضطربة وعينيها تتحد مع عينيه باحثة فيهم عن دعم ورضا قد تجدهما فيها " أخاف أن أكون من تلك الفئة المضللة وأرتعب من تلك النظرية التي قد تفقدني هويتي وكياني، أنا، أنا إنسان حر يرفض القيود ...ثم، ثم أني "
صمتت لبرهة تحدق فيه بمزيد من الاضطراب بمزيد من الحيرة قبل أن تجد صوتها وهي تردد ذاهلة " أنا أريد أن أعرف الطريق لأحبه ...أن أجعله يُحبني وينظر لي "
ابتلعت ريقها وكفها يمسد على بتلات الموت التي ترسمها على معصمها ثم قالت برهبة " كلما أبحث عنه وأحاول أن أجده أصل لشعور مذهل! أكثر رعباً من أن أقر بقربي منه وأكثر نورانية من أن تقر إنسانة مثلي بتصديقه "
كان ينظر إليها نظرة لم تفهما وهو يقول بهدوء وروحه تصل لعنان السماء تحلق فوقها " بل أنتِ المثال الحي والدليل المادي لتلك النظرية التي تقر بوجود علاقة روحية بين الإنسان وخالقه، رابط أزلي بين الله " سبحانه وتعالي " وبين المخلوق!"
كانت عينيها تترقرق فيها الدموع بينما شفتيها تبتسم بصفاء وهي تقول " أحياناً لا أفهم كلامك ولكنه يعجبني ويُسِكن روحي "
همس وملامحه تسترخي وروحه تَسكن وتسمو لشيءٍ ونداءٍ روحاني بداخله " أستطيع الشرح أو إلحاقكِ بأحد الدروس الدينية او إقناعكِ بالحجة والمنطق ...ولكنى أعرف أن بداخلكِ فطرة سليمة لم تشوه ...أريدها أن تطفو وتثور تطالبكِ أنتِ بإيجاد طريقكِ وحدكِ ؟!"
كفيها حاوطت وجهه مبتسمة وراضية تماماً بمنحنى حديثه فأحنى وجهه قليلاً مقبلاً وشم وردتها على معصمها ثم همس " أريدكِ أن تثقي بي وتتبعي ما أطلبه منكِ "
اومأت بموافقة مهتزة قليلاً، قليلاً فقط! التقطها ولم يعترض! إذ يعلم جيداً أنها مازالت تخاف... مازالت ترهب أن تمنح ثقتها الكاملة لأي بشر! ومن هو ليلومها بعد ما قاسته؟!
اغلقي عيناكِ... فعلت
" ارفعي كفيكِ منبسطين نحو السماء "
بأنامل مرتعشة كانت تنفذ أمره.
مال نحو أذنها وهو يهمس " يمكنكِ استراق النظر إلى أن تعلمي خطواتكِ !!"
ارتعش جانب فمها بابتسامة بينما تخرج انفاس متعاقبة من بين شفتيها ....
أخرج آصف هاتفه مستغلاً الهدوء الذي يحل مع مطلع الفجر .. السماء صافية ساكنة والنجوم متلألأة.. نسمة الهواء باردة مسالمة كأنها دعوة ..دعوة لتجلي السكينة على صدر كل متألم ..وتنفصل الروح عن جسد كل تائه!
همس آصف وهو بجانبها بينما يميل رأسه ليولي جانبه نحو السماء قليلاً وذراعيه ترتفع لأعلى إحدى كفيه تقابل الأرض والأخرى ترتفع بخشوع نحو السماء "أرهفي السمع يا قطيطة انفصلي عن الماديات واسمحي لروحكِ بان تحلق فوقكِ.. دعي النسمات الباردة تحرككِ وصوت الله بداخلكِ يقودكِ"
لم تفهمه وللحظات تعجبت من أفعاله ولكنها فتحت عينيها ورغم كل شيء اتبعته يدور ويدور يشدو بشيء ما مناجي ومخاطب باسم الله وجهه تحتله السكينة وجسده الرجولي يطفو بخفه نحو الرضا
"والله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا و حبك مقرون بأنفاسي
و لا جلست إلى قوم أحدثهم
إلا و أنت حديثي بين جلاسي
و لا ذكرتك محزونا ولا فرحا
إلا و أنت بقلبي بين وسواسي
و لا هممت بشرب الماء من عطش
إلا رأيت خيالا منك في الكاسِ
و لو قدرت على الإتيان جئتكم
سعيا على الوجه أو مشيا على الراسِ
و يا فتى الحي إن غنيت لي طربا
فغنني واسفا من قلبك القاسي
ما لي و للناس كم يلحونني سفها
ديني لنفسي و دين الناس للناسِ
رأسها انحنى على كتفها بينما عينيها اغمضت بطواعية ذاتية ...كانت في البدء غير مقتنعة تماماً بما يفعل ولكنها لدقائق طويلة كانت تسترق النظر إليه ربما تفهم ما يحدث وتصل لذلك الصفاء والانعزال الذي كان يتحدث عنه جسده .... مرت دقيقة دقائق ولم تفهم ولم تهدأ الروح وتخشع ... الحاجة العنيفة جعلتها تزداد اصراراً أن تجرب ذلك الحدث الروحاني ذلك التجلي لرابط إنساني بين عابد وربه ...بين مخلوقٍ وخالق بين إنسانٍ وروح وذات إلهية!
ذات إلهية تطفو بداخلها تتحرك أخيراً لتجرفها تقبض على شيءٍ ما بداخلها شيءٍ شفاف نقي جعلها تشهق بتحشرج وقدميها تندمج وهي تدور وتدور...رأسها يميل أكثر نحو السماء جفنيها تسترخى مسلمة وروحها اخيراً تنفصل لتشعر بها تطفو فوق رأسها تحلق حول جسدها تتراقص بسكينة وإجلال تطفو وتعوم وتشرد لتلاعب غيم السماء ...انفاسها تتلاحق والقلب يدق بعنف رهبة وخوف ...كل الضجيج اختفى كل الماديات أصبحت باهته لا معنى لها ...شفتيها طواعية تردد النغمات الموسيقية المدروسة التي تتردد في أذنيها روح الكمان تخرج من أعماقها لتساعدها لفهم بعض مما يدور حولها ...لقد كانت تطفو في ستار ابيض شفاف رائق ناصع البياض لا تشوبه شائبه ولا يتخلل مرض نفس يشوه طهرها ...همس رقيق ينساب إلى أذنيها يشدو باسمها ...ترنيمة بأسماء الخالق تخترق حاجز السكون تنادي الروح لتعبدها فتخلف لوحة سريالية وسمفونية غنائية لا يمكن لمخلوقٍ عادي أن يلتمسها ! لقد كانت تغرق ...تغرق أم كانت تطفو مرتفعة بسمو خارج نطاق الأرض مبتعدة عن شرورها عن أطماعها عن ظلمها السائد لكل من مثلها !!
الروح سكنت والقلب خضع والجسد أصبح لا يشعر ولا ينهك ...تتسارع رقصتها تجن حركتها ويخرج صوتها أخيراً بصرخة مزلزلة ذعراً عندما تجلي شيئاً أمام علوها لم تستطع فهمه لم تتعرف عليه روحها الغائمة وتصل لمعاينة وسموه ...
شهقت بعنف وهي تعود لأرض الواقع جسدها مرتخي منهار لا تقوى على الحراك التقطها آصف بين ذراعيه قبل أن تصل للأرض بينما الندم يتأكله والقلق يحل بروحه وهو يقول بتوتر" أنا آسف ...لم يجدر بي جركِ لهذا ...هل أنتِ بخير هل نذهب للطبيبة؟"
هزت رأسها نفياً بينما تبكي بحرقة لشيءٍ لم تستطع تفسيره لم تقوى على قول شيء ...لم تستطع ببساطة وصف ما عاشته في تلك اللحظات ...ولكنها استطاعت أن ترفع ذراعيها تلفها تحت كتفيه سامحةً لدفء رجولته أن يحتوي ضعف أنوثتها!" حب الرجال مجرد تفاصيل صغيرة أولها اعترافه بحبكِ وأكبرها اطفاؤه لغضبكِ واستيعاب ارتباككِ و فهمكِ قبل أن تفسري أنتِ نفسكِ ...وآخرها احتوائكِ وأرشادك !"
......................................
بعد أيام
كانت دجينة تقف أمام البحر الأحمر بشعابه المرجانية التي حبته الطبيعة بها..تتخلل أنفاسها كل نسمة هواء ناعمة باردة فتهدئ خوفها وصراعها وقلقها الغريزى ...
" أعجبك المكان؟ " قالها آصف ويداه تلف خصرها حتى استراح كفيه علي تحدب بطنها ...
همست:" اكثر من رائع ولكنى محبطة قليلاً "!
قال بأهتمام :" لماذا؟"
قالت ببساطة: " كنت أتمنى ان اسبح هنا ولكنى لا أجيد الأمر .. ولم أستطع منح أحدهم ثقتى حتى يعلمنىي ..وأظن اني لن افعل يوماً ..اعتقد ان المشكلة الرئيسة تتعلق بأمواج البحر نفسها غادرة مزاجية غير مستقرة وقاتلة متجنبة أحياناً "
اخذ آصف نفس عميق قبل ان يقول بهدوء :" أدفع نصف عمرى ، واخترق عقلك لأعرف من أين تأتى بكل هذه التعبيرات المرعبة"!
ضحكت " سبعة أعوام من التخبط والرعب النفسي أكثر من كافية آصف"
هز كتفيه قبل أن يتركها ليستدير أمامها وهو يقول بجدية :" إذن لا أحد قادر على كسب ثقتك "
رفعت حاجبيها وهى تقول مدعية الجدية :" مع البحر لااا "
انحنى آصف فجأة ودون مقدمات كان يرفعها عن الأرض لتصبح بين ذراعيه شهقت بصدمة ويديها تتشبث بجاكت بدلته الأنيقة والفخمة:" ما الذي تنوي فعله "
كان بالفعل يتحرك نحو موج البحر وهو يقول بعبث :" أحاول كسب رهانك الغير منطوق "
هزت رأسها تدعي الضيق بينما داخلها يتراقص بسعادة أصبحت تخشى من فقدها يوماً :" انت لن تفعل .. "
كانت قدميه لمست رمال الشاطئ بالفعل دون ان يحاول خلع أيٍ من ملابسه .. يديها تتشبث فيه اكثر قدها يلتصق فيه برهبة حقيقة فستانها الحريري صاخب الألوان يتلاعب به هواء البحر ليرفرف من حولها بينما هو يقول ضاحكاً :" انا فعلت وانتهينا .. يجب ان تواجهى جميع مخاوفك يا دجينة ..جروحك لن تشفى بالهروب "
ورغم صرختها التي خرجت ضاحكة مستنكرة وإدعاء باهت للمقاومة كانت عينيها تحملق فيه متذكرة تعليق مماثل أخبرتها به أحد مدربات العلاج النفسى وحلقات الإرشاد العلاجي التي لجأت لها مجبرة لبعض الوقت بعد ما حدث ....هنا اذ كان رعبها وقتها بلغ مداه وكاد ان يتحول لهستريا مرضية
" آصف ..اعتقد انى واجهت من قبل بعض من مخاوفي معك .. ونجح الأمر لذا لا ضرر ابداً من مواجهة المزيد !
أنزلها ببطئ لتلامس قدميها الماء حتى غطت نصف جسدها.. لم تترك كفيها تشبثها به بينما المياه تغرق كليهما كلياً " احتاج للمزيد من الثقة ..انا لا اريد البحث خلفك بل انتظر اخر جروحك لترشدينى اليها بنفسك "
" يوما ما سأفعل فقط اريد بعض الوقت آصف "
نظرت دجينة حولها إلى الصحراء مترامية الأطراف والتي تحاوطها جبال سيناء الشامخة من كل جانب..فتدخل الي قلبها السكينة و الاطمئنان بعيداً تماماً عن الرعب الذي كانت تعيشه عندما تتواجد مع أحدهم من العرب..الثقة الحقيقية التي عادت ببطء تمنحها لذلك الرجل الذي يثير بداخلها كل المشاعر المتناقضة لم تعد تفسرها أو حتى تجد لها اجابة !لِما يدور بداخلها من صراع...عندما تقدمت تجلس بجانبه ببطء حول النار التي أشعلها للتدفئة خارج الخيمة المنفردة التي ابتعد بها عن عائلة عزيز العاشوري والذي اصر كما فهمت على تواجدها معهم في"شرم الشيخ"نظراً لإقامة إحدى الحفلات الضخمة لشركاتهم ...نطقت بهدوء "لماذا نحن هنا؟"
كان قد إنتهى بالفعل من رص بضعة من جذور الشجر اليابس ...اعتدل وهو يسحب شال خفيف من جانبه يحيط به كتفيها وهو يقول ببساطة "حتى نستطيع اكمال حديثنا بعيدا عن أي متطفلين"
عبست بشدة فاهمةً قصده وقالت "جلاء ليس متطفلاًهو فقط يقارعك فيما أعجز أنا عن إجابته"
إبتسم بتكلف وهو يقول "لم أتي بكِ لنتقاتل أو لأستمع لوجهة نظر ابن العاشوري"
لم تتنازل عن عبوسها بينما تقول "أنا لا اتقاتل معك بل نتشاجر في وجهة نظر كلانا "
هز كتفيه وهو يقول بهدوء "ولا نتشاجر ايضاً...لقد اتفقنا على النقاش الحر المفتوح دون التطاول أو فرض وجهة نظر أحدنا على الأخر أليست هذه مبادئ مدرستكِ؟"
قالت سريعا"بالطبع..."
صمتت قبل أن تضيف بتردد "ولكن نحن هنا للاستجمام كما أخبرتني...لا مقارعة بعضنا "
تلون صوت آصف بالحزم وهو يقول "أعرف...ولكن أنا أمل سريعاً من جلسات اللهو تلك...لذا فضلت أن نكمل نقاشنا المعلق أم تخافين أن تخفقي في الرد؟"
عارضته قائلة بتشدق "لقد سبق وأثبتُ لك أني أستطيع مجادلتك والدفاع عن وجهة نظري...أم أنك تحاول وضعي في خانة الجهل لأني أنثى"
لدقائق طويلة. طويلة جداً لم يرد وبدى أنه يحاول السيطرة على نفسه ... ينحي تماما فكرة أنها زوجته بل مجرد فتاة صغيرة ضلت طريقها وتتصارع بين مفترق طرق وهو يحاول مساعدتها لترسو إلى أحدهم دون أن تُضيع المتبقي منها.
أحست دجينة بأن آصف مازال يجاريها لا أكثر...كمن يقوم بمهمة لا يتقبلها ولكنه مجبر عليها حتى يصل إلى ما يرنو اليه حقيقة...لقد شعرت بالغضب قبل أن تقول مفكرة "أتعرف ما هي مشكلتكم الحقيقة يا آصف ؟!"
أخذ نفساً عميقاً قبل أن يستفسر"اتحفيني بالمزيد مما لديك ؟!"
قالت بشيء من الانزعاج من نبرته "المشلكة تكمن أن نظرة المجتمع للإنسان البوهيمي نظرة منقوصة تأطوره في خانة الغجري والمتمرد غريب الأطوار والمنحل أخلاقياً في كثير من الأحيان..."
استند آصف على ركبتيه قبل أن يسحب البساط الصوفي ويفرده بجانبه مشيراً لها أن تستبدل الأرض الرملية لتجلس بجانبه ففعلت على الفور وعينيها معلقة بعينيه غير متنازلة عن الاجابة.
عندها فقط استراح بجانبها وهو يقول بتفهم"أنتِ تشيرين لبداية معرفتنا! وأنا لن أتطرق لهذا الامر مرة أخرى...ولكن الحقيقة ما تقوليه هي نظرة مجتمع كاملة للمدرسة البوهيمية"
قالت بضيق "لم أنتظر هذه الإجابة منك"
ضحك وهو يقول متلاعباً "أعرف...أنتِ تنتظرين جدالاً وشجاراً لن أفعله!"
صمت لبرهة قبل إن تسمعه يقول بصوتٍ أجش"البوهيمية كمدرسة وأيدولوجية فكرية كغيرها من العديد من المدارس المُتبعة يمحورها ويوظفها البعض كلاً على حسب إفكاره ...منها المنفر المكروه اجتماعيا ودينياً...ومنها ما نحن بصدده مجرد نمط غير تقليدي لمجموعة أشخاص ذوي ميول مشتركة...كالنشاطات الموسيقية أو الفنية أو الأدبية...وفي هذه الحالة يمكن أن يكون متسكعاً أو مغامراً أو حتى متشرداً؟! يدها ارتفعت تزيح شعرها خلف أذنيها قبل أن تقول بتردد "بعيداً عن معاييرك الدينية أو الاجتماعية طريقتنا في الحياة لا تؤذي أحداً أو تتعدى على فكر أحدهم ...بل نكتفي بالتمرد لأن حياة البشر مهمة فهي من تمنح قوة الحياة...فقط نريد أن نستخدم تلك القوة لنصبح متفردين ...الحياة هبة آصف يجب الاستمتاع بها كلاً على طريقته بدون إطار معين وجماعة ننتمي إليها أو قالب أوضع فيه لأني أنثى..."
كان ينصت إليها بإهتمام حقيقي حتى وهو يعرف ما تقوله سابقاً ولكنه أراد أن يرى الامر من خلالها هي وكأنه يريد اقتحام عقلها وفك طلاسمها الصعبة الغريبة حتى يستطيع قرائتها بوضوح...
امتدت يده يمسك كتفيها يمسد عليهما بطريقة مدروسة بطيئه لمَد جسور الثقة والأمان بينهما قبل أن يقول بنبرة متمهلة "ما تقولينه يتعارض مع علم اللاهوت والميثولوجيا والروحانية تلك العناصر التي قامت عليها البوهميمة في الأساس"
لم يعرف سر ارتضاض جسدها بين كفيه وكأنها بوغتت بما يقوله جهراً وعلناً...هزت رأسها برفض شديد قاطع وتمتمت
"أنا لا أنتمي إبداً بأية صورة من الصور لتلك العناصر ولم أفكر فيها يوماً أو حتى احاول أن اقرأ عنها"
رغم انه كان يعرف الاجابة مسبقاً ولكنه لن ينكر أنه شعر بالراحة إذ أن رحلته معها ليست صعبة أو مستحيلة...ورغم هذا سألها بهدوء "إذاً ما الذي تتبعيه منهم تحديداً ما الذي يعجبكِ أو يجذبكِ لتصري أن تعلني أنكِ تتبعيهم وتهاجمين عقيدتكِ التي ولدتي فيها بالفطرة ؟!!"
عينيها كانت تمشط ملامحه وكلها يشعر بالاسترخاء حتى وهي تفلت ذلك الشال من فوق كتفيها ثم قالت "أنا لم أكن اعرف حتى أني أنتمي إليهم...ولكن دعنا نقول بعد منادتي بحريتي وهروبي من والدي وأمي...بحثي عن الحب المطلق وحياة الزهد والتشرد بطريقة غير منتظمة دون أن اقلق ما الذي سيحدث لي غداً...مكتفية بفني"والكمان"رامية على ظهر الحائط كل القواعد السلوكية التقليدية"
صمتت تلتقط أنفاسها قبل أن تضيف "مع كل ما ذكرته أخترت وعرفت أني أنتمي إليها ولن اقبل بغيرها بديلاً"
قال بهدوء "نستطيع القول أنكِ اتبعتي ببساطة افكار هنري موجيه أو فيكتور هوجو"
فتحت كفيها تشوح بهما بلا معنى وهي تقول ببساطة "ربما...أنا من أشد معجبيهم"
إبتسم وهو يكمل بتفهم "إذاً التعريف الاقرب لكِ أنكِ شخص غير تقليدي اجتماعياً...أو ربما ببساطة غجرية"
عبست وهي تقول غاضبة "أنا لست غجرية"
ضحك وهو يقول ببطء "ترتبط مدرستكِ ارتباطاً وثيقاً بقدماء الغجر...كما أن الانسان الغجري هو ذلك الانسان البسيط المنفرد بطبعه والمتميز بأسلوبه...لا يهتم بالمال ودائماً مشغول بطقوسه الغريبة...كيف ترفضين الانتماء إليهم وأنتِ مثلهم تماماً"
توترت وهي تقول "أنا لا ارفضهم ولكن...ولكن"
تمتمت بحزن"أنا لا اعرف لم أعد افهم نفسي ...ما تخبرني إياه كثيراً على استيعابي يجعلني احياناً أتمسك بشدة بما أنا عليه واحياناً أخرى استعجب نفسي ...كيف أجد التوازن آصف؟!"
يده تحركت ووضعها على قلبها المضطرب وضغط عليه بدفء وهو يقول "الامر بسيط اتبعي هذا دائماً"
قالت بيأس "أتبعه...احاول صدقني أن ادعمه وأثق به ليوجهني ولكنه يرهقني يؤلمني ويرميني في مغبات التوهان"
لم تتحرك يده من هناك وهو يسأل بحنان "ما الذي يتعبكِ دجينة ربما أستطيع مساعدتكِ"
تأخرت إجابتها للحظات لم تفاجأه عندما قالت بقلق "أنا أحب الله آصف أخافه...شيء فكري وفطري بداخلي يمنعني من التوغل في حياة الخطيئة...ولكن مازلت اخاف الإسلام كمذهب أرتعب من اعترافي وانتمائي الكامل له لأجده يقيدني ويقتل ما أنا عليه أو أسوأ يرفضني!"
أغمض عينيه للحظات مُتَّخِذاً نفساً عميقاً مؤلماً ...لا لن يُحبط الآن هو من اختار هذا الطريق وقرر قطعه معها وهو يوقن أنه مِمر طويل مظلم ملئ بالمخاطر...فتح عينيه اخيراً لتطل منهما نظرة التفهم المعتادة ...تلك النظرة التي تمنحها الأحتواء والأمان والرفق...ثم ما لبث أن قال "هل ارتباطكِ بي صعب...هل فرضت عليكِ وجهة نظر أو عنفتكِ؟!"
قالت بتردد "لا أنت تحاول أن تعيدني للطريق الصحيح وتساعدني لأفهم نفسي تاركاً لي حرية الاختيار"
اخذ نفساً أخر طويل قبل أن يقول "أنا لا اعيدكِ لشيء إذ أني شخص عادي جداً...يحاول أن يقلل ذنوبه ويرتقي بأخلاقة ويقترب خطوة من الله...أنا أجاهد مثلكِ دجينة!"
صمت للحظة قبل أن يتابع بحزم"إذاً قبولكِ ما أنتِ عليه بجنون افكاركِ وتمردكِ...صخبكِ حزنكِ غضبكِ وسخطكِ...هو شيء بيد الله وحده وليس لمخلوق أخر دخلاً فيه"
اقتربت منه هذه المرة بنفسها تضع رأسها على كتفه ببطء متردد شجعها بصمت عندما إمتد ذراعه يلفه على خَصرها متلمساً جنينه الذي يكبر يوماً بعد يوم بداخلها ...قالت بسكينة عارفة أنه لن يهاجمها مهما تفوهت "ولكن أنا اخبرتك الافكار التي انعكست إليّ عنكم متطرفة للغاية"
كان يعلم أنه يقدم على الأصعب معها ولكنه كان مجبراً أن يوضح لها وجهة نظرة الخاصة والشاملة للامر كله...ذاكراً لها ما يخصها فقط دون التطرق لسياسات منظومة كاملة!"
فقال اخيراً "هل تعلمين أن كل تلك الافكار المرفوضة أخلاقياً وعقلياً والتي زرعها الغرب في عقلكِ هي مجرد انعكاس لبعض المتأسلمون البوهيميون ؟!"
نظرت إليه بعينين متوسعتين يملأهما عدم الفهم المخالط للفضول "ماذا تعني وهل هناك ما يسمى بالإسلام البوهيمي؟!"
قال بهدوء "أنا لم اقل إسلام بوهيمي...بل متأسلمون...أي افعال أشخاص عاديين يتصارعون على السلطة أو المال أو حتى مزرُعون لهدف زعزعة منظومة وتشويهها ؟!"
هزت رأسها وهي تقول "لا افهم ؟!"
أجابها برزانة "لقد اخبرتكِ سابقاً أن البوهيمية كمدرسة تنتمي لعدة فصائل منها المتطرف ومنها الفكر اللاهوتي ومنها الأيدلوجية الاجتماعية والفكرية...بالنهاية هي منظومة الكل يأخد منها ما يناسبه ولكن ما نتفق عليه أنها مجتمع مغلق لمجموعة من الأشخاص ينتمون لفكرٍ واحد يؤمنون به يشيدون فيه ويرفضون كل ما يأتى خارجه...بل ويصل بهم التطرّف لاتهامه بمصطلحات أخرى مثل الأرستقراطية أو البرجوازية أو غيرها"
ضيقت ما بين عينيها وهي تقول "هل تعني أن كل فكر ينغلق على نفسه فيصبح نمطي مؤدلج غيره...أي تعني أن كل منظومة توهم مريديها بحرية كاذبة؟!"
لن ينكر أنه أعجب وبشدة بذكائها في الحوار وبفهمه بسهولة...توسعت إبتسامته وهو يقول "تقريباً...هذا ما قصدته...لذا المتأسلمون الذين ينتمون لجماعات تكفر غيرهم تحكم على كل من خارج دائرتهم بالانحلال الاخلاقي...ترفضه أو حتى تجزم بدخوله جهنم جاعلته ييأس من رحمة الله...ما هم إلا بوهيمي الفكر المتطرف"
صمت ليأخذ نفساً عميقاً قبل أن يقول مكملاً "المشكلة تكمن أن كل ما يصدر لأوروبا والغرب عامة هو"الاسلام اليميني المتطرف"ذلك الذي يرفض تماماً أو يرتعب من فكرة الانفتاح على تبادل الثقافات ... بعضهم من بسطاء الفكر تخوفه بسيط منغلق يتمحور حول أن ذلك التبادل ما هو إلا نقل مساوئ الغرب أو تحررهم إلى مجتمعنا...وتلك الفئة هي المنقادة بالتبعية هم المضللين البعيدين تماما عن التفكر .... هؤلاء من لا يستطعون الفصل بين معتقداتهم عقائدهم وعقائد الجماعات الأخرى فيحدث التضارب"
عندما صمت قالت سريعاً تحثه على الشرح "وماذا عن الفئات الأخرى؟!"
قال بقتامة "جميعهم وإن اختلفت جماعاتهم أو شعاراتهم ينتمون لفكرٍ واحد ورفض أوحد...يسمى بالتخوف المُركب...هؤلاء من يغوصون في تحليل كل مبدأ وفكر وبمبضع جراح يبحثون عن الخلل فيه...مصدرينه للمجتمع واصحاب التخوف البسيط وهنا تقع المشكلة إذ أنه يؤجرهم للعيش في شزوفرينيا لا تنتمي للواقع موقعين المجتمع والأمة في فخ رفض التقدم...متهمين كل من يفكر أو لا ينتمي إليهم بفكر أوحد بالإلحاد والكفر"
قالت على الفور بقلق "هذا ما اتحدث عنه المدرسة التكفيرية أنا قرأت عن الامر!"
قال بهدوء "اعرف...وتلك المدرسة في الحقيقة لا تعني إلا الافلاس الفكرى وحتى العقيدي...وباء عضال على الأمة...إذ أن الإسلام الحقيقي الذي أُنزل نوراً وهدى للعالمين لم يكفر أحداً يوماً بل نشر رسالته بسلام محترماً كل العقائد الأخرى"
صمت تماماً ضاممها إليه أكثر فحاولت حثه وهي تقول برهبة "أريد أن أعرف أكثر أرجوك...أنا أتخبط...ما تقوله هو تحديداً ما وصل لي من افكار في فرنسا"
هز رأسه رفضاً وهو يقول بهدوء "لا أعتقد أن المزيد في صالح تفكيركِ في الوقت الحالي دجينة...ما ذكرته كان لمساعدتكِ لتفهمي أن ما يصل للغرب عنا ما هو إلا فكر مُصدر مدروس على مر الزمن بخطوات بطيئة...حتى يصدُر عن الإسلام فكر مأطور يُضل بالكثيرين...وما يدعي للألم حقاً هو ضياع من مثلكِ من ابناء الإسلام الذين أهمل ذويهم في تعريفهم على عقائدهم بالطرق الصحيحة...تاركين إياهم لضياع في مفترق الطرق يتنازعون...وحتى عندما يعودون لأوطانهم يجدون ذلك الفكر المنفر يتفشى...والأكثر مرارة فكرة الكثيرين عنكم رافضين إياكم متهمينكم بالانحلال دون أن يحاولوا وضع أيديهم على مشكلتكم حقيقةً"
هزت رأسها بالإيجاب وهناك دمعة خائنة تطرف بعينيها متذكرة كل ما عانته على ايدي تلك الفئة"
مسك وجهها بين كفيه وهو يقول بهدوء"الإسلام محبة...نور للعالمين حب الله ورسوله هداية لن تجدي السكينة إلا عبرها...الإسلام لم يكن يوماً بوهيمي أو مؤدلج...لم يكن ابداً ملك لجماعة أو طائفة...بل هو رسالة حقيقية للسلام...لن يصل إليها إلا من يبعد عن كل تلك النزاعات"
بعد كل ما قضته معه...رؤياتها لأطياف البشر هنا على مختلف طوائفهم وافكارهم...هي تعلم بل وتنجذب بسرعة رهيبة لفطرتها السليمة دون الكثير من الجهد...لقد راقبته في صلاته واستمعت للآيات القرآنية الكثير من المرات والتي لذهولها وغرابتها شعرت بسكينة رهيبة وروحانية كان يتحدث عنها واعتقدت أنها لن تصل لها أبداً..."ربما الحقيقة القاسية أفضل من الكذبة المظلمة"وهي الأن تعترف لنفسها أنها كانت تحارب والديها لا نمطية المجتمع...تتمرد على أفكارهم لا على الإسلام كما اعتقدت...بل هي على يقين أن المشكلة لم تكن في صورة المرأة المسلمة ولا قيمها التي تحفظ بكيانها...بل حربها مع حرية كاذبة ينجذب لها البعض كالفراشة التي تذهب الى النار بقدميها لتحترق باختيارها.
.................................
أنت تقرأ
الجزء الثانى من فرشاة وحشية
Romanceفتاة عربية تربت فى فرنسا مشردة ضائعة وجدها تعيش فى منزل رجل دون رابط شرعى او حتى اجتماعى فكيف يكون الصدام بينها وبين رجل أرستقراطي متدين لا يقبل الأخطاء ولا يصفح عن المنحلين ...