وبينما النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة التي كانت دعوته تشق فيها طريقا بين النجاح والاضطهاد ،وكانت تتراءى نجوم ضئيلة تتلمح في آفاق بعيدة ،وقع حادث الإسراء والمعراج . وقد اختلف في تعيين زمنه،والراجح أن الإسراء إنما وقع إما قبيل بيعة العقبة الأولى أو بين بيعتي العقبة الأولى والثانية، وفي هذه الحادثة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، بجسده على الصحيح ، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس راكبا على البراق صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام ، فنزل هناك ، وصلى بالأنبياء إماما ، وربط البراق بحلقة باب المسجد ، وقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم تفاصيل تلك الرحلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا فعدت إلى مضجعي؛ فجاءني الثانية فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت إلى مضجعي؛ فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلست فأخذ بعضدي، فقمت معه، فخرج بي إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض، بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يحفز بهما (أي يدفع) رجليه، يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته. قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى جبريل عليه السلام معه حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء عليهم السلام فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ثم عرج به في تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبريل ففتح له ، فرأى هنالك آدم أبا البشر ، فسلم عليه فرحب به ،ورد عليه السلام ، وأقر بنبوته ، وأراه الله أرواح الشهداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن يساره . ثم عرج به إلى السماء الثانية ، فاستفتح له ، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم ، فلقيهما وسلم عليهما فردا عليه ، ورحبا به ،وأقرا بنبوته . ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فرأى فيها يوسف ، فسلم عليه ،فرد عليه ورحب به وأقر بنبوته . ثم عرج به إلى السماء الرابعة ، فرأى فيها إدريس ،فسلم عليه ،ورحب به وأقر بنبوته . ثم عرج به إلى السماء الخامسة فرأى فيها هارون بن عمران ، فسلم عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته. ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى بن عمران ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته . فلما جاوزه بكى موسى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : أبكي لأن غلاما بعث من بعدي يدخل من الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي . ثم عرج إلى السماء السابعة ، فلقي فيها إبراهيم عليه السلام ، فسلم عليه ، ورحب به وأقر بنبوته . ثم رفع إلى سدرة المنتهى ، ثم رفع له البيت المعمور . ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله ،فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، وفرض عليه خمسين صلاة ، فرجع حتى مر على موسى ، فقال له : بم أمرك ؟ قال بخمسين صلاة : قال : إن عشيرتك لا تطيق ذلك ، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ،فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن نعم ، إن شئت، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه، فوضع عنه عشرا ، ثم أنزل حتى مر بموسى ،فأخبره ،فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل ،حتى جعلها خمسا ،فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف ، فقال قد استحييت من ربي ، ولكني أرضى وأسلم، فلما بعد نادى مناد : قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وقد وقع حادث شق صدره صلى الله عليه وسلم هذه المرة أيضا، وقد رأى ضمن هذه الرحلة أمورا عديدة: عرض عليه اللبن والخمر فاختار اللبن فقيل: هديت الفطرة أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك. ورأى أربعة أنهار في الجنة نهرين ظاهران ونهران باطنان، والظاهران هما النيل والفرات، ومعنى ذلك أن رسالته ستتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات، وسيكون أهلها حملة الإسلام جيلا بعد جيل، وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة، ورأى مالك خازن النار، وهو لا يضحك، وليس على وجهه بشر وبشاشة وكذلك رأى الجنة والنار. ورأى أكلة أموال اليتامى ظلما لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون في أفواههم قطعا من نار كالأفهار(أي كالأحجار) فتخرج من أدبارهم. ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة، لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطئونهم. ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين. ورأى النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن. ورأى عيرا من أهل مكة في الإياب والذهاب وقد دلهم على بعير ند لهم (أي تاه) ، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون ثم ترك الإناء مغطى، وقد صار ذلك دليلا على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء. قال ابن القيم: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس فجلاه الله له، حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورا، وأبى الظالمون إلا كفورا. فقال أكثر الناس: "هذا والله الإمر البين (الأمر أي العجيب المنكر) والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة. قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة، فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى هاهو ذاك في المسجد يحدث به الناس، فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك، فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال: يا نبي الله فصفه لي، فإني قد جئته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرفع لي حتى نظرت إليه. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر صدقت، أشهد أنك رسول الله. حتى إذا انتهى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر الصديق. فيومئذ سماه "الصديق".