عاش محمد صلى الله عليه وسلم مع عمه حياة الكدح فليس من شأن الرجال أن يقعدوا،.ومن قبله كان المرسلون يأكلون من عمل أيديهم، ويحترفون مهنا شتى ليعيشوا على كسبها. وقد صح أن محمدا عليه الصلاة والسلام اشتغل صدر حياته برعي الغنم وقال:كنت أرعاها علي قراريط لأهل مكة، كما ثبت أن عددا من الأنبياء اشتغل برعايتها، وقد أحاطته العناية الإلهية وهو في تلك السن المبكرة من جميع مظاهر العبث أو اللهو التي كانت شائعة آنذاك، لقد جمع الله لنبيه منذ صغره خير ما في طبقات الناس من ميزات ،وكان طرازا رفيعا من الفكر الصائب والنظر السديد، ونال حظا وافرا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستنتاج الحق، وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشئون الناس وأحوال الجماعات فأبى ما فيها من خرافة ونأى عنها، ثم عايش الناس على بصيرة من أمره وأمرهم ، فما وجد حسنا شارك فيه، وإلا عاد إلى عزلته العتيدة ،فكان لا يشرب الخمر ،ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدا، ولا احتفالا، بل كان من أول نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة ، حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى. ولا شك أن القدر حاطه بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا ،وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحمودة تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها، روى ابن الأثير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب ! فقال :أفعل ، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفا ، فقلت ما هذا ؟ فقالوا عرس فلان بفلانة ، فجلست أسمع فضرب الله على أذني فنمت ، فما أيقظني إلا حر الشمس فعدت إلى صاحبي فسألني ، فأخبرته ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك ،ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة .. ثم ما هممت بسوء". وروى البخاري عن جابر بن عبدالله قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة ففعل فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء (أي نظر لأعلى وتعلقت عيناه بالسماء) ثم أفاق فقال: إزاري، إزاري، فشد عليه إزاره، فما رؤيت له عورة بعد ذلك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأعزهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وألينهم عريكة (العريكة: الطبيعة والمعاملة) وأعفهم نفسا، وأكرمهم خيرا، وأبرهم عملا، وأوفاهم عهدا، وآمنهم أمانة، حتى سماه قومه "الأمين"؛ لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجرا إلى الشام في مال خديجة رضى الله عنها ، وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال ، تستأجر الرجال في مالها ليتاجروا لها، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدما إلي الشام.