إن في مقاومة العشق هزيمة

33 2 1
                                    

كلما ابتعدنا عن العشق، زاد اقترابه منا. وكلما ظننا أن المسافة بيننا وبينه واسعة، نراه يتربص بنا ويحوقنا من كل جانب. وكلما كبر إنكارنا للعشق، نجده ينبت ويتبرعم في الأرض الجرداء التي حصدناها لكي لا يجد طريقا إليها. وينبعث من القاع المظلم الذي وأدنا به مشاعرنا، يكبر، يتعالى، ويتعاظم. حتى نراه يغلف اجسادنا بإزاره الموهن. ويثبت لنا ان الهروب من العشق كالنقش على الهواء. وأن الملاذ منه كالتمسك بقارب مخروق في عَرَض البحر؛ غارق لا محال. وليؤكد لنا أننا لا نستطيع أن نخلق العشق، بل أنه يولد بعد معانات لإجهاضه.
فعندما امتشق سيفه ليغرسه في قلبي، فتحت له صدري على مصراعيه. وترتكه يفعل بروحي ما يشاء. وأمنت به حق الايمان، وتقمصت مبادئه. لم أقاوم أبدا فقد علمت أن في مقامة العشق هزيمة وأن التسليم له نصر.

تابعني السحاب وهو يسبح في قبة السماء. واسترقت الشمس السمع من خلف الغيوم. فلم يرى السحاب سوى خطوات مترنحة ونظرات غائمة مشتتة. ولم تسمع الشمس سوى الصمت المطبق الذي غلف كياني. تناولت حجرة وأخذت أركلها وأتجه نحو هبوطها وأعيد الكرة. وكأنني أحاول أن اعطيها أمر القيادة. ركلتها بقوة فسقطت عند مدخل كبير. تحفه أشجار مقوسة مائلة على الجانبين؛ وكأن أثقال الحياة امتطتها. كان المكان ينذر بالكآبة. دخلت فشعرت أن المكان تلفه يد الحزن، وتعانقه رائحة الفُقد. كانت هناك قبور مصفوفة ومنتشرة في كل مكان، وتتوافد من قربها أصوات احسست أن عمائدي هدمت لأجلها، وشعرت ان الهواء انكمش داخل رئتي حزنا عليها، وأصابتني قشعريرة شفقة جعلتني أرتجف من أعلى جسدي حتى أسفله. رحت أمشي داخلها كأبله يلقي بنظراته الى كل زاوية. ورحت أقرأ بعض العبارات التي نقشت فوق شواهد القبور. فقرأت " وما عجبي موت المحبين في الهوى ... ولكن بقاء العاشقين عجيبُ " ومن تحتها نقش بشكل عريض وخط رصين " المتنبي "
وأخر كان ل " عروة بن حزام " "وإني لتعروني لذكراك رعدة ... لها بين جسمي والعظام دبيبُ "
استوقفني مشهد تربع طويلا داخل ذاكرتي وأثبت حضوره الدائم. كان لشاب خر ساقطا على الأرض، معانقا تراب أحد القبور. وكانت دموعه تتسابق، أيها ستسقي التراب أولا. كانت غزيرة كأمطار نوفمبر. وكان يرتجف كجناحي بعوضة. حاول أصحابه أن يبعدوه وان يربتوا على كتفه لعله يهدأ قليلا. ولكنه كان كمن يعيش بعيدا، كمن تخلى عن جسده يتخبط واخترق بروحه القبر. الذي إنطفأ داخله ضوء القمر الذي كان يتهادى عليه في لياليه القاسية، وسكنت به عيناه التي ميز بها ذلك الضوء. حيث أعدموا الأمل على أعمدة اليأس، ونحروا السعادة بسكين الفراق. فخطر بعقلي سؤال مبهم، هل الفراق يؤلم بذلك القدر؟ حاولت أن ألملم اشتاتي المختبئة خلف جدران الشفقة، وأن أكفكف العبرات التي هطلت مواسية لدموعه، وأن أعيد الثبات لقلبي المنكمش داخل صدري بشهيق وتنهيدة لم يخرج معها سوى الأسى. تركته وذهبت، حين هدأ جسده وصمت صوته؛ وأعتقد أنه لم يصدر أي صوت من بعدها.
خرجت مسرعا من المقبرة أحاول الحفاظ على جسدي واقفا.
فكانت السماء قد إكتست بوشاح اسود رقيق، وغابت الشمس إلا من بعض الخيوط المتمردة بحبها للسماء. كان عليّ أن أجد مكان ألوذ إليه قبل أن يحل الليل. فأوقفت أحد المارة وسألته اذا ما كان هناك نُزُل يلجأ اليه المسافرون. فضحك مني باستهزاء وقال: ألا تعلم أن مدينتنا لامكان فيها للمسافرين؟ مادمت هنا فأنت اذا أحد من أفرادها. لكن إن كنت جديدا فتوجه الى محكمة العشق، فهناك قد يهبك القضاة بيتا تسكن فيه ريثما تصل.
لم أعلم عن أي وصول كان يتحدث، ولم اسأله لأنني كنت في حالة لا يسعني أن انطق بأي حرف إضافي.
ذهبت الى مبنى المحكمة وكان يتوسط المدينة. ربما أستطيع أن اسميه قصرا لشدة ضخامته. يوفد بابه الخرجي إلى ساحة واسعة، يحيطها سور من جميع الأطراف، وترقد بعض المقاعد على جوانب الساحة. وفي الوسط بركة ماء. وكان المبنى متكون من ثلاث طوابق، يتعامد منهما ضلعين اسطوانيين. وفي وسط المبنى المزركش بنقوش فاتنة، باب خشبي صخم ذو قسميين. كان المكان يضج بالناس؛ فالعشاق دائما مظلومون، وظالمون. ويبحثون عن حكم ينصف عشقهم.
أخبرتهم أنني جديد هنا وتحدثت عن قصتي وكيف دخلت. فأعطوني بيتا على طرف المدينة، وقالوا لي أن صاحب هذا البيت قد وصل، وأنه الأن خالي ويمكنني أن أعيش فيه حتى " أصل.... "

قارِعَةُ العِشق. حيث تعيش القصص. اكتشف الآن