" إن لم يصل بنا الحب الى الجنة فلا تعويل عليه "

35 2 0
                                    

خرجت من البستان واتجهت عائدا الى شارع المدينة الرئيسي.
فجذبني الانتباه الى الرجل الذي كان يلقي الشعر أنه مازال مكانه.
وشدني صوته الحزين لأسمع ما يلقيه.
اقتربت منه، كان ينزوي جالسا على عتبة الطريق، وصوته اشبه بنحيب مخنوق. كان وجهه مشرقا باليأس. وعيونه تمطر ماءاً يسقي وجنتيه فتذبل. وزحف الشيب فوق ذوائب شعره. وكلما ابتسم او قفزت ذكرى سعيدة في صحراء ذاكرته القاحلة، حاق بها غوغاء الألم وأشقياء البؤس فسبلوها منه ونحروها. وكان الناس من حوله يطربون ويكفهِرّون، يفرحون ويحزنون، يرقصون ويتلَوون، يثملون ويخشعون، يقهقهون ويبكون.
فسمعته يقول:

تَعَلَّقَ رُوحِي رُوحَها قَبْلَ خَلْقِنا ... ومن بعدما كُنَّا نِطافاً وفي المهدِ
فَزَادَ كما زِدْنا فأصْبَحَ نامِياً ... فَلَيْسَ وإنْ مُتْنَا بِمُنْفَصِمِ العَهْدِ

فعرفت صاحب البيتين. ولكن أحببت أن اتأكد بنفسي. فاقتربت منه وقاطعته سائلا: هل أنت صاحب هذين البيتين.
فقال: نعم أنا هو. أنا جميل بن معمر العزري
- اذا انتم من قيل فيهم" قوم اذا احبوا ماتوا "
- نعم نحن بشحمنا وألمنا.
- ماسبب هذا الحزن الجاثم على صدرك؟
- وهل هذا غريبٌ عن العشاق؟ اذ لا يعيش العاشق صحيحا بدون ألم، ففي العشق لا طعم للراحة.
- من سبب لك هذا الألم هل هي بثينة؟
فرأيت دمعة تمردت على أهداب عينه. فقلت: مالذي يبكيك
فأطرق يقول:

‏إذا خطرتْ من ذِكر " بَثْنةَ " خطرةٌ ... عصتني شؤون العين فانهلَّ ماؤها !

اعتذرت له، وأخبرته أن يحدثني عن بعض المواقف التي مر بها مع بثينة.
فقال: من أين تريد أن أبدأ؟.
-  عن بداية اللقاء.
فأخذ يقول:
خرجت ذات صباح قيظي حار، مع اشراقة الشمس على سماء صافية. مع قطيع الأغنام لكي أرعاه. واتجهت نحو مكان يقال له " قرية العشاق " ويعرف بوادي القرى أيضا. كانت المنطقة تتسم بعذوبة نسماتها، وهوائها النقي الذي لا تشبه شائبة. وكان القرية محطة للشعراء، حيث يقصدونها من كل صوب وجانب. لكونها موضع إلهام لهم.
فالتقيت ببثينة وأهلها، وكانوا ايضا قد جاؤوا لرعي الأغنام.
فشردت من قطيعي غنمة، واتجهت نحو قطيع بثينة. فضربتها بثينة بعنف وطردتها. فغضبت لذلك، ورحت ارغي وأزبد وألقي بالسباب والشتائم على بثينة. وكانت ترد علي هي ايضا بسباب يماثله. فاستملحت سبابها وأعجبني كلامها الغاضب. ودخلت الى قلبي كما دخلت الشتائم اذني. وأخذ ينشد والحسرة بادية على ملامحه:

وأوّلُ ما قادَ المَودّة َ بيننا، ... بوادي بَغِيضٍ، يا بُثينَ، سِبابُو
قلنا لها قولاً، فجاءتْ بمثلهِ، ... لكلّ كلامٍ، يا بثينَ، جوابُ

- أعتقد أن هذه أغرب طريقة للوقوع في الحب.
وتابع:
وبدأ حبها يتأجج في قلب ويثور، فكانت كل الوجوه تتمثل بها، وكنت أسمع بالأصوات نبرتها.

أظلُّ، نهاري، مُستَهاماً، ويلتقي،...مع الليل، روحي، في المَنام، وروحُها
فهل ليَ، في كِتمانِ حُبّيَ، راحة ٌ،...وهل تنفعنّي بَوحة ٌ لو أبوحُها!

واخترت أن أبوح ولو لم تنجح. فوجدتها تكن في سرها اضعاف مشاعري.

- وهل تزوجتما؟
- طلبتها من والدها، فضن علي بها ومنعها عني. ولم يكتفي بذلك، بل زوجها لغيري لكي أنساها.
- وهل نسيتها؟
- بل تعلقت اكثر واكثر.
- وما سبب فعلته تلك؟
- ببساطة لأنني أحبها.
صرخت باستغراب يا إلهي أي سبب تافه هذا.
- ربما تراه تافه لكنه كان سبباً لا يرجع عنه، ولو كان المقابل روحه، أو روح إبنته. فيقتلها ويدفنها بيديه على أن يزوجني إياها.
لأنه لو زوجني إياها، سيلحق العار بأبيها وأهل قبيلتها.
- إذا بقيت أثار الجاهلية جاثمة الى ذلك العهد؟

- بل نحن من نأسر أنفسنا داخل سجن الجاهلية، أو ما نسميه اليوم عادات وتقاليد مقيتة. ونضع لها قوانين صارمة. فمهما كان المجتمع يعج بالوعي، ستبقى هناك أفكار موبوءة وتكون هي السمة المسيطرة على المجتمع.
- وماذا فعلت بعد ذلك؟
- أصبحت ألتقي بها سراً مخافة اهلها وحفاظا على روحي التي أهدرها لهم الأمير.

أطبق يديه في ألم وحسرة، ونظراته كانت شاردة في أفاق الذكريات، وأخذ ينشد بنبرة زاد عليها الحزن والألم اثقاله:

ألا قاتل الله الهوى كيف قادني ... كما قيد مغلول اليدين أسير

شعرت أنني فتحت جرحاً في روحه لم يلتأم يوما، وراح يثعب منه قيح ذكرى مؤلمة. وأخذت أنظر اليه بعطف دون أن انبث ببنت شفة.
فقال: لا عليك. صحيح أنني قد وقعت في هذا المستنقع المارق. إلا أنني سعيد به.
هززت رأسي دون أن اصدر اي صوت، فقال: هل بقي لديك اسئلة أخرى، فالناس قد بدأت بالتململ.
- نعم هناك واحد أخير. إن معظم أشعارك تنبض بالطهارة والحياء، وتلك صفة تفتقرها معظم أشعار الغزل.
- ان الحب لا يقاد الا بالحياء، ولا يدوم إلا بالطهارة، ولا يصمد إلا بالعفة.  بعض البشر تصبهم نوبة أهواء فيظنوها حباً. فينالون لقاء في الدنيا، ولا يصبهم ريحه في الأخرة.
إن لم يصل بنا الحب الى الجنة فلا تعويل عليه، والحب هو أن يصل المحب بالمحبوب الى المحبوب.
- اذا ماذا تقول عن حبك ببثينة؟

خليلان لم يقربا ريبة ... ولم يستخفى الى المنكر

- لم يتأن الوقت في حضرتك ومر سريعا كغمام عابر، وعلي الرحيل الأن فأرى أن اصحابك قد غضبوا مني.
- حسنا. لكن لدي طلب منك.
- تفصل فطلبك مجاب.
فأخذ يقول:


‏أبلغ بثينة أني لست ناسيها ... ما عشتُ حتى تجيب النفس داعيها
بانت فلا القلب يسلو من تذكرها ... يوما ولا نحن في أمر نلاقيها

ثم ودعته ومشيت، وبقي هو يلقي على مسامع اصحابه معشوقهم الذي هاموا بحبه.

قارِعَةُ العِشق. حيث تعيش القصص. اكتشف الآن