فانه ما هبط شخصٌ إلا وارتقى

34 0 1
                                    

لماذا لم أذرف دمعةً واحدةً، وهم كانوا ينهمرون بالبكاء؟ هل رقدت مفاتن الحياة في قلبي حتى أغشته لهذا القدر؟ لمَ لمْ  تحرك آيات القرآن سريرتي، والرجلان يهتزان خشوعاً لها؟ كم أردت لو أبكي. ليس خشوعاً، إنما آسىً على نفسي المعلقة على حبال الذنب توشك أن تسقط من تحتها كرسي المغفرة واللطف. كم شعرت بتقصيري في تلك اللحظة، وكأنن عشت حياتي راكضاً من ذنب لألهث عند أخر. أردت أن أُقيم مأتماً على نفسي التي لم أملك أي عزاء لها غير الندم. توقف الرجل صاحب العمامة الطويلة عن القراءة. حاول الشيخ مسح سحنته الزائغة في حبور واكفهرار، ببسمة حولت ملامحه الفارسية لوداعة ولطفٍ خام. حياني باحناء رأسه، وقال لي: قدمت أهلاً يا بني، أعتذر منك على تأخر ترحيبي بك، وإكرام حقك. فلم أرد أن أقطع جلسة بين يدي الخالق من أجل مخلوق.
- لا عليكَ يا شيخي، شكراً لاستقبالكم لي.
- حباً وكرامة. يبدوا أن التعب أخذ منك مبلغه، ولا بد أنك جائع.
- بلى، فقد صعدت الجبل ولم أحسب حساباً لسفري، واعتقدت أن الصعود لقمته أمر بسيط.
- لا عليك، هيا قم لنأكل سوياً.
جلسنا إلى مائدة بسيطة، تحتوي على تمر، وجبن، وكؤوس حليب، وبعض كسرات الخبز. أنهينا طعامنا وشرعنا نتعرف على بعض. وعرفت أن الرجلين إخوة في الروح، خليلين في الجوهر. أخويين يتشاطران قلباً واحداً، وحباً واحداً، وروحاً واحدة. حينها تعرفت على مرتبة متقدمة في العشق، لا يصل لها سوى القليل. مرحلة تأخذ بأصحابها نحو ظل الرحمن، يوم لا يقي من قيظ الشمس سواه. رجلين تحابا في الله، وتفرقا عليه، واستعانا على الصداقة به. كانت صورة الصداقة مرسومة في عقلي على أنها فراق وتخلٍ، وغدر وخيانة. هنا رأيت مثالا صرخ في وجه تلك الفكرة فسقطت مذعورة. ففقهت تعريفاً جديداً للصداقة؛ وعرفت أن الصداقة شيء يتأرجح فوق هوة سحيقة، فإما أن تتلقف حبل الله وتقواه؛ فتدوم إلى الأزل. أو تسقط الى الهوة المغفرة بثعابين المصلحة وعقارب الغاية؛ فتزول دون عودة. قصصت عليهما قصتي، وساررتهما بنيتي على مغادرة المدينة. فقال لي العجوز " شمس الدين التبريزي " هناك طريقٌ واحد للمغادرة. فاتسعت حدقتا عيني بأمل سكب دفعة واحدة بهما، وانفرجت شفتاي عن ابتسامة رقصت فرحةً. وأصغيت بكل جوارحي، لكي لا أنسى كلمة مما سيقوله. فتابع كلامه: لكنك قد وصلت الى منطقة الوسط من الشيء ونقيضه، كالأعراف بين الجنة والنار. لكنك مخيرٌ الأن، إما أن تصعدَ وتترك العشق وشأنه، أو تهبط لتغرق به. لكن عليك أن تعي أن الهبوط سيولد ألماً، ويمنحك انكساراً، ويهديك سهاداً لا نهاية له. فلك القرار وليّ النصيحة، وإن أردت مشورتي فأنصحك بأن تهبط! فانه ما هبط شخصٌ إلا وارتقى سلم الروح. فهناك في القارعة؛ قارعة العشق، ستعي الجدوى من الوجود، ستتعلم كيف تتحكم في روحك وتتحرر من قيد الجسد وقضبانه. في رحاب العشق اللامتناهي، ستغيب في قسمات وجه من أحببت، وتختلج لرؤى صورته، ويغمى عليك من موسيقى صوته. فان أردت الخروج من هنا فاهبط، واذعن لما يمله عليك القلب على لسان الحب، فهو الوحيد الوصيّ عليك دون غيره وسواه.
- وهل هبطت أنت في هذه القارعة؟
- لم أهبط فقط، بل ابتعلني الحب ولم يلفظني بعدها أبدا. لقد وصلت لأعمق طور في العشق. العشق الإلهي والعشق فيه.
ثم صمتنا ردحاً من الزمن دون أن نتكلم،نراقب سكون الجبل بعد أن هبط عليه الليل وأظلمت من فوقه السماء.
- ما الذي جعلكم تنتحون هذا المكان القصيّ عن المدينة والعمران، وفي كوخٍ بدائي والمدينة تعج بالبيوت وصخب الحياة.
- نكتب القواعد.
- القواعد!
- قواعدٍ في العشق، أتوصل اليها بمساعدة صديقي جلال " جلال الدين الرومي " عن طريق التجربة والعزلة والتمرس.
- أيّ قواعد تلك؟ لو تكرمت بسردها عليّ، علني أستفيد بها، فقد قالت روح: أن العشق يؤخذ بمجالسة العشاق، وتلقف العشق منهم.
- لك ذلك يا بني، هذه أخر القواعد التي توصلت اليها " إن كل قارئ للقرآن الكريم يفهمه بمستوى مختلف بحسب عمق فهمه، وهناك أربعة مستويات من البصيرة: يتمثل المستوى الأول في المعنى الخارجي، وهو المعنى الذي يقتنع به معظم الناس. ثم بأتي المستوى الباطن، وفي المستوى الثالث يأتي باطن الباطن. أما المستوى الرابع فهو العمق، ولا يمكن الإعراب عنه بالكلمات، لذلك يتعذر وصفه.
- لذلك لم تند مني أي دمعة حين سمعت الصوت الشجي يتسرسب في مسامعي، لأنني لم أعي أكثر من المعنى الخارجي له، ولم أدخل لمستوى الباطن.
- صحيح.
- وكيف أستطيع أن أنتقل الى بقية المستويات؟
- في الحب فقط!
- وما علاقة الحب بالقرآن والخشوع؟
- إن أردت من عملك أن يؤتي بثمره، فافعله بحب. وان أردت الخشوع فقرأ حباً بالقرآن ومنزّله، لا طمعاً بالأجر فقط.
وبقينا نتحاور ونتحدث، حتى بزغ فجر اليوم التالي، وانشترت العصافير بين الأشجار تشقشق وتعزف نغمها المحبوك بحب.
ودعتهم وداعاً حاراً، وكلي أمل أن أعود لزيارتهما في وقت لاحق. كانت تلك اللحظة فارقة في وجودي هنا. فقد عزمت المضي في مسالك العشق، حتى أصل لمبتغى الروح في الحرية، ومصرع الجسد في الغناء. وأصبحت أمشي على هدى العاشقين، وبوصلة " روح " التي لم تتوه أبداً.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Dec 09, 2019 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

قارِعَةُ العِشق. حيث تعيش القصص. اكتشف الآن