صوت حفيف سيارة مُسرعة لدرجة جنونية ممزوج بصوت بكاء مكتوم تعقبه صرخة عالية، يمسك زجاجة كانت بجواره و يتجرعها بأكملها إلى آخر نقطةٍ فيها، أراك قد بدأت تُميز رائحتها الواضحة، أراهن أنك قد شعرت بقليل من الاشمئزاز من قوة الرائحة، أجل.. خمر، قد كان هذا وضع تامر، ذلك الشاب الذي خطف أضواء المشهد بموقفه المُصِرّ على حماية لين.
"لم يفُت الأوان بعد! هذه هي الطريقة الوحيدة للتكفير عن خطئي! سأنقذها بلا شك!"
يمكنك الآن بمنتهى الوضوح ملاحظة مدى زيادة سرعة سيارته الفارهة و قد بدأت تظهر عليه أعراض السُكْر، و بازدياد علو كلماته المؤنبة لنفسه و غضبه كانت معها فقدانه السيطرة و صوت ارتطام السيارة بشجرة ضخمه كانت في طريقه. أرأيت رأسه يرتد من قوة الارتطام المفاجيء؟ أترى قميصه الأبيض؟ بالتأكيد لا تراه فقد أمسى أحمراً يا صديقي. يعرج بخطىً متعثرة تكاد تكون زحفاً في محاولة يائسة منه للتشبث بآخر طرف خيط من أمل إيجاد أخته الصغيرة و إعادة المياه لمجاريها. إصاباته كانت أكبر من أن تُوصف، أبشع من أن تتحمل النظر إليها لخمسة ثوانٍ دون أن تدمع عيناك، قاومها جميعاً و مضى متقدماً.. "سلوى، فلتحذري أن تمسيها بأذى!"
-
و بانتقال المشهد لمكانٍ آخر، يبدو مألوفاً أليس كذلك؟ أظن أنك قد استنتجت أن هذا المكان قريب لمكان صاحبنا، حيث كانت سلوى قد أنهكها الركض و قد أسندت رأسها إلى شاحنة و غطت في النوم و على ذراعها لين التي كانت تستيقظ لتصدر أنيناً عميقاً و تذرف بعض الدموع و من ثم يغلبها النعاس مرة أخرى.
كلتاهما نائمتان، في مكانٍ واحد، كلتاهما تحلمان، إحداهما تحلم بالانتقام و علامات الرضى تبدو عليها، و الأخرى تذرف دموعها بصمت بينما هي نائمة و تنادي بصوتٍ مهموس "أمي..."
-
دقت الساعة لتعلن عن بداية يومٍ جديد، يوم مصيري، كارثيّ إذا صحّ التعبير، كان هذا تفكير تامر و هو يمشي يبحث في الطرقات يجرّ خلفه قدمه المصابة و يحارب ما به من آلام و أوجاع، متابعاً تأنيبه لنفسه "سأحميها يا أبي، حتماً سأفعل"
-
تنهيدة عميقة قد صدرت لتعلن عن بدء الاستعداد للاستسلام بأنه لن يجدها، و فجأة! .. أجل!! أعتقد أنك يمكنك سماعها أيضاً!!هذا الصراخ الآتي من بعيد! أتعرف ذلك الشعور، كأنما الحياة قد دبت في روحك البائسة الخالية من الأمل؟ كذلك شعر تامر. تراه يمشي فرحاً بخطىً متعثرة سريعة، و يكمل رغم ذلك مضيه قدماً، حتى بدا له هذا الصوت و كأنه بدأ يقترب أكثر فأكثر، فأخذ يبطيء في خطواته و يمشي في تروٍ ليتسمّع جيداً مصدر الصوت.
أمام تلك الشاحنة كان قد هدأ الصوت، فأخذ الشك ينمو من جديد أنه كان يتوهم و عندما همّ بالرحيل سمع الصوت بدأ يعلو مرة أخرى و قد كان بجواره، مشى بهدوء و كله ذعر حتى طاءت قدمه أمامها، أجل، كان أمام سلوى. كان لا يرى جيداً حيث كان العرق و الدم يعميان بصره فكان لا يزال هناك بعضاً من الشك أنه قد عثر عليهما فبدأ يتحسس حتى استيقظت لين لتجده أمامها فتهلع من منظره و تبدأ بالصراخ أضعاف ما كانت تفعل! و هذه المرة تنبهت سلوى لها و قد بدأت تفيق بينما تفتح عينيها بكسل تقول متمتمة بغضب: "يا إلهي! ألا تسكتين مطلقاً؟! فلتهدأي و لو لخمس دقائق فقط، أهذا كثير؟!! لا أدري لماذا عليّ تحملك غير أنك وسيلتي الفضلى للانتقام من ذلك الحقير أسامة على ما فعله! بلا شك فأنتِ ابنته و ستكونين طعماً ممتازاً لـ.." و قد فتحت عيانها و استوعبت تلك العينين المليئتان بالدم المحملقتين فيها بلا حراك بمشهد يبعث في بدنك الرعب!
فتحت فمها على وشك الصراخ فوضع يده على فمها فأخرسها بالقوة، لذا كل ما صدر منها هو أنين ضعيف و بالطبع تحاول التملص منه و لكن بلا فائدة، في النهاية.. لا تزال.. امرأة!
"الأفضل لكِ أن تسكتي و تهدأي غصباً عنك إلى أن أرى كيف سأتعامل معك و ماذا سأفعل بك!" قالها تامر بصوت يملؤه التهديد و يتطاير شرار نظراته الغاضبة حيث قد ترتعد أنت خوفاً لمجرد النظر إليه.
اتسعت مقلتيّ عينيّ سلوى ذعراً و بدون تفكير قامت بعضّ يده و انتفضت من مكانها و في حضنها لين و قد بدأت بالصراخ عالياً: "أنقذوني! فلينقذني أحدٌ ما! يريد قتلي! هذا المجرم يريد أن يقتلني و يختطف ابنتي الوحيدة! أنقذونـ.." فأسكتها مجدداً و بدأ يتكلم بصوت متهدر متوعّد: "أيتها الوضيعة! ألم أطلب منكِ أن تسمعيني صوت صمتك؟! لقد بدأتِ تفقدينني أعصابي! إذا لم تعطِني لين في الحال و بهدوء فسوفـ.."
"ماذا تريد منها؟" قاطعه صوت أحد السكان الذي قد بدا و كأنه سمع صرخاتها.
"أنت لا تفهم! هذه الطفلة الصغيرة تكون.."
أجل.. قد توقعت، ألست على صواب؟ لم يدعه يكمل كلامه، كانت لكمته المباشرة على وجهه النابض بالجراح أسرع من أن يكمل كلماته، أجل، فقد تابع لكمه و ضربه بمنتهى القسوة و بلا أي شفقةٍ على وضعه، و سرعان ما أفاق الناس من نومهم و بدأوا بالتجمع واحداً تلو الآخر، و قد اشترك كثيرٌ منهم بالفعل في ضربه، و شيئاً فشيئاً اختفت صرخاته المتألمة، لقد فقد وعيه، و هم لايزالون.. مستمرين بضربه. أتعرف تلك المجتمعات التي تدعى الشهامة؟ إليك مثالاً بسيطاً عنها.
أوه! يبدوا أن أحد السكان قد أبلغ الشرطة، لأنه بينما كانت سلوي تُمَتّع نظرها بما يحدث سمعت صوت سيارات الشرطة آتٍ من بعيد، فانسحبت بهدوءٍ من المشهد و فرّت هاربة.
-
سارع رجال الشرطة أولاً بفضّ الشجار العنيف القائم، من طرفٍ واحدٍ بالتأكيد، فقد كان تامر على شفير الموت و قد رآه شرطيّ منهم بهذه الحال المزرية التي صار إليها فطلب منهم الاتصال بالاسعاف على وجه السرعة. فجأة.. تنبه إليه و نزل أرضاً حيث يستطيع رؤية ما تبقى من ملامح وجهه المشوهة غير واضحة المعالم، و قد بدأت ترى عيونه تكاد تخرج من محجريهما من الصدمة، هامساً في نفسه في هلع: " تامر؟!!"
أخذ يصرخ في رجال الشرطة: "لماذا لم يصل الإسعاف حتى الآن؟!!!"
"سيدي، لقد اتصلت بهم و هم في الطريق الآن"
صاح مرتبكاً: "لا لا لااا!! هذا لن يُجدي نفعاً أبداً!! تامر لن يقدر على تحمل هذا! لن يصمد! فلتحملوه معي سريعاً"
"شاكر! ما الذي تنوي فعله؟!"
"لا تقلق يا توفيق، سأنقله أنا إلى أقرب مستشفى"
"سآتي معك، لأساعدك على الأقل"
و فوراً كان كلاً من شاكر و توفيق بصحبة تامر في المستشفى، فترى شاكر لم يفارق صديقه تامر حتى حال بينهما باب غرفة الطواريء.
-
أخذ تنهيدةً طويلةً و جلس ليستريح قليلاً و بدأ يفرك عينيه من الإرهاق. "كم الساعة الآن؟" و قد أخرج جواله ليتفقد الوقت ليراه قد تجاوز الرابعة فجراً و هناك ٩ مكالمات لم يرد عليها، كما ترى على الشاشة، باسم (حبيبتي نورا).
" توفيق، هل أذّن الفجر؟"
"أجل، منذ قليل، أعتقد أنهم سيقيمون الصلاة بعد بضع دقائق، لماذا تسأل؟ هل ستذهب لتصلي؟"
"أجل و لكن قبل هذا لقد اتصلت بي نورا ٩ مرات، لقد قلقت لأنني لم أرجع"
"أليست تستيقظ قبل الشروق لتصلي الفجر؟ فلتتصل بها حينها لتطمئنها"
-
انقطع الحديث و ساد الصمت لدقيقة أو اثنتين قطعه صوت أنين شاكر، فهدأه توفيق بقوله: " فلتصبر، أعلم كم يعني لك تامر و لكن فلتهدأ قليلاً، سيكون على ما يرام"
"بإذن الله سيكون بخير.... انتظر لمَ لا تزال هنا؟ فلتعُد إلى منزلك و إلا فسيقلقون عليك و أيضاً.."
"لا تقلق، لقد اتصلت بسالي و أخبرتها أنني لن أرجع الآن"
"يا رجل لا أدري حقاً ماذا أقول و لكن شكراً لك"
" ياا إلهي!! ألا زلت تقول تلك الكلمات؟!"
-
لحظاتٌ من الاضطراب، الممرضات مسرعات، تدخل واحدة و تخرج أخرى و حالة من التوتر تعم الأجواء، و تعلو معها صوت دعوات شاكر "يااااا رب!"
-
رجع شاكر و توفيق إلى المستشفى بعد أن قاموا بالصلاة في ذلك المسجد المجاور، و بينما كان شاكر يهُمُّ بالاتصال بنورا يجد يداً توضع على كتفه، ينظر خلفه و قلبه يتسارع بالنبض ليجد الطبيب و على وجهه علامات الأسى، كانت كلماته أسرع من أن يستوعبها، "أنا آسف و لكن صديقك قد......."
أنت تقرأ
مجهولة المصدر
ChickLitعندما تصبح محاولة كشف الحقائق المخفية لعائلة ثرية اشبه بالكابوس، فهل يبقى أمل لاستعادة ما تبقى من أمل؟