الفصل الخامس

2.9K 116 1
                                    

فصل الخامس " ها قد عاد الشغف ! "
اشرأبت بعنقها وهي تحاول الوصول للحبل الأخير من المنشر لتضع عليه الملابس المُبتلة وبينما هي تنحني بجزعها العلوي كي تصل إليه فاجأها صوت مألوف بالنسبة إليها في الشقة المقابلة لبيتهم بأنها على وشك الوقوع من الشُرفة
رفعت بصرها لأعلي لتتسع عيناها بصدمة وهي تُبصره ماثلاً أمامها بكل قوة وعنفوان كما كان .. وكما لم يتغير .. وكما لم يرحل !
تمتمت باسمه بشرود وعينيها مازالت تؤازر خاصته بشوقٍ عارم
"حازم !"
ابتسمَ بطرف شفتيه كعادته ملوحاً لها بترحيب ، بينما هي ازدردت ريقها باضطراب وهي تراقب ملامحه التي لم تتغير !
زبرجديتاه مازالت تلمعان في ضوء الشمس كما أخبرته في صغرهم ، طابع الحُسن المُزين لذقنه مازال غائراً كحُبه المحفور بقلبها حتي الآن !
"مريم"
خرجت همسه خافته من بين شفتيه إلا أنها سمعتها بوضوح أو أن قلبها تلقاها حالما نطق حروفها بتمهل وتأنٍ..
"حمد لله علي السلامة"
أردفت باضطراب جلي وهي تضع الملابس المُبتلة بعشوائية علي الحبل وتهم بالدخول حتي لا تفضحها عيناها أكثر من اللازم
"سلميلي علي طنط مُنيرة وقوليلها إني هزورها قريب .. قريب جداً "
ابتسمت له مُجاملةً ثم أخذت الإناء الذي وضعت به الملابس ودلت للداخل وقلبها يقرع الطبول !
وهي تفكر داخلها ما الذي يقصده بقوله أنه سيزورهم قريباً !
كم الممكن أنها زيارة عادية ليعوض بها غياباً قد دام لثماني سنواتٍ في الخارج
كما هو لم تتغير ملامحه التي اعتادت علي مُقابلتها يومياً مازالت تتوهج بذلك البريق الصباحي وانعكاس الشمس علي عينيه في كل صباح يُشرق وظُهرٍ تنتصف به الشمس .. أما في الليل  فالقمر ينعكس علي وجهه بأكمله !
كادت أن تذهب لإخبار والدتها حتي عادت بضع خطوات للوراء وهي تتذكر أنها منذ البارحة وهي حزينة علي ما حدث عند ذلك الشيخ المدعو مبروك ..
عضت علي شفتيها بقوة وهي  تحاول استجماع الشجاعة لإخبارها لكنها كانت في كل مرة تتراجع وتُخبر ذاتها أنها ستكون بخير وستتحسن إلا أن رفضها للطعام كان الطُعم المنشود لتُدلي بكل شيء ...
اقتربت حتي جلست بجانبها علي الأريكة وأردفت بتعلثم وهي تفرك يديها بعصبية
"ماما كنت عايز أقولك علي حاجة "
التفتت إليها مُنيرة بابتسامة خافتة ولم تُلاح الاضطراب البادي علي وجه مريم المصفر
"قولي يا مريومه "
وأمام عيني والدتها الواهنتين واصرارها علي التخلص من الثقل الجاثم علي صدرها اندفعت في الحدي غير تاركة المجال للتفكير أو المقاطعة
"يوم ما كنا عن الشيخ وقال الكلام بتاع إن عليا سحر إسود وكدا .. أنا اللي كنت قايلاله يقول كده عشان أنا مكنتش عايزة الجوازة دي ولا أميرة كانت عايزاها ونحمد ربنا إنه خلصنا من شر العقربة اللي اسمها أم مصطفي "
في كل حرفٍ كانت تنطقه كانت تتبدل قسمات وجه مُنيرة من الهدوء إلي الدهشة ثم للغضب إلي أن توهجَ وجهها بالغضب العاصف !
وعلي حين غُرة أمسكت  يدها لتقف أمام وجهها وهدرت بها بعصبية
"نعم يختي !! .. يعني الفضيحة اللي حصلت دي بسببك وبسبب الست أميرة اللي مش عايزة الجوازة دي تتم !! ما طبيعي تكون مش حاباكِ ولا عايزالك الخير يا غبية"
وبالمثل تحدثت مريم وهي تلتقط ذراعها من قبضة والدتها القوية
"خير ؟؟؟ إنتِ بتسمي الجوازة دي خير !! .. طب قولي الشوم .. الندامة .. السواد .. إنما خير دي لأ
عايزاني أتجوز مصطفي اللي أمه ممشياه وممشية بيته ولا أكون زوجة تانية وأعيش مع النكد العابر للقارات اللي اسمها أم مصطفي ، وبعدين إنتِ متعرفيش أميرة كانت عاملة  إزاي إنتِ ظلماها "
حدجتها منيرة بنظرة ثاقبة قبل أن تتابع مريم بعصبية شديدة أمام تلك الواجلة بقلبٍ مُنتفض حزين
"أميرة جت البيت وإنتِ برا واترجتني إني أأخر الجوازة شوية علي ما تتأكد من خبر حملها بس العقربة دي قالتلها إنها هتروح للشيخ اللي اسمه مبروك فقلت مبدهاش بقي لا أنا عايزة الجوازة ولا هي وده حقها .. بس نقول إيه بقي ربنا ينتقم "
لطمت منيرة علي صدرها  وهي تغمغم بشرود ، تنظر للسماء كأنها تطلب العون .. العون في أن يخفف القلق المحيط بقلبها ... تناجي سعة الصدر وراحة النفس
"حرام عليكِ يا مريم .. حرام عليكِ يا بنتِ ، إنتِ متعرفيش عملتي إيه ... إنتِ فضحتي نفسك بنفسك .. عارفة الناس هتقول عليكِ إيه دلوقتي ؟؟  عملتِ لنفسك سُمعة و إنتِ مش ناقصة "
أصابت حديث والدتها وترًا حساسًا داخلها ، نظرت إليها بألم ثم بابتسامة باهته ارتسمت بعدما بللت شفتيها الجافتين بقدر حديث والدتها ثم نطقت بخفوت كان كالهمهمة لكنها واضحة يتجلى بها الحسرة
"خلاص يا ماما مش هجيب لحد الكلام تاني وأي عريس هيجي هوافق عليه "
ثم دلفت لغرفتها سريعاً قبل أن تلتقي بعيني والدتها النادمتين .. وحتي لا تشفق عليها عيناها وتذرف الدموع علي حالها البائس ..
...........
"بصي يا شوشو بقي أنا بحب أعمل الأكل بنفسي وزي ما إنتِ شايفة إحنا اتنين بس في البيت ومفيش تنضيف كتير ف أغلب الوقت هنقضيه مثلاً ف المطبخ لأني بحب أعمل حلويات و.."
تابعت شيماء كلام هيام عن حياتها وروتين يومها بشغف ، تشعر أن لتلك السيدة هالة من القوة والبشاشة التي لا تنضب أبداً تُحيط بها لتكتنفها شيئاً فشيئاً حتي غابت في دوامة حنانها
اسبوعاً قد مرَّ وقد تناست حائطها المائل وتناست حياتها في ذلك الحي الضيق ، لكن شيئاً وحيداً مازال يذكرها بهناك ، يربطها بكل ماضٍ عاشته وحاضراً تحياه .. والدتها التي لن تتخلي عنها أبداً
انتبهت من شرودها علي هيام وهي تعبث بأحد الأكياس
"دي الكريمة أنا بحبها بالشوكلاتة ، إنتِ بتحبي إيه ؟"
أجابت شيماء وهي تبتسم بهدوء بعد أن تعودت علي طبع هيام وأسلوبها في احتواءها كابنتها
"بحب الفراولة"
"اممم تمام نعمل نصها شوكلاته ونصها فراولة وكده كده أنكل عماد بيحب الشوكلاتة بردو "
هتفت هيام بنشاط وهي تتحرك بخفة في المطبخ كفتاه عشرينية ، تتنقل بين الأواني والكؤوس ليأكل الجميع من صنع يديها ..ومازالت روح الدعابة لا تفارقها أينما ذهبت
الروح الجميلة هي التي تصنع الفرق .. فمثل هؤلاء الناس يعيشون حياة سعيدة فقط لأن روحهم جميلة ، لا مجال في حياتهم للغرور أو التنمر !
فقط هم ليسوا كالذي يؤرق مضجعهم سيارة اشتراها جارهم ، أو أن صديقتها رُزقت بمولود بينما هي لا !
هؤلاء حياتهم علي جمر أخره رماد !!
استيقظت فزعة في الليل وهي تسمع باب الشقة يُفتح ثم يُغلق ، وأقدام تسير بهدوء كأنها تمشي علي أطراف الأصابع قاصدة عد إحداث أي صوت ..
ازدردت ريقها بصعوبة وهي تراقب الموقف من وراء باب غرفتها الذي فتحته فتحة صغيرة حتي تستطيع النظر
مازالَ ذلك الضخم ذو الهيئة السوداوية يقترب حتي أن حقيبته المملوءة بالأشياء قد فتحت وخرجَ منها مسدس
شهقت بقوة قبل أن تغلق الباب ليصدر صوتاً ويتقدم ذلك الرجل الذي ظهر شكله في نور الطُرقة الصغيرة المطلة علي غرفتها
اقتربَ ببطء وهو يعد بعقله واحد .. إثنان ... ثلاثة ثم ضربة داهمته علي رأسه بخشب السرير وشيماء تصرخ عالياً وهي تطبق علي أنفاسه مُمسكة إياه من تلابيب قميصه
"حرامااااي .. حرامااااي .. يا عماد بيه .. الحقوناااي "
أتي علي تلك الجلبة عماد الذي قام مُنتفضاً من فراشه وخلفه هيام التي كنت تُحكم ارتداء روبها الوردي والتي ما إن أبصرت  أمامها بعد أن أشعلت الضوء حتي هتفت وهي تضع يديها علي وجنتيها
"ابني !! "
....
حدقَ بصدمة في الواقفة بعيداً بأعين فاحصة وقلب مُرتجف متواري رغم لمعة عيناه الفاضحة
ازدردَ ريقه علي مهلٍ قبل أن يتشدق ببلاهه وهو يُشير تجاهها
"سمر هي اللي واقفة هناك دي زهراء"
استقبلت سؤاله بترحيب لتوجه بصرها هي الأخري حيثما نظر لتتفاجأ ويتدلي فكها من الصدمة هي الأخري!
أوماءت بصدمة وهي مازلت مشدوهة .. لم تتوقع أن زهراء ستنجح لهذا الحد بمهمتها!!
"كده اللعبة إحلوت علي الأخر وبقت ...وتكة!"
كتمَ همهمته داخله وهو يطالع تلك التي وقفت ببنطال جينز فاتح تعلوه كنزة صوفية من اللون الأبيض ومُطلقة العنان لشعرها الأسود الغجري علي ظهرها بينما نظارتها الشمسية قد رفعتها أعلي شعرها لتعطيها مظهرًا قوياً ينم عن أناقة ..
ما فاجأه بشدة أنها تخلت عن مساحيق التجميل وأحمر شفاها ذو اللون الأحمر الزاهي !! لكنها مازالت تحتفظ بخلخالها الرنان فهمها ابتعدت ستظل ابنـه تلك الحــارة ..
رمقته ببرود قبل أن تتخطاه وتدلف لمنزلها في إشارة لسمر أن تتبعها .. طالعتها الأخيرة بصدمة جليّة ثم ابتلعت دهشتها وما كانت تتقدم إلي وجهتها إلا وقد أمسكها يافوز من ذراعها هاتفاً بحنق مع ادعاء عدم الفهم
"إنتِ راحة فين ؟ "
تفضا ذراعه عن يدها ثم همهمت بخفوت
" راحه عند زهراء في مانع ؟"
أجاب بثباتٍ كاذب
"لا مفيش بس متتأخريش"
كانت نظراته مُثبته علي منزلها .. مجرد فضول .. فضول يجعل حدقتيه تضيّقان بتفكير كالزجاجة البالية التي وقعَ عليها الطلاء لتتحول بعد أيام بفعل عوامل التعرية إلي ماسة ... وهذا ما ظنه مُستحيل !!
....
تتبع رائحة الحُب .. لكن لا تقربه !
وقفَ يميل علي باب المتجر الخاص بوالده يراقبها وهي تتحدث مع بائعة الخضار وتبتسم تارة وتعبس تارة .. يُقسم الآن أن في وسط تجهمها لفظت شتيمة نابية من فمها المقوس بتلك الريبة
همهم ساخطاً بقلة حيلة
"مفيش فايدة فيكِ حقيقي ... "
كاد أن يدلف للداخل إلا أن فوجئ بصوت بكاء عالٍ فالتفتَ بلهفة علي استعداد  لمساعدتها إلا أنه وجدها مُنحنية تساعد الفتاة الصغيرة التي تبكي بشدة وقد جُرحت ركبتيها والدم سائل من فمها .
وقفَ يافوز يراقب الموقف بأعين تفيض بالشغف واللهفة فكانت حانية علي الفتاة تهدئ روعها بهدوء وتنفض التراب من علي ملابسها وتكتم داماءها بالمناديل التي كانت في حقيبتها السوداء
ثم ما إن انتهت استدارت لشاب يبدو أنه زوج تلك الفتاة الصغيرة وعنفته حتي أنها أمسكته من تلابيب قميصه وهمست إليه بشيء لم يسمعه
بينما علي الجانب الأخر كان الشاب يحاول الإفلات من قبضتها وهي مازالت تحدجه بشراسة هاتفه بحنق
"عارف لو عملتلها حاجة تاني .. والله لأوديك القسم ! ، مش هستني لحد ما تموتها وزي ما أمك العقربة دي جوزتهالك هنطلقها منك "
ثم أردفت بصوت عالي وهي تمسك يد أميرة تساعدها علي الدلوف لمنزل والديها
"أنا معرفش والله هي طايقة تعيش معاك إنت وأمك إزاي .. دي بسكوتة ومحتاجة رقة .. إنما نقول إيه في ناس كده مبتعرفش تتعامل بذوق ومبتقدرش"
ألقت جملتها الأخيرة وهي تلتفت للذي يراقبها من علي أعتاب المتجر ، ليرفع شفتيه لأعلي  وترتسم ابتسامة سخرية علي محياه وتبقي أعينهما في لقاء طويل نسيا به العالم من حولهما حتي أنهما لم يستمعا لصرخات مصطفي وتوعده لزهراء التي قللت من شأنه أمام الناس
فهل للحب سبيل ... أم سيتألم القلب مُجدداً ؟
-يتبع-
#سارة_عاصم

حكم بالاعدامحيث تعيش القصص. اكتشف الآن