قصة رقم 3:*دموع رحيل ذهبية!*

6 1 1
                                    

دموع رحيل ذهبية!

خرج من المقهى كعادته، وبين أنامله سيجارة خبيثة، وتجاعيد وجهه تَحكي قصص السنين التي مرَّت، وحسرة الأعوام التي فرَّت منه دون رجعة:

• إنه الشيخ (منيب) الذي حلَّ ضيفًا - من قريب - في بيت الشيخوخة.

أخد يمشي الهوينى على الرصيف، مغترفًا من سيجارته الجرعةَ الأخيرة، ولقربها من جمرتها المتوهجة، تبدو كأنها فوَّهة بركان، نافثة في رئتيه سحائب دخانية، مخرجًا إياها من منخره الطويل... جرعة قوية كادت تَحرق شواربَه، التي اصطبغت ببياض الشيب، الذي لاح ككومة ثلج فوق جبل مهجور.

فجأة! لمح بصره سيَّارةَ إسعاف تسير ببطء، هي إذًا أمارة الموت؛ جنازة ومشيِّعون يخيم حولهم صمتٌ مهيب، وخشوع منيب.

انتابت الشيخ قشعْريرة تموجية، وتزاحمت في مخيلته أفكار مخيفة، ووساوس مرعبة، جعلتْه يشعر بأنَّه مخاطب بهذه الرسالة، وربما يكون على اللائحة، أو كأنه يخاف أن يتخطَّفه الموت فجأة، كما تتخطَّف النسور فرائسَها من فوق أديم الأرض.

وقف الشيخ وقفةَ خشوع حينما تقاطع مع الجنازة، ولما بانت منه.. تابَع المسيرَ على الرصيف؛ إذ يرى نافورة الوضوء، أمام أحد المساجد وقد اجتمع عليها المتوضِّئون، وكان من بينهم طفل صغير في سنِّ أحد أحفاده، وهو يتابِع مراحل الوضوء؛ من غسل اليدين، إلى غسل الرِّجلين.

وسبَّابته متجهة نحو السماء، ناطقًا الشهادتين ومرددًا دعاء الوضوء.

فاضت عينا (منيب)، وانسابت على خديه دموع ساخنة، غزيرة ومتلاحقة، حتى بلَّلت جزءًا من ثوب قميصه، ثمَّ مزَّق علبةَ سجائره، ورماها في سلَّة المهملات الموجودة قرب الرصيف، فاقترب من حديقة المسجد وجلس تحت شجرة يقي رأسَه أشعة الشمس الحارقة.

تابع البكاء، دموع تهطل مثل الأمطار، وأخرى كامنة في لائحة الانتظار، وبدأ الشيخ يمرِّغ جسمَه في التراب كما يفعل بعض الحيوانات لإزالة الحشرات والطفيليات من جلدها؛ تُرى ماذا يريد الشيخ أن يزيل؟

إنَّه لم يسجد لخالقه كل هذه السنين الطويلة، التي رُزق فيها أرزاقًا كثيرة، ومسكنًا جميلًا، وأبناء وبنات بأعداد وفيرة، ونِعمًا أخرى ومِنحًا شتى، لكنه لم يسجد للجوّاد سجدة واحدة!

كان كل وقته بين العمل وتجميع المال، ونصيب الأسد من وقت فراغه يكاد يكون من نصيب المقهى؛ حيث يلعب لعبة "الضما"؛ وهو شطرنج على الطريقة المغربية، وكان يقامر بها - مع رفقاء درب اللَّهو والعبث - مقابل كؤوس القهوة أو الشاي أو قنينة مشروب من المشروبات الغازية، ويتبادلون الكلامَ والنكت، حتى إذا ما جاء وقت الغداء الذي يوافق أذان الظهر، أو وقت العشاء - الوجبة – مساءً، والذي يوافق بدوره صلاة العشاء، نهض هو وزملاؤه وذهبوا لمنازلهم لأكل الوجبة الدَّسمة؛ فالنوم العميق الثقيل، دون صلاة ولا ذِكر للسَّميع الجليل.

 *قصص الاستاذ معروف عبد الرحيم* القصة رقم 1 #ليتني قبلت قدميك من قبل#حيث تعيش القصص. اكتشف الآن