الجزء الثالث

289 9 0
                                    




بدأتْ بالحديث بينما استسلمتُ لعذوبته محاولا استذكار أقصى ما يمكن لذاكرتي القصيرة تحمله. لحظة بدت لي فيها تتكلم بكل عفوية فأصبحت تنطق بقلبها مخاطبة قلبي دون الاستعانة بوساطة قد تحرف معنى الكلمات و قصدها فأصغيت لها بكل حواسي لأني شعرت أنها ليست مجرد حكاية. بل هي حكايتها و إن لم تعترف لي بتلك الحقيقة !!

" في أحد الدواوير المنسية في بلادنا الجميلة ولدت فتاة كانت السابعة في الترتيب بين أخواتها .. والداها وجدا صعوبة في تذكر اسمها فكيف لهما بالأحرى السهر على تربيتها.كان همهما الحصول على شظف العيش الذي يضمن كرامة أبناءهم على الأقل و يقيهم حر التسول. اذن قضت بطلتنا طفولتها بين الجبال بحثا عن حطب التدفئة أو محاولة تجميع الخرفان التي تتيه عن القطيع. تساعد في تخزين المياه ، في تجميع المحاصيل ، في حرث قطعة الأرض الصغيرة التي تمتلكها العائلة ، تساعد حتى في الأوقات التي لا تستدعي مساعدة!!

حان وقت تمدرسها فانطلقت رحلتها نحو المجهول ، عدة كيلومترات عليها أن تقطعها ذهابا و جيئة دون الإغفال عن واجباتها المنزلية ذاك شرط الأهل الوحيد لموافقتهما على ضياع وقتها في المدرسة ، فمصلحتها تقتضي أن تتقن الأشغال و تعتزل الخارج حتى تظفر بزوج يقضي مهامه في الصحراء أو يحترف الأسواق الأسبوعية. هو كل حلم عائلتها بل و حلم أغلبية بنات دواويرها. أما هي فحلمها أن تدرس و تبلغ أرقى الدرجات تحصيلا و مكانة اجتماعية. لم يكن همها إيجاد زوج فقط رغم براعتها في ذلك المجال. بل كان حلمها أن تلتقي من يجعلها تغرق في الحب و من يقدر عقلها و وجودها. ذاك كان حلمها في الحياة فسعت لتحقيقه بشتى الوسائل التي أتيحت لها.

نبغت منذ بداية مشوارها بذكائها و فطنتها و صارت حديث الساكنة كلما انتهى العام الدراسي بنتائجها المحققة، بل و صارت قدوة لباقي الآباء في حث أبناءهم على الدراسة. حتى وصلت لنهاية الرحلة : المستوى السادس.فالفتيات من الممكن أن يلجن المدارس الابتدائية ، لكن الإعدادية منها و الثانوية لا تزال محرمة في نظر مجتمع ينظر إلى تمدرس الفتاة على أنه مضيعة للوقت و الجهد ، بل قلما حظي الفتية بفرصة الرحيل إلى مركز الدواوير لمتابعة دراسته. هنا حلت اللحظة الفاصلة في حياتها فإما أن تكسر العقدة أم تنسى حلمها و تعيش حياة بئيسة لتفرخ هي الأخرى جيلا جاهلا يضيف هما للمجتمع على هم.

أخيرا و بعد جهد جهيد استطاعت أن تقنع والديها أن يسمحا لها بمتابعة حلمها شريطة عدم إلزامهما بأية مصاريف !! تبا كم هي ظالمة الحياة. تمنح الثري ترفا على ترف و تحرم الفقير حتى من أبسط أحلامه. هكذا ابتدأت رحلة العذاب بحثا لقمة عيش تسد رمق الجوع عشية و أخد العلم سدا لجوع عقلها النهم صباحا .استطاعت الحصول على عمل بسيط في محل بيع مأكولات تغسل فيه الأواني و تساعد على تقديم طلبات الزبناء مقابل حفنة دراهم. دراهم ساعدتها على تخطي مصاعب حياتها الجديدة و حتى في تحصيل القليل منها لتساعد بها أبويها . فنمت فتاتنا قوية ذات شخصية تستطيع مجابهة الأهوال معتمدة على نفسها و لا تستسلم لأول عقبة سهلة تواجهها. و ظلت على حالها حتى أتمت مقامها هنالك و الذي توجته بالحصول على الباكالوريا بميزة حسن جدا.

الانتقال نحو العاصمة العلمية لمتابعة الدراسة الجامعية بداية تجربة مختلفة أشد الاختلاف عن ما سبق .. غلاء المعيشة و الفرق بين البادية و المدينة أهم مشاغلها. اختارت مدرسة عليا و تخصصت في شعبة تعشقها و هي الفيزياء. مرت السنوات الخمس سريعا لكنها تركت أثرا كبيرا في نفسيتها و عقليتها .. فقد صارت محبة للأدب و كل ما يمت للغة العربية بصلة. تعمقت في دينها و تشبعت بمبادئه الأصيلة فصارت تحث الخطى في تطبيق كل ما تؤمن به. أرخت جلبابها و فرصت احترام باقي زملاءها لها .. استطاعت الحصول على عمل جيد و أخدت تحمل نفقة عائلتها على حسابها بل و حتى ساعدت باقي إخوتها على المضي قدما في حياتهم .. أراها فأحترم فيها رغبتها في تحقيق ذاتها وسط مجتمع ذكوري بحت !! ""

أنهت السرد و استمرت في ذهولي، لم أجرأ على سؤالها عن اسم بطلة القصة أو حتى عن علاقتها بها .فقد خفت أن أصدم من الإجابة !! لحظة من اللحظات القليلة التي اختبرتها في حياتي: لحظة الاحترام و التقدير لشخص ما. فقد خانتني العبارات حينها فلم أدر بما أتكلم و ماذا أقول و لم أعد أشعر سوى بصغر حجمي أمام هول ما قاسته الفتاة الجالسة أمامي إن افترضنا أنها هي المعنية بالقصة.. و بعد سكون خيم للحظات بادرتني :

-أ أحببت الحكاية ؟ قالتها بسرعة خاطفة.
-نعم ، أكيد أحببتها بل و لقد بدأت بتخيل ملامح بطلتها !! أجبتها مبتسما.

ضحكت و أجابتني بنبرة سخرية : سلم لي إذن عليها أذا التقيتها صدفة .
فأجبتها على غفلة : السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته !!


صدمت و لاحظت تغير قسمات ووجها فعادت وجنتاها للاحمرار خجلا و شاحت بعينيها بعيدا عني محاولة ابداء عدم الاهتمام. لكن الأمرين صارا عندي سيان : سواء كانت البطلة أم الراوية فقط!

لحظات قطارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن