للقطار متعة خاصة لا يعرفها إلا مرتادوه .. فهو مرادف للسفر و السمر و الاسترخاء و التمتع في بعض الأحيان بروعة القمر.. رفقة قهوتي السمراء التي لا تفارقني مهما حللت و ارتحلت و رواية تحلو معها الرفقة في حال ما استحال علي استعمال الهاتف .. رحلتي ابتدأت من محطة الرباط وصولا لمدينة فاس .. عاصمة المغرب ثقافيا: زالت الثقافة و لا زال الاسم فما عادت تحمل منها سوى التفاهة. لكنها ليست سوى مرحلة عبور نحو محطة وصولي الأخيرة.
بدأت الرحلة متأخرة كعادة قطاراتنا بنصف ساعة عن الموعد المحدد.. لكن ذلك لم يعكر هدوء رحلتي لحد الآن. صعدت القطار لأجد لنفسي مكانا قرب النافذة علي أغنم فرصة مشاهدة روعة فصل الربيع في أحلى تجلياته على جانبي الطريق و في قمم الجبال المخضرة و الممتدة على طول الطريق .. اخترت مقصورة خالية و استعددت أتم الاستعداد لبدء المغامرة. لكن دخولها على حين غرة بعثر لي كل الأوراق.. أوراق رحلتي بل و حتى أوراق حياتي المتعثرة سلفا !!
فتحتِ الباب بطريقة هادئة, ألقت تحية هامسة و أخذت مكانا في أقصى المقصورة فصارت مقابلة لي لكن على الجهة الأخرى. بعد مرور لحظات الخجل الثقيلة رفعت عيني لألحظ وجه الفتاة التي سترافق رحلتي و أجيب عن تساؤلي التالي: هل سأتمنى نزولها في المحطة التالية أم أنني سأدعو لتكمل معي حتى النهاية. رفعت عيني فعرفت الجواب .. و يا ليتني تخليت عن فضولي حينها فما عرفت الجواب!! تالله تمنيت أن تكمل معي الرحلة طيلة حياتي و ليس فقط بعض سويعات في قطار مهموم كأنه يرثي حاله علنا نشفق عليه. وجه دائري صاف أبيض كأنه قمر شفاف يتهادى في ثنايا سماء صافية فصرت أراها ملاكا طاهرا بريئا لم أعهد مقابلته في حياتي اليومية...عيناها عسليتان كبيرتان من شدة بياضهما تهت فتسمرت فخفت أن ينكشف أمري من أول تصادم بيننا , وفي وجنتيها رسمت خدود احمرت خجلا فصارتا وردتان متفتحتان تنبأن بحلول ربيع زاهر في رحلتي. أما ثغرها فأحمر قان كأنه الدم يسيل في مجرى عروقي سريعا عله يستدرك سرعة انتباهي و يقظتي لحظتها. و كانت تضع حجابا يستر شعرها رغم محاولتي استراق النظر لعلي أقف عند شعرة منسدلة .. و لحسن حظي فقد لاحظت اثنتين.. استنتجت بعدها لون شعرها الأسود سواد الليل في شتاء مكفهر .. سواد شعرها الحريري جعلني أطيل النظر رغما عني فلم استيقظ من روعة اللحظة إلا على وقع نظرة حادة منها: أسف.. فخصلة من شعرك ظاهرة للعيان. كانت تلك الجملة التي أنقذتني من إحراج كان سيلازمني طيلة الرحلة.شكرتني بابتسامة مصطنعة و حال لسانها و تقاسيم وجها تلعن الوقت الذي جعلتها تمضي رحلتها مع متلصص مثلي. لم أكثرت كثيرا لردة فعلها كما أني لم أعد مكثرتا لوجودها معي. عدت لروتيني العادي فرحت أرتشف قهوتي السوداء و أقرأ رواية الجريمة و العقاب. طالت لحظة السكون حتى خيمت على المقصورة فصارت كأنها قطار متجه نحو الآخرة ملؤه الموتى تتخلله لحظات حياة بئيسة ليست عبارة إلا عن ارتشاف قطرة ماء أو ضجيج فتح عبوة غازية. حالها صار يذكرني بعذاب القبر و أهوال يوم القيامة. ألقيت عليها نظرة فتذكرت مقطعا صوتيا لشيخ يهلل بأعلى صوته : حراااااام .. ستدخلون جهنم. ترتدي عباءة طويلة لم ألحظها حتى رمقتني بتلك النظرة. مغلفة و أكمامها طويلة ... يغطيان يديها و الهواء الذي يحيط بهما فأصبحا حاجزا لها قبل الآخرين. إن هي أرادت أخد شيء ما قضت دقائق معهما حتى تعدلهما.. لتعيد بعد ذلك إسدالهما لتضيع دقائق أخرى في طيهما إن أرادت قضاء حاجة أخرى. يا إلهي ما هذا الملل ؟ ألا توجد طريقة أخرى لقضاء الوقت غيرها ؟ حينها طفت على السطح الصورة النمطية للفتاة الملتزمة المتزمتة فصرت أراها واضحة أمام عيني و بحضرتي .. فمن ثقل الجو وددت لو أن القطار توقف لأنزل و أريح نفسي من هاته اللحظة !!
أنت تقرأ
لحظات قطار
Romanceلحظات قطار عبارة عن قصة قصيرة تروي حياة شخصين جمعتهما الصدفة في رحلة قطار و كيف تغيرت تلك الحياة بسبب لحظات عابرة