[ الفصل الأول ] -قرية الّردى-

85 5 5
                                    

هي قرية نائية صغيرة ،لكأنما خلقت في الأرض ليضرب يها المثل في العزلة والتفرد ،ولقد ترك سكانها بقاع الأرض أجمع وشيدوها في رأس جبل يكاد ينافس السماء في علوها ،والزمرد في خضرته، والميت في سكينته، وإني حين احدث الناس عن أهلها كثيرا ما يأتي على بالي قول الشاعر:
ليس يخلو المرء من ضد ولو
حاول العزلة في رأس جبل

وهذا شأن "قرية الردى" ،وإنما سميت القرية بهذا الإسم لا تيمنًا بأهلها، وحاشا لله إن كان بينهم من ينسب الى القرية كمثل هذا الإسم بسببه إلا القليل النادر، وإنما سميت هكذا لأن عزلتها وتفردها أثار حفيظة وريبة أهل المدائن والقرى الأخرى ،فيقول قائل من المدينة عن أهل هذه القرية :" قوم بربر بغضاء يقضون جل يومهم في الحانات ببن كؤوس الصهباء" ،ويقول آخر عنهم يزعم انه عاشرهم :"قوم غرباء لكأن قلوبهم خلقت من جليد ،ذوو رأس عنيد ورأي بليد ،ليس فيهم رجل صنديد ،يحسبهم المرء من فرط غرابتهم ووحشتهم لكأنما خلقوا من الصلب بل من الحديد" ،وإلى غير ذلك من القيل والقال .وسبب هذا الفكر أن أهل قرية الردى لا يأنسون بالغريب ،ولا يألفون غير بعضهم ،ولا يرضون بعيشة غير عيشتهم البسيطة.

وإنه لمن الغريب أن ينطق من هو من أهلها بمثل ما أنطق به أما أنا فإني غريب فررت من حياة في قرية يطغى عليها سفهها وفجورها ،وأبيت أن أعيش بين قوم يحسد فيه فقيرهم غنيَهم على بطنته ،وأبيت أن أعيش عبدا للصهباء ،أو خادما للسفه ، أو تابعا للجهل والنساء ،فلما تمردت عليهم ورأوا فيني ليلا لنهارهم ونهارا لليلهم ؛تآمروا علي وأنشأوا يقذفونني بالإلحاد لأني لا أعبد خمورهم وفجورهم ولا أومن بما يؤمنون به من ترهات ،ولئن كان هذا هو الإلحاد والكفر بنظرهم، فإنه لأهوَن علي من أن أسكن نفسي في غير مسكنها .فلم يكد الفلك في عمري يتم دورته العشربن حتى حملت نفسي التي بين جنبيّ ،وهربت بها أسير في رحاب الأرض لا ألوي على شيء غير أن انأى عن هؤلاء القوم بحيث لا أسمع عنهم حرفا.

وقد قضيت في رحلتي تلك ثلاثة أيام أو أربعة ما شقيت فيها ساعة ، لكأن الله يجازيني هروبي من القوم الفاجرين ،فكنت ألقى من الشجر أحسن ثمارها ،ومن مناهل الانهار ما عذب من مياهها ،فإذا أسدل الليل رداءه على الكون عمدتُ إلى خيمة حملتها معي -و حملت معها بعض الدراهم والكتب - أنصب أوتادها وأشد اوتارها ،فإذا استوت نمت في أحضانها ما شاء الله أن أفعل ،فإن انصدع الفجر أفقت مواصلا رحلتي حتى أدركت في نفسي غايتي التي أنشدها.

إذ كنت قد سمعت وأنا بين اولئك القوم عن قرية سميت بقرية الردى ،فلم أحفل بهم لأني اعتدت أن يخرج من افواههم ما يسمع الاطرش ويدهش الأعمى وينطق الأبكم لشدة سفهه والكذب المدسوس في ثناياه ،ولكني أبصرت وأنا سائر طريقا تقود لاعلى الجبل ،ورأيت دخانا يصدر من أعلاه فعلمت ان فيه أناسا فصدق القوم هذي المرة ، ولما سألتني نفسي عن وجهتي بعد اول ليلة قضيتها مغتربا بين احراش هذا الجبل ،تراءى لي أن أرسو بها وأقيم بين أهلها لعلي أجد بينهم مكانا لنفسي البائسة ،ورأيت في بادئ الأمر أن هذه الفكرة ضرب من الجنون ، وكدت أضرب بها عرض الحائط ،لولا أن رأيت في المنام طيرا أبيض يمشي أمامي حيثما أمشي فتبعته حتى لقيتني عند باب قرية خاوية ،فلما هممت أرجع أدراجي فإذ بالطير الأبيض يستحيل غرابا أشعث ينعق عند أذني ويجرني من ثيابي إلى مدخل القرية ،وكنت كلما قاومته نقر رأسي نقرا حادا ،فأفقت جزعا وليس في بالي غير أن أصعد الجبل إلى القرية ولو تطلبني الأمر أن أمشي على الأشواك حافي القدمين ،ذاك أني أعتدت ان أحلم بين الفينة والفينة أحلاما كالرؤى ، وما مر بي يوم نفذت فيه ما رأيته فيها إلا وحمدت ربي على ذلك!
أنشأن من يومها أشق سبيلي إلى القرية في أعلى الجبل ولم يكن أعلاه بعيدا عني إذ أن قريتي السابقة مشيدة في منتصفه ،فكنت امشي لا أحفل بحمّارة القيظ ولا بلسعات برد الليل ،ولم أهتدِ إلى وجهتي بغير رأس الجبل ،أراه حيثما حللت وارتحلت.

لا تخبر عن أمرنا أحداحيث تعيش القصص. اكتشف الآن