-الشيخ-

35 3 3
                                    

تلك كانت بدايتي في هذه القرية ،وماكاد يمر علي اسبوع او اثنان حتى كنت قد صرت منهم ،وكانوا في بادئ الأمر لا يقيمون لي وزنًا ،ورأيت أنهم قوم لكأنما نزلوا من الملأ الأعلى وسكنوا الأرض لا لشيء إنما لأن الأرض خلقت مسكنا لهم ،فكانوا لا يحفلون  بالغريب ،يترقبون منه كل حركة ترقب الأفاعي الرقطاء لأهدافها ،وكانوا يتفادون الاحتكاك بي ،فلاحظ شيخهم ذاك ذلك ،وكان الوحيد الذي يبصر ما بقلبي وإن لم يبصر بعينيه شيئا!

أما شيخنا هذا ،فاسمه "عليّ" ،وهو شيخ قد رسم الزمن تفاصيل خريطته على وجهه ،قد اشتعل رأسه شيبا امتد للحيته ،بين عينيه والدنيا حجاب ،معتدل القامة يمشي مرفوع الكتف والرأس ، يحمل في يده عصاه لا ندري أيهما يتكئ على الآخر يسنده ،وكان له نصيب من الحكمة والوقار ، فكان إن تحدث يسكت المتحدث ،وخرست الطير ،وسكنت الدنيا تسمعه ،فلا ينطق إلا وقت النطق ،لا يضع  حرفًا في غير موضعه ،وكان إن شرح شيئا أبدع في الشرح بأسلوب تستعذبه الأذن ،"والأذن تعشق قبل العين أحيانا" ،فكان القوم لا يملون سماعه يعظ وينصح ويقرر ،وأما أنا فقد أغرمت بحديثه عن الدنيا غراما لم أجده بين كتبي ولا كتاباتي!

  وكان يروقني أن أفيق قبيل الشمس فأدلف إلى ذاك المنزل الأبيض -الذي تبين أنه منزل الشيخ- اصعد سلالمه لسطحه ،فأجلس إلى الشيخ عليٍّ أحادثه حتى تخرج الشمس من محجرها وينتفض كل ذي شغل إلى شغله. وكنت آنس بالشيخ أنسًا عظيمًا، فكان يحدثني عن القرية وطبائع أهلها وعاداتهم وبعض طرائفهم حتى عرفتهم كلهم ،وكنت أسْكنُ لما في صوته من رزانة سحر ،فإن صام عن الكلام تلفت حولي أمتع ناظري بما أرى..

  لازلت أذكر حين خرجت مرة ،فوجدته جالسا على سطح بيته ،فرابني أمره فتوجهت إليه ،وما كدت أنتصب أمامه واقفا حتى علت وجهه ابتسامة خفيفة وقال :
_بذر اللّٰه في صباحك ورد الخير يا ولدي!
فعجبت له يعرفني دون أن يبصر بي أو دون ٱن أنبس ببنت شفة ،وقد راقني كلامه فرأيت أن أرده بمثله أو بأحسن منه فرددت:
_أنى له أن يبذرك في صباحي يا شيخ؟
فضحك بخفة وتابع في هدوء:
_إجلس إلي يا فراس وأخبرني ،أيّكما ركض للآخر ،أنت أم الاستيقاظ؟
_لست أدري يا شيخ..إنما صارعت النوم حتى فزت فأخذته ،فماكاد يغمض لي جفنٌ حتى لكزني حدسي يشير أن أخرج!
قال ممازحا:
_ أراك قد أخذت من الفراسة في إسمك نصيبًا ،تفيق حين يجب الإفاقة وإن لم يكن لك دراية عن ضرورتها!
وأثار رده استغرابي فسألته أيريدني في شيء ،فكان أن ٱومأ وقال:
_ قف وقل لي يا ولدي، ماذا ترى؟
وقفتُ فلم أبصر بغير الشجر تحول بيني وبين الأفق فأخبرته ،وبسم يطلب أن أمشي إلى الأمام حتى أدرك قارعة السطح ففعلت..
"ربّاه"..

نطقتُ في عجب.
_ أيروق لهذا البحر الأزرق أن تخفي الجبال الوعرة والأشجار الباسقة جماله ،وتبعد عنه الأعين وتسلط الأضواء عليها هي دون سواها؟ ليس من العدل أن تمخر هذا البحر سفنُ البحّارين فيرون الجبل منه ،بينما نحن نمشي على الجبل فلا نرى غير بحر السماء فوقنا!
وسكتُّ هنيهة أسائل نفسي ،أمَكثتُ أسبوعين بين أهل القرية ولم ينطق أحدهم بحرف يكلمني عن هذا البحر؟وكيف لم أبصره من مدخل القرية؟
_ لا تعجب يا ولدي ولا تغضب ،إنما نحن أناس كتومون لا نرى حاجة إلى الإفضاء ؤما لا حاجة لنا إليه ،فدعك منهم واجلس إلي إنما أريد محادثتك في أمرٍ..

لا تخبر عن أمرنا أحداحيث تعيش القصص. اكتشف الآن