قد نامت الشمس لما أدركها الأرق ،وأبى الليل إلا أن يعوض النهار رفقا به ،فاحمرت السماء خجلا لنبله وشهامته ،ثم أذعنت لقراره فحل على الكون ليله..
اضطرب أهل القرية اضطرابا حادا ،أأقبل الليل ولم يقبل عليهم الشيخ علي يلقي تحية المساء؟ وأخذوا يتهافتون فصاح صقر بينهم أن تجمعوا إلى الفوارة ففعلوا واعتلاها هو وجواد ثم قال :
_ يا قومي ،إنما حل الليل وشيخنا لم يعد فما ترون أننا فاعلون؟
فتهافتوا يقترحون أن ينزلوا بحثا عنه فقال في عجب:
_ ننزل؟ أولم تبصروا به يعود من عند التاجر؟
وتلفت القوم بعضهم إلى بعض حتى نطق أيهم زوج ليلى العاقر:
_ بل لم نره مذ نزل وذاك الفتى الغريب!
وأخذوا يغمزون بعضهم بعضا فصاح جواد في شيئ من الانكار :
_ الغريب؟ أترى فينا غريبًا يا أيهم؟
رفع أيهم رأسه حتى إذا قابل أنفه السماء قال في شزر:
_ أتحسب أن ذاك الفتى المتوحد المنعزل الذي كدنا نخسر بغلنا في اول يوم اتى الينا ، أتحسب أنه وهو الذي يتطفل علينا وعلى مأكلنا ومشربنا وملبسنا ،أتحسب أن هذا الغريب منا نحن؟
سكون هشٌّ غلف الجو ..لم يجرؤ احد على أن ينطق ببنت شفة ،واكتفوا بتبادل النظرات بينهم.كان صقر وجواد وغيرهم من أهل القرية قد اشتموا في كلام أيهم هزؤا وبغضا لا عهد له بينهم.نزل صقر من الفوارة يتلوه جواد ،مرّ بين الناس ليصل إلى أيهم فشقوا له طريقا تجمعوا عند قارعتيها ،وأخذ هو يدنو من أيهم في بطء وخيلاء مثبتا بصره على عينيه الجاحظتين ،حتى إذا صار أمامه لا يفصل بينهما غير شبرين أو ثلاث ،قال متحديا :
_ إلامَ ترمي يا أيهم؟
اضطرب أيهم وتلعثم عند لسانه الكلام ،حتى همس أحدهم في صوت مسموع:
_ لعله ناقم على فراس بعد أن أفحمه؟
وأخذ بعضهم يلكزه يشير أن يسكت فتفطن لهم صقر وابتسم ساخرا:
_ مالي أحس بين جنبيك غيظًا مكتوما يا أيهم؟
_ إني لم أكذب! هذا الفتى لم يجلب لقريتنا غير الشقاء يتلوه القلق مذ أتى إلينا! فمالذي يمنعه من أن يفعل شيئا بالشيخ ويسرقه هو والتاجر ويهرب؟
وعاد إلى القوم الهرج والمرج فصك صقر أسنانه وتقدم حتى إذا ثبت يده على ياقة قميص أيهم ،همس متوعدا:
_ اسمع يا هذا ،لك أن تكذب على نفسك وتفتري عليها ما شئت أن تفتري ،ولك أن تنشر بين قومك السابقين ألاكاذيب عنا عن طريق ذاك التاجر وأحسبك لا تدري أني أدري ،لك أن تعيث في عقلك وعقولهم فسادا ،ولكن ،ولئن وصلت حقارتك أن تهين إخواننا وتتهمهم بالباطل ،فإن لي معك حسابا غير الكلام فإما أن تقول خيرا أو لتسكت.
سحب جواد صقر عن أيهم ،فرد هذا الأخير هازئا متحديا :
_ لندع اخواننا يحكمون ،يا قوم من شهد منكم الشيخ عائدا من بعد ذهابه أول مرة مع ذاك الفتى إلى التاجر ؟وإنكم تعلمون علمي أن مثل هذا التأخر ومثل هذه الواقعة لم تقع طيلة فترة ذهاب جواد معه ،فلما قد تحدث بعد أن اختار الشيخ الفت.._ أنا فعلت.
تلفت القوم ناحية المتحدث فإذ بالعيون تتسع حدقاتها..
_ كما سمعت. أنا رأيتهما.
عقد جواد حاجبيه الرقيقين وتقدم نحو المتحدث..
_ سلوى..أتصدقين في قولك؟
أومأت سلوى..تهدلت خصلات من شعرها الكستنائي على كتفيها ،وداعب بعضها وجنتيها المحمرتين فأزاحتها في ثقة ونظرت لأخيها جواد وقالت تشير إلى كيس بيدها:
_بلى ،أبصرت بهما قبيل العشى ،فأعطاني الشيخ هذا الكيس وقال أنه سلعتكم فخذوها .
وتقدموا منها فحال جواد بينهم وبينها وأخذ الكيس من يدها يتفحصه فتراجعوا وأردفت هي :
_قال أن البذور قليلة لأن التاجر لم يملك إلا ماشاء الله ان يكون بين يديكم اللحظة ،ولكنها على قلتها متنوعة فيها الفاكهة والخضر والزهر وإلى غير ذلك.
_ وأين هو وفراس يا أختاه؟
وأشارت إلى بيت الشيخ ثم قال بصوتها الواثق:
_ قد أخبرني أنه سيبيّته عنده الليله يلقنه كيف يهتدي إلى النجوم في أفلاكها لمعرفة المواسم والأيام والساعات ،وكان قد تأخر مع التاجر فلم يجد وقتا لمقابلتكم وخشي أن يفوته تغير مواضع النجوم ووجدني عند الحظيرة وحدي أغزل الصوف فأعطاني الكيس وقال ما قلته لتوي ،وأضاف على ذلك أنه سيلقاكم بالغد حين الضحى لتتفقوا وإياه على غرس البذور.
_ امتأكدة أنت يا سلوى؟
لكز صقر ذراع جواد يسأله أيشك بسلوى التي ما كذبت في حياتها؟فاومأ كلاهما ثم تفلت جواد إلى أيهم فإذ به شاحب الوجه أصفره ،فتقدم إليه وقال في كبرياء:
_ قد سمعتم أختي! ارجعوا إلى منازلكم فقد تبين لنا الحق ،وزهر الباطل ولنلتق بالغد وراء الحظيرة نغرس أولى مزروعاتنا في المزرعة الجديدة فهلموا إلى مخادعكم أريحوا أنفسكم التي بين جنبيكم استعدادا للغد!
أنت تقرأ
لا تخبر عن أمرنا أحدا
Romance*مقتطفات* "..أما أنا فإني غريب قد فررت من حياة قرية وأهلها وفجورها ،وأبيت أن أسكن نفسي في غير مسكنها.. " "إنما الحب حرب لا يهدأ طرفاها لا مبرق الصبح ولا غياهب الليل ،يعد كل طرف جنود قلبه يسيّرها ،فإذا تلاقى الطرفان في الميدان كان الشعار واحدا.." الح...