النفحة الثانية عشرة

40 10 4
                                    

"مرارة الغربة"

...

أنا الغريب، أنا من هاجرت من بلدي، وتركت أهلي
وأحبابي، الذين نشأت بين أحضانهم الدافئة، وابتساماتهم العذبة، ورفاقي الذين كنت ألهو معهم في أعذب ذكريات الطفولة.

بين تلك الطرقات المقدسة التي تفوح منها رائحة الماضي العتيق والذكرى الطيبة، كانت المباني شعبية قديمة والطعام نادر قليل لكن القلوب واسعة تفيض بالمحبة، تتراءى أمامي تلك الإجتماعات العائلية كأنه الأمس.

فجميع من كنت أعرفهم أعدهم من العائلة، تلك اللقاءات، التي كان يتخللها جو من الألفة وفكاهة الشباب وأشهى مأكولات الأمهات وحكايات الشيوخ وبرائتنا نحن الأطفال ومشاكساتنا اللطيفة.

لكن مضت الأيام وكبرنا، وتحتم علينا الرحيل والمضي قدمًا دون الإلتفات للخلف لأراضي بلادنا الحبيبة، وماضينا العزيز من أجل العيش، وكسب قوت الحياة وربما أرغمنا على الرحيل رغم رضائنا بالقليل وبؤسنا في ظل الفقر المرير.

وذلك عبر فوهات تلك الدبابات، التي قذفتنا مطرودين أذلة، يحتقن القهر دموعها العاصية، تأبى أن الإعتراف بالهزيمة، والإستسلام لأولائك الجبابرة، التي مدت يدهم على شرف بلداننا الطاهرة، ودنست نقائها الصافي.

لطالما اشتاقت روحي لشذا هوائه الذي يدغدغ روحي، وتبعث في نفسي السكينة، ولظلال أشجارها الخضراء، ولملمس تربتها الندية، من حيث خلقت وإلى حيث مرجعك.

وإلى تخلل أناملي بين عشبها الرطب، موطني وأصل منشئي وكياني وهوية ذاتي، أشعر بأنه كوكب خاص متفرد بخصائصه وليس له مثيل أو مشابه، فربما يظن المستقر في بلده، والذي لم يذق طعم الغربة أن كل البلدان تتشابه.

كلها أرض وماء وهواء فقط الإختلاف في سكانها، ولكن بالنسبة لي أنا المغترب كل شيء يرتبط مسماه، وتواجده بموطني أحس باختلافه بوجود علامة يميزه عن باقي مثيلاته.

أشعر بتناقض روحي مع كل غريب لا يمد بموطني
صلة، كأن شيفرة كل كائن في الأوطان لا تتوافق إلا
مع مواطنيه ومحبيه، نعم حب الوطن والشعور
بالإنتماء إليه ليس شعور يتولد في قلب المواطن
فجأة.

بل هو فطرة و وراثة من أجدادنا الذين فدوا بالغالي والرخيص لنحظى نحن الشهي، وهو شعور يتجدد مع كل نبضة قلب سارة بحريتها، ونظرة تطلع متأملة لنجاحها، واندهاش من جمالها، وحنين لأراضيها الشاسعة، وسماع لنشيدها الوطني، الذي يطرب المسامع بأعذب أشعار المدح.

بلادي أفدي بدمائي قطرة قطرة لطالما يرفرف علمك
مع نسيم الصباح، تغار منه الطيور تحال أن تصل إلى
سماه، تتخطف النسور لتردعه إلى صباه.

وأن نستمر أجيالًا فأجيالًا في التمتع بمنظر غروب الشمس الخلاب بابتسامات وقلوب مرتاحة البال تعكس إصرارنا وعزمنا القائم في مواجهة وتصدي صعوبات العالم الظالم.

لنخلق غدًا أفضل وتظل كلمة الحق منارة لكل عبد تائه عن خالق الوجود، وعن هذه التربة الغالية أرضنا وأرض أجدادنا، وترسخ باقية أمد التاريخ، وفخرًا للبشرية، وعلى صدورنا هوية أبدية بإذن الله الواحد الأحد.

...

نفحاتي M.Aحيث تعيش القصص. اكتشف الآن