الفصل الأول والأخير...

828 31 14
                                    

في العاشرة صباحاً....
ينتشر صوت اصطدام الأشجار ببعضها بفعل الهواء في المكان، مصاحب له صوت النهر الذي يتحرك بنغمة جميلة ترتاح لها الأذن، ومع كل ذلك يصدر صوت خطوات شيء ما يتحرك مسرعاً من بعيد في وسط الأشجار، وبعد لحظات تظهر هذه الفتاة ذات الشعر الأحمر القاتم راكضة بسعادة بفستانها الأبيض الطويل المرفوع قليلاً بين أناملها لكي تتحرك بسهولة، ثم تقف أخيراً وصدرها يعلو ويهبط من كثرة الركض قائلة بصوت عالي :أخرج الآن.. لقد رأيتك!
بعد ثواني ليست كثيرة يخرج فتى طويل مبتسماً، يستند على شجرة أمامها بصمت يلقي بنظره عليها يتأملها بحب ظاهر في عينيه، ولكن ينقطع ذلك بسبب تحرك الفتاة مسرعة لترتمي في أحضانه : اشتقت إليك.
قالت ذلك الفتاة وهي تنعم في حضنه براحة، فيحيط هو الآخر بخصرها يبادلها حضن مغلف بالحب الذي بينهما، حب ظهر رغم اختلاف كل شيء في حياتهم، رغم العداوة التي بين قريته وقريتها، رغم اعتراض الجميع على هذا الحب الممنوع كما يقولون.
تنهد بسعادة متذكراً أول لقاء بينهما والذي كان منذ سنتين تقريباً في هذه المنطقة التي يقفون عليها الآن حيث كانت المنطقة الوحيدة المشتركة بين القريتين ولا يذهب لها أحد خوفاً من العقاب من قبل الملك في كلا القريتين ولكن بالنسبة لهما لم يفكرا للحظة في هذا العقاب الذي يعد لا شيء مقارنةً بالعقاب المتمثل في فراقهما.
كان لقائهما غريب فعندما يلتقي شاب خارق للقانون بفتاة مثله بالتأكيد سيكون غريب فعندما راها لأول مرة كان كل ما يفكر فيه أنها ملاك ليست بشر يظهر في هذه المنطقة الخالية من الحياة باستثناء بعض الأشجار، ونهر صغير خاصةً بشعرها الأحمر الغريب بالنسبة له و ارتدائها الأبيض في هذا اليوم كما تفعل دائماً، وعندما أخبرته أنها مثل الجميع، بشر مثله كان مصدقاً ظاهرياً أم باطناً فكان متأكداً بأنها أجمل ملاك رأتها عينيه حتى لو كان ذلك في قلبه فقط.
: وانا أيضاً اشتقت إليكِ.
ابتسمت بسعادة، وهي تبتعد عنه قائلة بابتسامتها التي تجعل قلبه يزداد نبضاً، وتمد يديها بعود من العنب الطازج : إنه لك...تفضل.
نظرت أرضاً بخجل من نظراته المسلطة عليها، ويأخذ العود من يديها مبتسماً لاحمرار وجهها الأبيض : لقد أحببته.
نظرت له بعبث متعجب : لم تتذوقها بعد!
اقترب منها أسمر بجزئه العلوى مبتسماً : أحب صاحبتها لذلك أحبها.
وضعت كفيها بخجل علي وجهها سعيدة، فيبدأ هو بتناول حبات العنب بأبتسامة، فابعدت يديها لتتأمله بحب، بشرته القمحية، عينيه البنية التي قامت بكسر حاجز قلبها ليستقر به بحرية، وشعره الأسود كأسمه .
: أسمر.
نظر لها منتظر كلامها، فتقول سريعاً قبل هروبها بعيداً عنه : أحبك.

بعد عودتها من لقاء حبيبها، و ذهابها لقريتها الصغيرة وجدت بها حركة غريبة، ضوضاء عالية ليست من العادة أن تتواجد، فوقفت متعجبة للحظات، ثم قطع هذا التعجب صوت والدتها تدعوها للدخول لمنزلها بخوف، فتسرع الفتاة لوالدتها تسألها عما يحدث، فيقع قلبها أرضاً عند سماعها لجملة والدتها التي كانت كفيلة بقطع عرق من عروق دمائها
: تم إعلان الحرب بين القريتين.
وقعت أرضاً بثقل لا تفهمه والدتها التي اعتقدت أنها خائفة من الحرب كباقي الجميع ولم تفهم أنها خائفة علي روحها التي ستحاربها بعد قليل، الأمر يشبه بمحاربة نفسها.
قامت بأرتداء آخر قطعة من ملابس الحرب حيث في هاتين القريتين يجب على الرجال والنساء الذين في مقتبل اعمارهم أن يحاربوا لقلة عدد الرجال وحدهم، فأرتدت ما لا يليق بها كملاك كما يراها حبيبها وكما يُطلق عليها الجميع :ملاك.
نظرت لمصدر الصوت الذي يقوم بالنداء عليها، فرأت والدتها تنظر لها بدموع لخوفها ألا تعود ابنتها من هذه الحرب، ثم تجذبها لأحضانها بحزن ظهر في ارتعاش يديها ثم تتركها سريعاً بخوف أن تضعف وتمنع ذهابها وعندها ستتلقى ابنتها العقاب، اقتربت ملاك من والدتها تتلمس كتفيها بيديها قائلة بدموع غير ظاهرة: أمي...
قطعتها الأم سريعاً بحزم مصطنع قائلة تدفعها لخارج المنزل : هيا... غادري.
علمت ملاك حينها أن والدتها لا تريد ذهابها حقاً لذلك تفعل العكس! تنهدت ملاك بثقل تخفي دموعها وتتحرك لخارج بيتها تفكر في حب والدتها التي تعد الوحيدة لها في هذه الدنيا، وفي حبيبها أسمر الذي ستذهب لتحاربه بكل إرادة منها وبكل عدم رغبة في ذلك.
نظرت حولها عند تحركها، فوجدت الكثير من الشباب يودع أهله، الحب ظاهر حولها بشكل مخيف، فالمكان الذي يمتلئ بالحب في هذا الزمن ينتهي بالحرب دائماً، احتضنت الأم ابنها ببكاء وصراخ، والأكثر ألماً هذا البيت الذي سيودع شخصين في يومٍ واحد، فتسقط الأم ألماً وينحني ظهر الأب.
اللحظات الاخيرة للحب قاتلة، فجميع الأشخاص في كافة انواع الحب لا تتقبل هذه الأنفاس الأخيرة التي تشعر بها ممن تحب في آخر لقاء لهم لأنهم يعلمون جيداً أنها لن تفارقهم طوال حياتهم.
في الخامسة مساءً....
وقفت الخيول في صفوف منظمة يمتطيها الفرسان، منهم من كان ينظر أمامه بثقة، وآخرون ترتعش ابدانهم خوفاً من السيوف التي من الممكن أن تخترق قلوبهم، وكان هناك نوع ثالث، نادر! لا يوجد منه إلا فرد واحد وهي ملاك.
ملاك التي كانت تنظر أمامها بتشتت تبحث عن أسمر بخوف، وقلق بين هذه الصفوف التي توجد أمامهم تستعد مثلهم لأشارة بدأ الحرب.
ساد الصمت لحظات مرت كالسنين بالنسبة للكثير من هؤلاء الشباب يتغلغل بداخله صوت صهيل الجياد الذي لا يفهم ما يحدث من ضرر البشرية، لا يشعر بما يحدث من تدمير لكل ذرة حب حدثت في كلا القريتين، كان مغيباً كما يحاول بعض البشر فعل ذلك حتى لا يشعر بكل هذا الضرر الذي يحدث بداخله بسبب هذه الحروب التي تقتل كل أنواع الحب.
ضربت أصوات أقدام الجياد المكان بعد إصدار إشارة بدأ الحرب، وصراخ الجميع تشجيعاً لأنفسهم قبل الآخرين حتى لا يتراجعون في اللحظة الأخيرة، وللأسف تحركت أجياد الحب معهم تحاول البحث عن وتينها لكي لا تموت في نهاية الرواية بدونه.
أستمرت الحرب الكثير من الوقت، ومازال أسمر يبحث عن ملاكه دون كلل، وهو يحاول التحرك بين القتال دون رفع سيفه، وكأنه رفض خيانة حبيبته، خيانة هذا الحب الذي لا ينتمى للحرب، فظل يبحث بعينيه عنها خائفاً أن يراها واقعة غارقة في دمائها او شيء كهذا، فتسارعت دقات قلبه بخوف متذكراً لحظاتهم معاً ووعده لها دائماً أنه لن يتركها أبداً حتى لو آخر أنفاس في صدره سيبحث عنها لتكون آخر ما يراه في حياته، لتكون نهاية سعيدة له لرؤيته لوجهها عند إسدال الستار.
تنهد براحة قليلة عندما رأها تقف أمامه من بعيد تبتسم براحة هي الآخرى، فيبدو أنها كانت تبحث ايضاً عنه، تحركت قدمه مع بداية تحرك قدميها دون إهتمام بما حولهم أو بهذه الدماء التي ترتمي عليهم، وظلا يتحركان بخطوات بطيئة تزداد تدريجياً حتى وصلت للركض الباكي، الذي بكى حزناً علي بكائهم هم الاثنين شوقاً من نوع آخر، شوقاً رغم لقائهم قبل قليل، شوقاً يحمل بين ثناياه الخوف من الفراق والموت.
ركضت هي بأسرع ما عندها حتى تصل له، فبدت وكأن المسافة بينهما أميال لا نهاية لها، فظهر أمامها هذه الأوقات التي كانا يتسابقان بها في الركض عندما يتقابلا، أو عندما يختبئ يحثها علي البحث عنه في أجواء مليئة بالحب، أول قبلة لهما، اعترافهما الذي كان يمتلئ بالضحك الغريب يخفيان به توترهما حتى قالها الأسمر في وسط ضحكه سريعاً وكأنه يخرج قطعة من قلبه : أحبك.
هبطت دموعها بقوة عندما تذكرت هذه اللحظة، عندما شعرت بهذا الاحساس الذي كان يمتلكها في هذه اللحظة، وما جعل بكاءها يصمت لحظة مع زيادة خطوات قدميها هو صوت السقوط الذي لم يسمعه أحد غيرها، هربت أنفاسها لحظة وهي تراه يسقط أرضاً علي ركبتيه بسبب طعنة تلقاها من أحداً ما، فتسرع إليه صارخة : أسمر!
صرخت بقوة شعرت من قوتها أن الحرب صمتت تنظر لها، شعرت بنسمات الهواء بدلاً من الدماء، لم تعد تسمع أي شيء غير أنفاس حبيبها الذي كان ينظر لها يمد زراعه بأمل أن يلمس يديها لآخر مرة.
وبالفعل كانت قريبة جداً منه، ولكن ما جعلها تقف لحظة قبل الوصول له هذا الألم الذي استقر في ظهرها، علمت منه ان هذا الألم توأم لشعور حبيبها قبل قليل، ورغم ذلك القدر كان لطيفاً معهما حيث ترك لهما الفرصة لتتلامس ايديهما معاً حتى أن ملاك أسرعت تحتضنه باكية بنفي ما يحدث :لا... لا تذهب.
بادلها الاحتضان كما كان يفعل قبلاً بإبتسامة يحاول نسيان الألم للحظات لينعم بأحضانها قبل الذهاب للظلام، ابتعدت عن أحضانه تنظر لوجهه بعيون تمتلئ بالدموع، وابتسامة ترتسم على شفتي أسمر، وهو يحتضن وجهها بكف يده ماسحاً دموعها بأصابعه الحنونة، يهز رأسه رافضاً بكائها.
بعد لحظات من نظراتهما لبعضهما البعض ابتسمت أخيراً بألم جعله ينظر لها بتعجب تحول للحزن عندما لاحظ إصابتها مثله، و الدماء التي تستقر علي كف يده من مكان إصابتها، فصرخ أخيراً يصف ألم نفسه قبل جسده، فقام هو بجذبها ببكاء، وقوة لأحضانه هذه المرة يحكي الظلم الذي شعر به جميع من في الحرب، جميع من يحارب تاركاً قلباً يبكي لأجله في البيت.
اغلقت ملاك عينيها في أحضان أسمر تتخيل أن يكون كل ذلك حلماً، و تستيقظ بعد كل ذلك لتعيش حياة طبيعية مع حبيبها، ترقص معه بحب وهو يمسك يديها بتملك لطيف مع إحاطة خصرها بيده الأخرى، وتتحول الدماء لأزهار جميلة ترتمي عليهما بسعادة لسعادتهما معاً، ويتحرك بها بخفة علي نغمات الموسيقى بدلاً من الصراخ والألم، تتمايل وهي تنظر له بعينيها السوداء تعبر له عن حبها الذي أسر قلبها من نظرة واحدة من عينيه التي تشعر عند النظر لها وكأنها ملكة ولا يوجد من هي أجمل منها في نظره.
مع غلق عينيها ومرور لحظات قليلة أغلق عينيه هو الآخر يذهب لأحلامه مع خروج بعض أنفاسه التي اختلطت مع أنفاس ملاك، فتكون بعض أنفاسهم الأخيرة مختلطة لا تريد الفراق مثلهما.
ولكن لم يستمر طويلاً حيث وقع الاثنين بكامل جسديهما أرضاً بإستسلام للظلام وهما في أحضان بعضهما، و دموعهما الباقية علي خديهما تهبط تحكي ألم كلاً منهما.
سقط كلاً منهما، ولم يكن هم فقط من كان مصيره الأرض، فالكثير من سقط قبلهم والأكثر سقط بعدهم، ورغم ذلك استمرت الحرب تحارب باستخدام  العقول الرديئة الحب بكل أنواعه، وللأسف يبدو أن جميع من في الحرب سيموتون مع موت قلوب من يحبهم المنتظرين أولادهم بقلق وقلب خائف في بيوتهم ليعودوا من حرب لا نهاية لها.


النهاية





سَكَرات الحب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن