الجزء الخامس

189 10 2
                                    

"الموت لا يقول مرحبا"

الحياة ليست عادلة ، الأحداث السيئة ليست حكرا على الأشخاص السيئين او من قد اتخذوا قرارات خاطئة فقط .


"الحياة "دخولها ليس كخروجها بل العكس تماما ، تدخلها صارخا و تخرجها صامتا تدخلها و هم يرحبون بك و تخرجها و هم يودعونك ، نحن سنودع من رحبو بنا و سيودعنا من رحبنا بهم ، من هم ؟
أشخاص نعرفهم و لكن تحديدا لا أحد يعرف .
شيء نعرفه جيدا شيء نراه يوميا نراه يؤثر على من حولنا لكننا نتحاشى النظر اليه نتحاشى التحدث عنه حتى اننا نكره التفكير به ، انه آخر شيء يحدث للإنسان لكنني لا اعتقد انه الاسوأ كما يقال . انه آتي لا محالة ليس لنا مهرب منه و لكن المشكلة انه ضيف وقح يأتي دون موعد و لهذا على المستضيف دائما أن يبقى في حالة تأهب .
انه الموت ، نعم انه سيء ، نعم انه مألم ، نعم انه لفاجعة تقسم الظهور فاجعة تيتم الاطفال ترمل النساء و تشتت الشمل و لكن لو لم يكن شيئا يؤلمنا و يبكينا لسنوات لما اوليناه هذا الاهتمام الكبير .
انه شيء لم و لن نعتاد ، سيبقى مؤلما مهما تكرر لأن الله اراده ان يكون كذلك ليعتبر كل من يراه يلامس غيره ، لان ما نعتاده لا يأثر فينا ولا يحرك مشاعرنا و لذلك عليه ان يكون شيئا لا نعتاده نحن البشر .
و كما يقال كل نهاية هي بداية لشيء آخر ، نهايتك هي بداية أشخاص جدد ربما أحفادك ، عندما تموت هذا يعني ان دورك هنا قد انتهى ، انتهى ما كتبه الله لك من عمر .
الموت ليس جميلا و لا بشعا ليس خيرا ولا شرا ليس مجرد بكاء و حزن و ألم ليس مجرد شخص يوضع تحت التراب الموت "ضرورة" .













قبل أن يتوفى الله  والدتي قالت لي أتعلم ما هو أسوأ شعور ، قلت لا ، لا ليس بالضبط ، أسوأ شعور ان تفقد أحد أحبتك و الا تتمكن من وداعه قبلها .لم أفهمها جيدا حينها و لكن الآن أفهمها بشكل جيد أكثر من اللازم .أكثر مما اريد لانه مؤلم .

بعد تذكري لما حدث ، أمضيت تلك الليلة و اليوم الذي تلاها في المشفى كانت ليلة غريبة و موحشة أمضيت نصفها و أنا جالس في وضع واحد أحدق بالساعة التي أمامي  انتابتني مشاعر غريبة لم أختبرها من قبل حزن غريب ، أعتقد انني كنت غاضبا أكثر من حزين ، لم أنطق بكلمة واحدة ليوم و نصف ، لم أستطع حتى البكاء حدث خلل ما بداخلي شيء ما تحطم او ربما بقى مع بن و تاتيانا في سيارة الإسعاف..... .

اتى الطبيب صباحا و قال كيف حالك توم ؟
نظرت اليه فحسب
- ماذا ستفعل الآن ؟
كنت أتحدث ببرود شديد و كأنني لا أكترث
- أظن انه على العودة الى نيويورك و أخبار والديها و إجراء جنازة
- ثم ؟
- ثم ماذا؟ 
- ماذا ستفعل بعدها
- لا أعرف ، على الاغلب سأعود الى العمل
- هذا بالضبط مالا يجب ان تفعله
- و لماذا ؟ الى متى سأبقى هكذا دون عمل ؟
- عليك ان تعلم أنك الآن تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة و لا يجب تقع تحت اي ضغط او توتر إضافي
- أعرف هذا ، ليست اول مرة
- هذه هي المشكلة يا توم انها ليست اول مرة و ليست حتى الثانية و لذلك الاعراض ستكون أكثر عنفا عن المرات السابقة ضعف التركيز ، الكوابيس ، قلة النوم ، النوم المفرط ، نوبات هلع ، الاكتئاب ، الانهيار العصبي و أحيانا هلاوس هذه كلها أشياء قد تتعرض لها في الفترة القصيرة القادمة
- إذا ما الحل ؟
- سأعطيك إجازة مرضية لمدة شهر و عليك ان تبقى تحت المراقبة الطبية على الاقل لمدة 5 أيام
- هل يمكنني قضاء هذه " العطلة " في نيويورك ؟
- أفضل ان تعود الى هنا بعد الجنازة المكان هنا أكثر هدوئا و أقل ازدحاما و خارج نطاق مسؤولياتك كشرطي سيكون هنا أكثر راحة لك .
قلت حسنا ، لكنني لن أطبق كلمة مما قال
- عليك ان تبدأ بزيارة طبيب نفسي ، أعرف طبيب عالج الكثير من جنود الحرب أمثالك ، يعملك في مانهاتن ، لا أعتقد انها بعيدة عن مكان سكنك و أعطاني بطاقته اسمه لامبارد .


قبل مغادرتي أردت رؤية بن و تاتيانا مرة أخيرة ، ذهبت الى مكتب الاستعلامات كانت هناك ممرضة بدينة سألتها عن مكان ثلاجات الموتى قالت لي أذهب الى الطابق السفلي و ستجد الطبيب هناك سيساعدك ، نزلت الى الاسفل وجدت رجلا اصلع نحيف الوجه و يرتدي نظارات كبيرة بدى و كأنه شخص بلا مشاعر ملامحه جامدة جدا ربما لأنه يتعامل مع الموتى أكثر من الأحياء ، جالس خلف مكتب صغير قلت له انا هنا لرؤية جثة أبني و زوجتي
- حسنا
أخذ ورقة و قلم و بدأ يكتب
- أسمك ؟
- توماس بايكر
- من تريد أن ترى ؟
- تاتيانا ميديتشي و بن بايكر
- ما علاقتك بالمتوفين ؟
- كما قلت لك زوجتي و أبني
دفع الورقة تجاهي و قال وقع اسفل الورقة ، وقعت ، أخذ الورقة وضعها في درج مكتبه و نهض عن كرسه و قال أتبعني

هذه الاماكن ليست غريبة بالنسبة لي بسبب طبيعة عملي لكن هذه المرة كانت مرعبة كانت أطرافي ترتعش أشعر بالضعف و التوتر يسطر على أكثر فأكثر ، مع كل خطوة أسمع صداها كنت أشعر أنني سأفقد السيطرة على مشاعري ، كان ممرا طويلا و عريضا وسقفه منخفض لا يوجد شيء عدى ثلاجات الموتى يمينا و يسارا  أرضيته صفراء إضاءة قوية و تفوح منه رائحة المطهرات ، ثم فجأة توقف عن المشي و ألتفت الى اليمين و أشار بيده الى ثلاجتين متتاليتين واحدة كتب عليها تاتيانا ميديتشي تاريخ الوفاة 7/12/1958  و أخرى بذات التاريخ باسم بن بايكر . نظر الي و قال سأكون في نهاية الممر عند مكتبي في انتظارك انتظرته حتى غادر ، لم أكن واثقا انني أستطيع فعل هذا لكني لم أرد ان أطيل الامر أكثر ، امسكت بالمقبض المعدني البارد و أخذت نفسا عميقا ثم سحبت درج تاتيانا نظرت اليها لثانيتين ثم أغمض عيني لعشر.، لم أستطع النظر إليها و هي شاحبة و هي باردة و هي ميتة !!! ، أتنفس بسرعة حتى أكبت دموعي ،أخذت خطوة الى الامام و سحبت درج بن و كذلك لم أستطع النظر اليه مطولا انظر لثانية و ألتفت أخرى ، أغمضت عيني و قبلت كل منهما على جبينه ، كانا باردين للغاية ، ذلك الشعور ذلك الألم و الغصة في حلقي و الدموع في عينيي لكني امنع نفسي من البكاء .
دفعت الدرجين الى مكانهما و غادرت المكان مسرعا اسمع خطواتي واحدة تلو الأخرة و الصدى يفقدني صوابي و الدموع على وجنتي ، أقول في نفسي يا ليتني لم آتي الى هنا على الاقل آخر صورة لهما في ذهني كانا لا يزالان دافئين كانت الالوان لا تزال تنير وجهيهما ، بالكاد تمالكت نفسي حتى غادرت المبنى . لم يكن وداعا مثاليا لكن هذا ما استطعت تقديمه في تلك اللحظة .


غادرت ساكرامنتو في وقت متأخر ليلة الاربعاء متجها الى نيويورك لأخبر والدي تاتيانا ، غادرت دون المرور بنيفادا سيتي لم أعد الى المنزل المحترق لم آخد شيئا معي غادرت بملابسي التي كنت أرتديها يوم دخولي المشفى تم غسلها في مغسلة المشفى و أعيدت الى غرفتي نظيفة و مكوية لم يعد لبقع الدماء أثر .

لطالما كان نقل الأخبار السيئة كجزء من عملي ، إخبار الابناء بوفاة آبائهم او أمهاتهم أو إخبار الآباء بوفاة أبنائهم لكن كل أولئك كانوا مجرد أناس ، ليسوا عائلتي ، أكترث لمشاعر أولئك الناس و لكن ليس بقدر ما أكترث لمشاعر عائلتي بالطبع و لذلك لم أجد الطريقة المناسبة لإخبار والدي تاتيانا بما حدث .

وصلت الي نيويورك الخامسة فجرا وصلت و أنا بحالة يرثى لها شاحب الوجه ، حزين ، مرهق لم أنم منذ ما يقارب اليومين ، ذهبت مباشرة الى المنزل بالكاد وصلت الى المنزل سالما لا أعرف حتى كم دفعت لسائق الأجرة أعطيته ما كان بجيبي و حسب دخلت المنزل جلست على الاريكة لدقيقتين فقط ثم نمت لم أستطع المقاومة أكثر ، نمت لثلاث ساعات ثم إستيقظت فجأة أتصبب عرقا و حقيبتي في حجري ، لقد نمت لثلاث ساعات و انا جالس ، نظرت الى الساعة كانت الثامنة و الربع أخذت مفاتيح سيارتي و غادرت ذاهبا الى منزل والدي تاتيانا ، طوال الطريق كنت أفكر كيف سأخبرهما ، كيف سأخبرهما ان إبنتهما التي أمناني عليها قد ماتت ، ماتت بسببي أنا ! ، أنا من تركتهما هناك لوحدهما .

أنا امام المنزل في سيارتي واضعا جبيني على مقود السيارة و الدموع تقطر من ذقني ، لا أعرف كيف سأخبرهما بهذا ، رحت أضرب المقود بيدي و أصيح لماذا ! لماذا ! ، كان صراخي أعلى من الازم في ظل هدوء الصباح الباكر ، رأيت ستارة المطبخ تتحرك أي ان احد ما قد رآني ، فتح الباب و خرج فرانكو والد تاتيانا و ظل يحدق بي لكنه لا يرى بوضوح عن بعد فنزل عن الشرفة و مشى حتى الرصيف ثم قال توماس ؟ هل هذا انت ؟
لم أتكلم ، مسحت دموعي بكم معطفي و ترجلت من السيارة و سرت نحوه
- يا إلاهي مالذي حدث لك ؟ ظننت انك عدت الى نيفادا سيتي
كانت عيناي حمراوان بسبب قلة النوم و البكاء و ملابسي التي ارتديها منذ ثلاثة ايام و شعري الأشعث
- عم فرانكو ، هل ماريا بالمنزل ؟
- نعم
- احتاج الى الحديث معكما
- حسنا ، تفضل ادخل
تمنيت ان تنشق الأرض و تبلعني في تلك اللحظة ، كنت بالكاد أتكلم لكنني لم أستطع التوقف عن مسح دموعي بأكمامي
بدأ فرانكو يتوتر
- توماس ، مالذي حدث ؟ أين تاتيانا و بن ؟
- نادي ماريا
نزلت ماريا من الطابق العلوي و ما ان رأتني صرخت يا إلاهي توم ما بك ؟
ثم تغيرت نظرتها و قالت ببعض الريبة و الخوف
- توم ، ماذا تفعل هنا ؟ اين تاتيانا ؟
- ماريا ، أرجوك أجلسي
ظلت تكرر نفس السؤال و تصرخ اين تاتيانا حتى صرخت قائلا ماريا أرجوك فجلست .
جلسا أمامي على الكنبة ، بدأت أرى الحمرة في عيني ماريا و كأنها تعرف ما سأقول ، وضعت يدي على وجهي و مسحت دموعي بأصابعي أطلت الصمت واضعا يدي على وجهي
- توم أرجوك تحدث انت تقتلني
كانت شفتاي ترتعشان و كأنها ترفض هذه الكلمات و لكن ما من مهرب
- تاتيانا و بن توفيا في نيفادا سيتي يوم السبت
كانت ماريا تنظر الي و عيناها مفتوحتين بشكل مرعب و فمها مفتوح أيضا بدت و كأنها تريد أن تقول شيئا لكن الكلمات تأبى الخروج و بدأت أنفاسها تتقطع ، ماريا انهارت فورا و بشكل تام و بعد دقائق من البكاء أغمي عليها أما فرانكو فظل ينظر الى الارض بشكل مخيف لم تكن عيناه ترمشان و كأنه لا يصدق ما قلت و سمعت بكاء كاثرينا و ليلي من الطابق العلوي ، أخوات تاتيانا ، لم أعرف ماذا يجب ان أفعل نهضت لأغادر فقال فرانكو الى اين انت ذاهب ؟
- لا أعرف حقا
لا أعرف كيف كان فرانكو يحافظ على هدوءه بهذا الشكل ، بالنسبة لي لا يمكنني فعل هذا أنا أبكي كالأطفال منذ ثلاثة أيام ، كان يحافظ على رباطة جأشه بشكل جيد و قال أجلس و أخبرني بما حدث
أخربته بكل شيء بإختصار
- اين هما الآن ؟
- في ساكرامنتو لكنني قمت بإجراءات النقل الى نيويورك و يجب ان يكونا هنا بحلول المساء
كانت عيناه حمراوان و انفاسه قصيرة و قال حسنا ، الجنازة ستكون غدا
بت الليلة في منزل فرانكو ، لم ينم أي منا لم تتوقف أصوات البكاء طوال الليل .
فجرا ، لم يكن هناك احد غيري في الطابق السفلي فحاولت المغادرة دون علم أحد ، ما ان فتحت الباب حتى سمعت صوت ماريا من خلفي تقول الى اين تظن نفسك ذاهبا ، كانت تقف أعلى الدرج نزلت مسرعة و هي تقول لقد قتلت أبنتي ! لقد قتلتها قلت لك الا تتركها هناك ، قلت لك ! ثم راحت تضربني بيديها على صدري ، لم أحاول منعها لأنني أعرف شعورها الآن لم أكن لألومها على أي تصرف تقوم به ، كنت أقف فحسبت ثم انهارت باكية على الارض و هي تقول لقد قتلت ابني الصغير المسكين ...... ، جاءت كاترينا لتساعدها على النهوض ثم التفتت و قالت لي ما كان يجب ان اسمح لك بالزواج منها أنتم فتيان الحرب مضطربون و لن تعودوا لطبيعتكم أبدا ، قلت في نفسي....... معك حق و غادرت

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Apr 23, 2020 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

كذبة باندورا Pandora's Lieحيث تعيش القصص. اكتشف الآن