المصير .. بقلم دعاء الفيومي
فتح عينيه ببطئ شديد بعد فترة كبيرة من النوم شعر وكأنها لأيام ليست لبضع ساعات، لم يرى شيء في بادئ الأمر، اعتصر عينيه بقوة؛ ثم أعاد فتحهما مرة أخرى لعله يرى شئ؛ لكن الظلام حالك للغاية، ارتعدت أوصاله، وخفق قلبه، حرك رأسه يميناً، ويساراً لعله يرى شعاع من النور لكن لم يرى شيء، حاول تحريك يده لكنها لم تطاوعه، وكأنها مقيدة فجأة تسلل لأنفه رائحة غبار مصحوب برائحة نتنة؛ عند هذه النقطه أصابه الهلع فقد أيقن أنه في قبر اتسعت عيناه برعب، وانكمشت ملامحه، وتصبب العرق من جبينه بغزارة، فتح فمه المرتعش تكاد أسنانه تنكسر من قوة اصطدامهم ببعض، حاول الصراخ لعل أحداً يسمعه؛ نعم بالتأكيد والدته لن تتركه وحيداً في القبر لابد أنها ستظل بجانبه، لكن صوته خذله هو الأخر مثل يده؛ فقد تحشرج في حنجرته أبياً الخروج من فرط رعبه.
أغيثووووني، أنا مازلت على قيد الحياة، أنا لم أمت لا تتركوني أرجوكم أعيدوني للدنيا.
تلك الكلمات تمنى أن يصرخ بها لكن هيهات لم يستطع، حاول حتى نطق الشهادة لكن لا أمل له في النجاح في ذلك أيضاًأرخى عضلاته في استسلام؛ فقد أيقن أنه دُفن حياً لكن الموت أت بعد دقائق لا محال، شعر وكأن أحداً يسحب شئ بداخله بداية من أصابع أقدامه صاعداً لأعلى، وكلما جذب هذا الشئ يحل محله إحساس بالبرودة القاسية، انسابت دموعه عندما تذكر أنه بعد لحظات سيسأل ما دينك، من ربك، من نبيك، وتأكد أنه لن يستطيع الإجابة، فهو عاش في دنياه ملتهياً بها.
لم يهتم يوماً لحديث والدته التي كانت تتوسل إليه أن لا يهمل صلاته؛ فكان رده السريع دائماً أنه مازال صغيراً، والحياة طويلة، مازال هناك وقت ليصلي، كان يطلب منها أن تتركه يستمتع بالحياة.
وإن طالبته بالتخلي عن التدخين وحاولت إقناعه بأنه محرماً شرعاً، كما أنه سيفتك بصحته، كان يتأفف في ضيق، ورده يكون أنها ليست إلا لذة من ملذات الدنيا، لما لا تتركيني أسعد بلحظاتي، قلت لكِ يوماً ما سأتوب كما تريدين، فما زال في الحياة الكثير لأستمتع به.حتى أصابته منذ ساعات فقط وعكة صحيه صغيرة انتقل على إثرها للمشفى، بالتأكيد حدثت له إغماءه، تم تشخيصها أنها وفاة وها هو الأن أصبح بين الأموات لن يجيره أحد، ولن تنفعه ملذات الحياة.
ازدادت برودة جسده فحاول بما تبقى لديه من قوة أن يصرخ مرة أخرى لعل أحداً يجيره، ويعود للحياة؛ فخرج صوته ضعيفاً جداً مرتعش فقال ربي هو الله، أعيدوني سأصلي، سأترك شهواتي، هل من أحد يسمعني؟
ذاد بكاؤه عندما فقد الأمل؛ فجأه تسلل لأذنه صوت باب يُفتح مصحوب بشعاع من النور، حرك رأسه مسرعاً نحو مصدر الصوت فوجد أمه تمسك بشمعه، وتقترب منه، عقد حاجبيه بعدم تصديق، وسرعان ما بدأ إحساس البروده يتلاشى تدريجياً من جسده، عندما سمع صوت والدته تقول بأسف وهى تضع الشمعه من يدها، وتقترب منه وتحتضنه بشده لتطمئنه: لا تخف يا بني أعلم أن لديك رهاب من الظلام، لكني بعد عودتنا من المشفى، أنرت لك الضوء الخافت في الغرفه، وأغلقت بابها خشيت ان يصيبك البرد ثم ذهبت لأحضر بعض متطلبات المنزل، وعندما عدت كان أمام منزلنا شجار بين أحد الجيران مع صاحب مزرعة الدجاج القريبه من هنا؛ بسبب الرائحه التي تؤذينا جميعاً مما جعلني اتأخر في الصعود قليلاً كان لدي الفضول لأعلم ماذا سيفعلون؛ وعندما انقطعت الكهرباء أسرعت بالصعود، وأحضرت الشمعة كي تضئ الغرفة.
ابتعد عنها قليلاً وأخذ يوزع نظراته في أرجاء الغرفة، ثم تلمس الفراش بيده، انسابت دموعه وتحولت لبكاء ونحيب، ازدادت دقات قلبه من فرط سعادته ها هى الفرصة الأخرى، الله أعطاه الفرصة التي تمناها منذ دقائق، وقع نظره على الشمعه وقال بصوت ضعيف بسبب ألام حنجرته، مع بكائه: سيكون القبر شديد الظلام يا أمي؟
تعجبت من حالته، وسؤاله لكن سرعان ما فهمت ما مر به فقالت مطمئنة: القبر على حال صاحبه بني، لن يصحبنا فيه غير أعمالنا فقط؛ إن كانت صالحه سيجعل الله قبورنا نوراً برحمته، وإن كانت غير ذلك فالمصير سيكون الظلام، والضيق.
مد يده وأمسك علبة سجائره من على المنضده المجاورة، وقام بالضغط عليها بقوه، ثم ألقى بها في صندوق القمامه بجوار الفراش تحت نظرات والدته المتعجبه، و الفرحة في آن واحد، ثم حاول النهوض من الفراش فساعدته والدته مسائلة: إلى أين حبيبي؟!
قال بهدوء: أريد أن يكون قبري مضيئاً، فأنا أخشى الظلام؛ سأتوضأ لأصلي يا أمي.تمت...
بقلمي/دعاء الفيومي.