عادَت زهرَة من الرِحلة، وحرصَت على إبقاء حدود بينها وبينَ الأُستاذ بَدر، رُغم أنّها باتَت مُتأكدة الآن من مشاعِرها تجاهه. وقد تعجّبت مِن تلك المشاعِر الّتي نمَت سرِيعاً بداخلها، فلمْ يمُر فصلاً دراسياً واحداً مُنذ التقَت به!ولكنّه ساعدها بدون شعور، فقد كانَ به من الاختلافِ ما يُميزه عن الجميع في نظَرِها. كانَ رجُلاً ناضِجاً وسط مُحيطاً امتلأ بالشُبان الطائشين المُراهقين، وكانَ طموحاً جاداً وناجحاً وسط الكثِيرين مِمَن يعتمدوا على آبائهم دون عناء العمل.
بالإضافة إلى أنّه ليس لعوباً، فهُو صريح ويُتقن فنْ الكلام، فيبدو ساحراً صادقاً رُغم بساطة كلماته.ورغم كُل ذلك، تعِي جيداً أنّ لا فُرصة لهُم ليجتمعا. فهُو أُستاذها في النهاية وإن كانَ مُعيداً. ولنْ ترضىٰ بأن يُشاع عنها أنّها قد أغوَت أُستاذها، ولنْ ترضىٰ أن يُشاع عنه أنّه قد أغوَى تلميذته.
فيما تُفكِر على كُل حال! فـهِي حتّى ليسَت مُتأكدة إن كان يُبادلها نفس الشعور أم لا!استفاقَت زهرَة على صوت دخول الطُلاب إلى 'كافتيريا' الجامِعة، شعَرت أنّها ليسَت على ما يُرام وفكّرت بمُغادرة الجامعة مُبكراً، لكنّها صمدت وأنهَت دوامها ثُم استأذنَت من أمين المكتبة أنّها لنْ تستطِيع إكمال دوام المكتبة.
رُغم إرهاقها الجسدي والعَقلي الذي لا تعلم تفسيراً له، إلّا أنّها قد لاحظَت غياب الأُستاذ بدر. فاليوم هو موعِد مُحاضرته إلّا أنّ الأُستاذ رؤوف هو مَن أدّى المُحاضرة بدلاً منه اليوم!
لا تُنكِر أنّها قد شعرَت بالقلق عليه، ولكن أخبرت نفسها أنّه رُبما يكون مشغولاً أو طرأ له ظرفٌ ما، وهي لا تملُك الحق للقلق عليه على كل حال.عادت لمنزلها وكان والدها غير مُتواجد على غير العادة، فاليوم إجازته. ما هذا اليومُ الغريب؟ تسائلَت بداخلها.
لم يمُر الكثِير على وصُولها حتّى سمعت طرقاً على الباب، وكانت كوثَر."ما الأمر كوثَر؟ هل أنتِ بخير!" سألَت زهرَة بقلق، فليسَ من عادة كوثَر زيارتها في هذا الوقت حيثُ أنّه موعد عودة والدها من العمل.
"أنا بخيرٍ يا عُمري، هل أنتِ بخير؟" تعجّبت زهرَة من سؤال كوثَر ونظرت لها بغرابة تنتظِرها لتُفسر لها، "الآن أصبحتُ أنا آخرِ من يعلَم بأنّ شاب ما أتى لطلب خطبتِك من أبيكي!" وضعت زهرَة يدها فوق فمها بصدمةٍ مما سمعته. شابٌ أتى لطلبِ يدها! مرةً أُخرى!
ولكن حتّى والدها لمْ يُخبرها بهذا الأمر!"عن ماذا تتحدّثين كوثَر؟ أنا لا أعلم شيئاً عن هذا الأمر!" سحبَت كوثَر يدها لتجلِسا على أقرب مقعدين.
"ظُهر اليوم، أتَى شابٌ وكانَ يبدو عليه أنّه من عائلةٍ طيبة موسِرة الحال. اعتقَدتُ أنّكِ تعلمين بأمره، لأنّه يعرفُكِ!" تعجّبت زهرَة أكثر ولم تحتمِل الانتظار فسألت كوثَر عن إسمه.
"آه.. على ما أتذكّر، فهو أخبر والدك أن إسمُه بَدر." شهقت زهرَة بصدمة. هل يُعقل أن يكون هو الأُستاذ بَدر؟! لم يستوعِب عقلها الأمر حتّى تابعَت كوثَر حديثها.
"كُل شيءٍ كان يسير على ما يُرام، حتّى أخبر الشاب والدُكِ أنّه مُعيداً في جامعتكِ وقد قابلكِ عن طريق هذا،" هُنا تأكّدت زهرَة أنّ مَن تقصده كوثَر هو الأُستاذ بَدر.
شعرت بصدمةٍ كبيرة، فهُو لم يُظهر أي نيةٍ للزواج، وإن كان غازلها ببعضِ الأبيات أو حرص على قضاء بعض الوقت في الحديث معها.
لا تدري هل تفرَح.. أم تغضب لأنّه لمْ يُصارحها بنيّته."لقد رفضَ والدُكِ طلبه، قائلاً أنّه أُستاذكِ ولا يجُوز أن يتزوج من طالبته.."
...
ليلَتها لمْ تذُق عينا زهرَة طعم النوم، لا تعلَم ما هُو شعورها، أحسّت فقط بالفراغ.
لمْ تفقِد يوماً حيويتها ونشاطها كما فعلَت في تلك الفترة. وما زادَ من حالتها هُو عدم ظهور الأُستاذ بَدر في الجامعة بعد ذلك اليوم، وقد علِمت مؤخراً أنّه قد انتقل لجامعةٍ أُخرى.رغم عدم اعتراضها على قرار والِدها، إلّا أنّه شعر بحُزنها، وكان يُحاول قدرَ المُستطاع أن يُخرجها من تِلك الحالة. أخذها وكوثَر في أحد أيام إجازته في نُزهةٍ على الكورنيش. حاولا إبهاجها ولكِن دون فائدة، كانت تبتسم لهما لتُرضيهما ولكِنهم شعروا أنّ ابتسامتها مُنطفئة مثلها تماماً.
...
في أحدِ الأيام وبينما كانت مُنشغلة بدراستها في غرفتها، فقد اقتربت امتحاناتها النهائية، طرقَ والدها بابَ غرفتها.
وضعَت دفاترها جانباً وابتسمت له."مساء الخير،" ابتسمَ لها والدها وجلس على المقعد أمام مكتبها الصغير، "أتيتُ لكِ بخبرٍ رُبما يُسعدكِ.. بعد انتهاءِ اختباراتكِ النهائية، سننتقل للمدينة الشمالية. أعلمُ أنّكِ لطالما أردتِ العيشَ بجانب البَحر."
تفاجئَت زهرَة فلمْ تدرِي بما تُجيب. سوف ترحل! ماذا عن صديقتها؟ ماذا عن كوثَر؟
وبين هؤلاء مرّ الأُستاذ بَدر، هي تدري أنّه قد تركَ جامعتها وانتقل لمدينةٍ أُخرى وفُرصة لقاءهم مرةً أُخرى أصبحت ضئيلة، والآن ستزداد تضاؤلاً.يا له من شعورٍ بشِع الذي تشعُر به الآن. شعور فُقدان شخصٍ لمْ يكُن لك من الأصل.
.
.
.
.والبحرُ لو فاضَ الحنينُ بقلبِهِ
أتُراهُ يبكِي للشواطِئ مِثلُنا؟ (١)
.
.
.
.إذَا طنَّت الأُذُنانِ قُلتُ ذكَرَتنِي
أو اختلَجت عيناي رجَوتُ التَّلاقيا
أُصلِّي فما أدرِي إذا ما ذكَرتُها
أثنَتينِ صلَّيتُ الضُحى أم ثمانِيا! (٢)...
(١) مصدر مجهول.
(٢) مجنون بني عامر.... نهاية الفصل الخامس.
![](https://img.wattpad.com/cover/231822023-288-k851280.jpg)
أنت تقرأ
| حكاية أبيض واسود |
Lãng mạnقبل مواقع التواصل الاجتماعي والعوالم الافتراضية، قبل الحياة السريعة وحركة النسوية الحديثة، قبل انحدارِ الذوق العام، وقبل شعور الفتاة بالخجل من إظهار أنوثتها وقبل شعور الشاب بالخزي لإبراز رجولته، عاشت هي. رواية قصيرة تقع أحداثها في فترة الخمسينات الم...