تقدمت الفتاة بأدب وقدمت بين يديه طاقة من الرياحين.... - السلام عليك يا سيدي انتشر عبير ربیعی .. ملأ الانف الأشم: - انطلقي حرة لوجه الله
سرت همهمة.. تناثرت اسئلة.. علامات استفهام .. - جارية تساوي الف دينار مقابل باقة ورد؟! ابتسم الوجه المضمخ بعبير النبؤات . هكذا علمنا الله؛ أن نرد التحية بأحسن منها، وهل هناك سوى الحرية؟!
الكلاب تنهش جسده بقسوة.. كلاب لم يرها من قبل.. متوحشة.. ملوثة بكل القذارات.. ينز من أنيابها الصديد. يحاول دفعها ولكن لا جدوى. انها مسعورة وتزداد ضراوة وقسوة. وأشدها كان الأبقع. انه يطلب العنق.. يندفع بوحشية لينقض على الرقبة الناصعة.. كابريق فضة. - آه.. آه.. ماء.. ماء. قلبي يتفطر عطشا. انتبه من نومه .. جفف حبات عرق كانت تتلألأ في ضوء القمر. تقابل الوجهان.. وجه القمر، ووجهه. تأمل الحسين النجوم في أغوارها البعيدة. البريق القادم من الأعماق السحيقة يشتد لمعانا.. يومض. يحاول كشف الأسرار. نهض السبط من فراشه.. أسبغ وضوءه. . أشاعت برودة الماء السلام في روحه. لقد مضى من الليل ثلثاه، وليس هناك ما يخدش صمت الليل سوئ نباح كلاب بعيدة.
حمل جرابة مليئة بالطعام، وكيسأ يغض بصرار الدراهم الفضية والدنانير، وراح يجوس أزقة المدينة.
اجتاز بعض المنعطفات.. توقف أمام بيت يكاد يتهدم. أحكم الثامه، فبدا كشبح من أشباح الليل، أو سر من أسراره. وضع قدرة
من السمن، وشيئا من الدقيق، وأسقط - من كوة صغيرة -صره نقود، ثم طرق الباب، وحث الخطى - قبل أن تنفتح - داخل زقاق غارق في الظلام..
كانت تنبعث من كؤة بيت كبير أضواء ساطعة.. وسمع ضحكة ماجنة أعقبتها ضحكات. استعاذ بالله، وهو ينعطف نحو اليمين. صار قريبة من قصر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - حاكم المدينة.
منظر القصر المنيف، والبيوت الطينية التي تحيطه من كل الجهات يعبر عن الظلم الفادح في توزيع الثروات الفقر الى جانب الغنى.. البؤس الى جانب الترف والبذخ..
به این انت يا رسول الله؟!.. هلم لتشاهد ما يفعل طلقاؤك.. في مدينتك.. این أنت يا جداه...الليل ما يزال يغمر المدينة بظلمة حالكة يحيطها بالاسرار والنجوم ما تزال مستمرة في صفحة السماء، والقمر يختفي خلف الربي والتلال، فيزداد الظلام رهبة. كراهبة ترفل بحلتها السوداء بدت المدينة تلك الليلة.
توقف الرجل الاسمر ذو العينين المتألقتين والانف الاشم. وقف الى جانب النخلة التي غرسها جده النبي وتذكر حديثه: اکرموا عمتكم النخلة. لقد شاخت كثيرة، ولكنها ماتزال تهب الرطب والتمر والظلال. أسند جذعه الى جذعها.. أضحيا جذعة واحدة.. انبثق نبع من الصلاة، وغمر رشاش الكلمات السماوية المكان. وصلى الحسين ركعتين.. ثم انطلق نحو النبي
الذاكرة ماتزال تتألق بصور الطفولة.. الحسين بسنواته السبع يركض نحو جده العظيم.. يرتمي في أحضان النبوة وعبق الوحي، وابتسامات الملائكة تغمر دنياه. وتتلاحق الصور.. تشتعل وتنطق كبروق سماوية.
ألقى الرجل الذي ذرف على الخمسين بنفسه على القبر. شعر بدفء الأحضان. احتضن التربة الطاهرة، وراح يستنشق.. يملأ صدره بشذى السماء. شعر بأنه يقبل وجه جده.. يحشد شعره المتموج تموج الصحارى، ويداعب سوالفه المتلألئة. وشعر أنه يعانق آدموابراهيم، ويحتضن الكون كله.
- يا جداه، انهم يريدون مني شيئا عظي.. تكاد له السماوات يتفطرن و تنشق الارض. يريدون لقمم الجبال أن تغادر اماكنها الشماء الى الهاوية، وللسحب أن تدع السماء، وللنخيل أن تنحني... انهم يريدون للحسين أن يبايع.. یبایع یزید.........
أغمض الحسين عينيه المتعبتين، فانبثق شلال من نور محمد.. وجه يتلألأ كالبدر، ترفرف حوله أجنحة الملائكة مثنى وثلاث ورباع.
- حبيبي يا حسين.. إن أباك وامك واخاك قدموا علي.. انهم مشتاقون اليك، فهلم إلينا. |
لا حاجة بي إلى الدنيا، فخذني اليك يا أبتي. - والشهادة يا بني.. الدنيا كلها تحتاج شهادتك.
وانتبه الحسين على أنفاس الصبح، فودع جده وقفل عائدا إلى منزله. الرؤيا تتجسد امام عينيه، حتى كاد يلمس غصنا من سدرة المنتهی. نور سماوي يسطع في أعماقه.. ونداء يتردد في صدره.. يدعوه إلى الرحيل. لقد أزفت الساعة.. والنوق في الصحاري رفعت رؤوسها تترقب انتظام القافلة.