الراية ما تزال تخفق بعنف.. تعلن الثورة.. الرفض.. الإباء..
الدماء تنزف.. تروي الرمال.. تنفخ فيها روحة، وتبتها اسرارة لا يدركها احد من العالمين. |
-هل رأيتم القمر يمشي على الارض
تمتم التاريخ متعجبا، وهو يرى القاسم بن الحسن .. فتى لم يبلغ الحلم بعد. يمشي الهويني.. عليه قميص وإزار، و في رجليه نعلان. في يمينه سيف.. يطوح به يمينا وشمالا.. يقاتل الذين غدروا.. انهم لا ايمان لهم. انقطع شسع نعله اليسرى، فانحنى يشده.. غير عابئ بالقبائل تدور حوله كدوامة ما لها من قرار.
شد عليه رجل يلهث، فاستنكر آخر: - ما تريد من هذا الغلام ؟! يكفيك هؤلاء الذين احتوشوه. - لأشدن عليه. وارتطم سيف جبار، فانشق القمر: -یا عماه؟
وهب الحسين عاصفة مدمرة.. إعصار فيه نار. وما اسرع آن هو العم على قاتل ابن اخيه بسيف مشحون غضبا. وصرخ القاتل هول الضربة. وارادت الخيل أن تدفع عنه الموت، فداسته بحوافرها..وضاع بين سنابك الخيل، وضاعت معه كل أطماعه وأوهامه.
وقف الحسين عند الفتي الشهيد:
- بعد لقوم قتلوك. خصمهم يوم القيامة جدك. عز - والله - على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك
الموت يتخطف القافلة.. والمسافرون يعرجون الى السماء.. ارواحة شفافة خلعت أهابها الارضي ورحلت الى عالم مغمور بالنور.
لم يبق مع الحسين سوى حامل الراية؛ رجل يدعى أبوالفضل؛ أبوه أبو الحسن، وأمه امرأة ولدتها الفحولة من العرب.
الراية تخفق في شماله، و في يمينه بتار يقصف الأعمار.
تمة عيون تتطلع من وراء خيام.. تنظر الى الراية.. تخفق کشراع سفينة تعصف بها الريح من كل مكان. |
القلوب التي صدعها الظمأ تنشد الماء، والفرات دونه غابات من الرماح، وأبو الفضل يكاد ينفجر غضبا كلما سمع أنة بنت أو صراخ صبي: العطش... العطش... ولا شيء سوى السراب، سراب يحسبه الظمآن ماء. تقدم صاحب الراية من اخيه الذي بقي وحيدة.. الحسين ينظر إلى
آخر القرابين السماوية:- يا أخي انت صاحب لوائي. قال ابو الفضل وهو يكاد يتميز من الغيظ: - قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين، وأريد أن آخذ ثاري. - اذا كان ولابد، فاطلب لهؤلاء الأطفال ماء
انطلق أبو الفضل الى القبائل.. الى قلوب قاسية أقسى من الحجارة.. وان من الحجارة لما يتفجر منها الأنهار.
- یا عمر بن سعد؛ هذا الحسين ابن بنت رسول الله.. قد قتلتم اصحابه وأهل بيته، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشئ فاسقوهم من الماء. قد أحرق الظمأ قلوبهم. وهو مع ذلك يقول: دعوني اذهب الى الروم أو الهند وأخلي لكم الحجاز والعراق.
صاح الأبرص بصوت يشبه رنة
الشيطان:
- يابن أبي تراب! لو كان وجه الأرض كله ماء، وهو تحت ایدینا، الماسقيناكم منه قطرة.. إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد.
الاطفال يصيحون.. القلوب الظامئة تئن .. الشفاه الذابلة تهتف: العطش.. العطش. والفرات يجري.. تتدافع امواجه.. کبطون الحيات. اعتلى صاحب اللواء صهوة الجواد..
حمل القرية، وفي أذنيه کلات قالها أبوه على شاطئ الفراتبصفين: رؤوا السيوف من الدماء، ترووا من الماء
انطلق أبو الفضل باتجاه الفرات وسط وابل من سهام ونبال.. رجال القبائل يفرون بين يديه مذعورين.. كأنما يفرون من الموت الزؤام..
الفارس يشق طريقه غير مبال بالألوف التي أحدقت به. يتوغل في اعماق النخيل المحدق بالشاطئ كأهداب حورية.. أبو الفضل يقحم فرسه النهر، فيتطاير رذاذ الماء. اهتزت سعفات نخلة لكأنما طربت الشجاعة وبأس ستذكرهما الايام.
المياه المتدافعة تجري تحت الأقدام، والفارس الظامئ يغترف من الماء غرفة. فيتذکر قلبا يكاد يتفطر عطشة، تمتم وهو يطوح بقبضة الماء بعيدة
يانفس من بعد الحسين هوني
وبعده لا كنت أو تكوني ملأ القربة ماء، ثم قفز فوق جواده، وانطلق نحو مضارب الخيام..
القبائل تقطع علیه طريق العودة، وقد غاظها منظر القربة تموج مياه الفرات.
الفارس يسطر الملاحم وينشد:
لا أرهب الموت إذا الموت زقا حتى أوارئ في المصاليت لقى نفسي لسبط المصطفي الطهر وقا إني أنا العباس اغدو بالسقا
ولا أخاف الشر يوم الملتقى رجل من القبائل يتقن الغدر يختبئ وراء نخلة. في يده سيف ورثه عن «ابن ملجم».
السيف الغادر يهوي - على حين غفلة - فيطيح باليمين لتستقر عند جذع نخلة سمراء:
والله إن قطعتم يميني إني أحامي أبدا عن ديني وعن إمام صادق اليقين
نجل النبي الطاهر اليمين أبو الفضل يشق طريقه. اصبح هدفه ايصال الماء إلى قلوب تتصدع عطش و تحلم بمواسم المطر.
سيف غادر آخر يهوي من وراء نخلة، فيطيح بالشمال. سقطت الراية ومن قبلها سيف علوي.. وأبو الفضل يشق طريقه في وابل من السهام والنبال. وعندما اخترق القربة سهم وانثالت المياه، فقد
الفارس المقطوع الیدین حماسه في العودة الى المخيم، ودارت به القبائل كدوامة مجنونة، وهوى رجل - وما هو برجل - بعمود على رأسه ففلق هامته. وانطلق صوت يبشر بالسلام القادم.
- عليك مني السلام أبا عبد الله.
وانطلقت من بين مضارب الخيام صيحات تنذر بهبوب العاصفة.. صاحت زينب ومعها نسوة وبنات:
-واضيعتنا بعدك. تتمتم الحسين وهو ينشج: واضیعتنا بعدك!