- لا، بل نصلي جميعا بصلاتك.
وصلى الحسين بالجموع.. وصلى خلفه الف فارس كانوا يريدون القبض على الرجل القادم من الحجاز. وقال الحسين بعد الصلاة:
. نحن أهل بيت محمد أولى بالأمر من هؤلاء المعين.. السائرین بالجور والعدوان، فإن أبيتم الا الكراهية لنا، والجهل بحقنا، وكان رأيكم على غير ما اتتني به کتبكم انصرفت عنكم...
تساءل الحر: - ما ادري، ما هذه الكتب التي تذكرها؟!
فنظر الحسين إلى «ابن سمعان»، فاحضر خرجين مملوءين كتبا.. رسائل بالآلاف.. كتبها الكوفيون، كلها تقول أن أقدم علينا ليس لنا امام غيرك.
تمتم الحر خجلان
- اني لست من هؤلاء.. واني أمرت ان اقدمك الكوفة على ابن زیاد.
قال صاحب الأنف الاشم:
- الموت ادني اليك من ذلك.. القافلة تريد أن تستأنف رحلتها.. سفن الصحراء ترفع مراسيها. و«الحر» يعترض: - انا انفذ أمر الخليفة. - ثكلتك امك.
- اما لو غيرك من العرب يقولها لي ما تركت ذکر امه كائنا من كان.. ولكن مالي إلى ذكر امك من سبيل.. فامك الزهراء البتول.
واردف الحر متوسط
- لتسلك طريقا وسطا.. لايدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة، حتى اكتب الى ابن زیاد، فلعل الله يرزقني العافية.
كانت القافلة تسير باتجاه بوصلة القدر .. باتجاه مدينة تعيش في رحم المستقبل.
كانا يسيران على مهل.. يسيران في طريق واحد.. طريق رسمته
الأقدار.
همس الحر بحزن:
أني اذكرك الله في نفسك، فاني اشهد لئن قاتلت لتقتل وادرك الحسين ماتموج به اعماق «الحر». - أفبالموت تخوفني؟!
سأمضي وما بالموت عار على الفتى اذا مانوئ حقا وجاهد مسلم
فأن عشت لم أندم وان مت لم ألم كفي بك ذلا أن تعيش وترغما
وادرك الحر هدف الحسين.. الغاية التي يتحرك نحوها. ابتعد عنه.. أخذ ناحية أخرى من الطريق.. يسايره فيها من بعيد.. ولكنه شعر بنفسه تهفو إلى الرجل السائر نحو الموت.. الرجل الذي قال من قبل: من لحق بنا استشتهد ومن تخلف عنا لم يبلغ الفتح.ما بين «عين التمر» و«القريات»، لاحت من بعيد خيمة وحيدة.. في خارجها رس مرکوز وفرس تحمحم. وفي داخل الخيمة رجل وحید.. فر من الكوفة.. يريد أن ينأى بنفسه بعيدا عن قدر رهيب. فجاءه رجل من أقصى الجزيرة يسعى.
- ماذا تريد!! - اني جئتك بهدية وكرامة. هذا الحسين يدعوك إلى نصرته. أجاب الرجل الوحيد:
- والله ما خرجت من الكوفة الا لكي لا أراه.. لعلك لم تسمع الاخبار.. لقد خذلته شیعته.. قتل «مسلم بن عقیل» و «هاني بن عروة» ورجال آخرون، ولا اقدر على نصره..
وأردف وهو يطرق برأسه إلى الأرض: - ولست أحب أن يراني وأراه.
ولكن الحسين أراد أن يراه فمضى اليه. ورأى «الجعفي» له من الناس تهفو اليه.
رجل ذرف على الخمسين وحوله رجال وصبية وأطفال قادمين، فأوسع لهم في المجلس، وجلس الجعفي قبال رجل لم يره من قبل.. تموج في جبينه طيوف النبوات. أراد أن يكسر حاجز الصمت، فقال مبتسم وهو يشير الى لحية تشبه ليلة غاب فيها القمر:
- أسواد أم خضاب؟! - عجل علي الشيب يا ابن الحر - خضاب اذن! - يا ابن الحر.. الا تنصر ابن بنت نبيك و تقاتل معه؟
- إن نفسي لا تسمح بالموت.. ولكن فرسي «الملحقة» هذه لك.. والله ما طلبت عليها شيئا قط الأ لحقته.. ولا طلبني أحد الأسبقته...
اما اذا رغبت بنفسك عنا، فلا حاجة لنا في فرسك. . ونهض الحسين. كان يريد أن يرفع الرجل.. أن يسمو به، ولكنه اثاقل الى الأرض.
وفي آخر الليل أمر الحسين فتيانه بالاستقاء والرحيل. ونهضت النوق.. يممت وجوهها نحو الارض التي بورك فيها للعالمين.. وكان
هناك ألف ذئب تتوهج عيونها غدر.. القافلة تسير.. تشق طريقها في الظلام. تتبعها قطعان الذئاب وهي تعوي في آخر الليل.
لاح راكب من بعيد.. مدجج بالسلاح. كان رسولا من ابن زیاد إلى «الحر» يحمل اليه كتابة خطيرة. قرأه الحر بصوت يسمعه الحسين:
- جعجع بالحسين حين تقرأ كتابي ولا تنزله الا بالعراء على غير حصن ولا ماء. قال الحسين: - دعنا ننزل «نینوئ» أو «الغاضريات».
لا استطيع. فحامل الكتاب عين على قال «زهیر بن القين»، وكان رجلا صحب الحسين على قدر:
- یابن رسول الله! دعنا نقاتلهم.. ان قتال هؤلاء أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم. فلعمري ليأتينا ما لا قبل لنا به.
- ماكنت أبدأهم بقتال. - ههنا قرية و «الفرات» يحدق بها من ثلاث جهات. - ما اسمها؟. - «العقر».. - نعوذ بالله من العقر. والتفت الحسين الى الحر:- سر بنا قليلا. ومضت القافلة لا تلوي على شيء.. يتبعها ألف ذئب أغبر.
اهتزت البوصلة.. تعثرت النوق.. ووقف جواد الحسين.. تستمر في مكانه.. رفعت النوق رؤوسها.. تلفتت.. لعلها شتمت رائحة وطن تبحث عنه. سأل الحسين:
- ما اسم هذه الأرض؟ - الطف. - فهل لها اسم آخر؟ -کربلاء. تجمعت الدموع في عينيه كغيوم ممطرة:
- أرض کرب و بلاء... فهنا محط ركابنا وسفك دمائنا. بهذا اخبرني جدي رسول الله.
وفي تلك الليلة، لاح هلال «المحرم» حزينأ كقارب وحيد.. تائه في بحر الظلات.
تعالت أصوات رجال يدقون أوتاد الخيام، وضحكات بريئة الأطفال يلهون في الرمال.. ونسائم عذبة تهب من ناحية «الفرات»؛ وكان الحسين واقفا يتأمل الأفق البعيد.. يحدق في آخر الدنيا.
مادت الكوفة بأهلها، واهتزت الارض تحت الأقدام. كتائب جنود مذعورين تتحرك في كل اتجاه.. عيون زائغة لأشباه رجال تحمل اسلحة القتل.. تنطلق إلى خارج المدينة.
«زجر بن قیس» يقود خمسمئة فارس.. يتجه صوب جسر الصراة». .
وخرج «الشمر» في أربعة آلاف مقاتل، و «الحصين بن نمير» في أربعة آلاف، و «شبث بن ربعي» في ألف، و «حجار بن أبجر» في ألف.. وتتابعت الكتائب تلو الكتائب.. جنود يشبهون في ذلتهم الاسرئ.. قلوبهم مع الحسين وسيوفهم تستهدف قلبه.
حيات وأفاع تتلوى.. تزحف باتجاه «الفرات». وبدا النهر أفعى خرافية تتمدد وسط الرمال........
وفي الكوفة، مطرت السماء ذهب يخطف الأبصار ويسلب الألباب،
واجتمع زعماء «القبائل» تحت المطر، فلم يبرحوا حتى طمت رؤوسهم بالذهب، والأرقط ينثر الأموال ويوقر العطاء.. يلقي حباله وعصيه، فاذا هي حيات و عقارب تسعى
وافتتنت «المومس» بابن زیاد، فنسيت ذكر الحسين. قالت بخلاعة:
- مالي و الدخول بين السلاطين..
قهقهه «الأرقط». دوت ضحكة شيطانية في أرجاء القصر.. جيوشه تحاصر القافلة.. تمنعها من العودة. - وقعت في قبضتي يا حسين.. ها أنا أرتقي قمة المجد.. سيدخل بوابة قصري قائلا: حطة. أنا ابن زیاد ابن ابي سفيان.. صخر بن حرب.
افتر الرجل الأبرص، فظهرت أنياب حادة. |
- لا تقبل من الحسين الا النزول على حكمك. إنه الآن في أرضك، فضيق عليه الخناق.
ما لهذا الأبرص؟!.. صوته كفحيح الافعى. الخنزير يريد للنخل أن يركع.. والنخل الباسق يعشق الفضاء، والا مات واقفة
الأرقط يجيد «الشطرنج». ينقل جنده وقلاعه.. يحرك فيلة وخنازير وبيادق تحلم بحكم «الري وجرجان».
الأرقط يعرف «أصول اللعبة». من يمينه تتدلى مشانق وحبال، ومن شماله يسيل ذهب اصفر يأخذ بالألباب. والبيادق الفئران تقف مذعورة.. تحمل سيوف خشبية.. وتمتلئ جيوبها فضة أوذهبا.... |
والأرقط الذي تلبس وجهه جلد الأفعى يتمدد في «النخيلة»، يراقب بیادقه بحذر و ترقب. هناك رجل سیدمر لعبته.. سيلقف سيفه كل حباله وعصيه.. وجيوشه الوهمية.
صرخ الأرقط بالرجل الأبرص.
- اكتب «لابن سعد»: أما بعد؛ أني لم أبعثك الى الحسين لتكف عنه ولا لتمتيه السلامة. انظر، فإن نزل الحسين وأصحابه على حکمی فابعث بهم إلي، وأن أبوا فازحف اليهم حتى تقتلهم وتمثل بهمن
كخنزير راح الشمر يجري صوب أحلامه المريضة.. تفوح منه رائحة الموت، وآلاف الضحايا ترقد في عينه المنطفئة.. ومن عطفيه تنبعث حرائق ودخان، وروائح أجساد محترقة.
سلم الكتاب إلى «قائد الجيش»، وراح ينظر اليه خلسة بعين نصف مغمضة. أما عينه الاخرى فقد بدت هوة سحيقه تعشعش فيها
العناكب.
ادرك الرجل الذي ناهز السبعين أن الأبرص قد جاء يسرق منه أحلام قديمة.. جميلة تحكي جمال مدن «الري» و «جرجان».