قال طبيبي النفسي العجوز الذي اعتدت زيارته وهو يثبت منظاره الطبي السميك فوق أنفه ألاجدع:
"إنك تعانين من عدم التكيف وأحلام اليقظة المفرطة... Maladaptive daydreaming..." أردف بالإنجليزية مستعرضاً عضلاته العلمية.
سألته أمي في جزع:
"ماذا يعني هذا يا سيدي الطبيب؟"
رد الطبيب:
"أي أنها لا تتكيف مع الواقع وتفرط في الخيال والعيش في أحلام اليقظة سيدتي!!!"
سالته والدتي في تضرع:
"وما الحل؟... طمئني بالله عليك..."
رد الطبيب:
"أن تتخلى عن ذلك العالم الخاص الذي اختبأت فيه وتعود إلى عالم الواقع... فأي دواء لن يجدي نفعاً دون إرادتها!!!"
شكرته والدتي وانصرفنا بعد أخذ الوصفة الطبية الممهورة بتوقيعه الغير مفهوم...
أشعر أن الأطباء يتعمدون الكتابة بخط غير مقروء ليضفوا مهابة الغموض على أنفسهم...قالت أمي في غضب و نحن نركب السيارة خاصتنا بعد شراء الأدوية اللازمة:
"أسمعتى ماذا قال الطبيب؟..."
إكتفيت بهز رأسي موافقة قبل أن أشيح بوجهي لمشاهدة معالم الطريق من نافذة السيارة التي كانت تقودها أمي.
يريدونني أن أتخلى عن عالمي...
عن المكان الوحيد الذي شعرت فيه بالطمأنينه...
بالدفء الجارف...
بالتقبل مهما بدا مني من أخطاء...
بالحب غير المشروط...يريدونني أن أتخلى عن الوطن الوحيد الذي شعرت بالانتماء إليه...
الوطن الذي لا يحتاج الى جواز سفر لدخوله أو إلى تصريح للخروج منه...
فقط يكفي أن أغمض عيني وأغوص في محيطاته اللا محدودة...كم عالماً يا ترى في رأسي؟
لم يخطر على بالي أن أقوم بعدهم من قبل...
لن أبالغ إن قلت بالآلاف...
بل ربما بالملايين...
بعضهم أعود إليه مئات المرات...
والأخر أدفنه في أعماق وعيي وأنساه...كم شخصاً يعيش في رأسي إذاً؟...
شعوباً من صيادي التنانين والفضائيين والكائنات الأثيرية...
أشخاصاً فقدتهم وأشخاصاً لم يعرفهم هذا العالم من قبل كانوا ليغيروا وجه الأرض لو كانو بيننا...خيالي نهر متدفق لا ينضب أبداً منبعه الغامض...
يكفي أن ألمح شيئاً يذكرني بإحدى عوالمي العديدة...
لأزوره ع الفور دون إذن مسبق... أو وسيلة مواصلات...
فها أنا ذا ألمح شرشفة حمراء اللون وضعتها إحدى السيدات على شرفتها لتجف...
تذكرت عباءة سوبرمان...
يا إلهي لم أطر معه في إحدي مغامراته العديدة منذ مدة!...
أغمضت عيني... و روحت أتخيل العالم من فوق...
المباني...
الأشجار...
البشر...
رحت أرسم خريطة للعالم من فوق في تأني...
لاحت في زاوية فمي ابتسامة وأنا أشاهد الطيور من حولي...
كم يصبح كل شئ صغيراً وغير مهم من فوق..."ليلك... ها أنت تغرقين في عالمك مرة أخرى!!!" صرخت أمي لتنتزعني من عالمي بغتة.
فتحت عيني مرغمة و أومأت برأسي ممتعضةً...
ما الذي يغريني في هذا العالم حتى أعود إليه؟...
يريدونني أن أعود إليه... إلى هذا العالم القمئ...
المليئ بالضحايا و الحروب و المآسي...
هذا العالم الذي يحكم عليك حتى دون أن يعرفك...
يكفى أن تضحك بصوت عالٍ في مكان عام أو أن تبتسم في الشارع ليظنوا بك الظنون و يطلقوا عليك الإشاعات و الاقاويل...
كلهم ملائكة بلا إستثناء...
لا يخطئون...
لا يتعثرون...
فقط أنت وحدك النقطة السوداء الشاذة وسط تلك الصفحة الناصعة البياض...لم أفهم هذا العالم قط و لن أحبه أبداً...
أُتركونى في عالمي...
وحيدة...
فالوحدة ترياق سم الإحساس بالاغتراب وأنت في قلب وطنك...في عالمي عشت ألف عام في أعوام يسيره...
و جربت ألف حياة في حياة واحدة...
فأنا هنا طبيبة حصدت نوبل... وهناك ممثلة فازت بالأوسكار... و في المجرة الأخرى لاعبة كرة قدم تلعب بجوار محمد صلاح...لا قوانين تحكمني و لا جاذبية تربطني بالأرض...
حرة... حرية الأرواح في عالم البرزخ...
أخوض المغامرات مع باتمان... أهرب من الشرطة مع أرسين لوبين... أو أحل الألغاز مع شيرلوك هولمز... لا شأن لأحد بي...في عالمي لا يستطيع أحد الحكم علي أو وصمي بالجنون...
فكلهم من بنات أفكاري...
أحفظهم عن ظهر قلب وأعرف شفرات دخائلهم...أنا ممتنة تماما لتلك المنحة الربانية التي تبقيني بعيدة كل البعد عن تعقيدات الواقع المؤلمة.
تلك الحيلة النفسية الدفاعية التي يلجأ إليها عقلي كلما شعرت بالاغتراب في هذا العالم.ولكنني أحيانا أخشى أن تتماهى الحدود بين العالمين... فيختلط علي الأمر و يتداخلان...
فلا أتبين الواقع من الخيال...أسبلت جفني مستسلمة للنوم في المقعد الخلفي للسيارة...
لا ادري كم نمت عندما أيقظني صوت أبي في حنان:
"ليلك... ليلك... إستيقظي..."
أجبت وأنا مغلقة العينين:
"أنا مستيقظة..."
لقد كنت في سريري وسط غرفتي... لابد و أن والدي قد حملني من السيارة وأنا نائمة ولم يرد إيقاظي.
سألني في إهتمام:
"هل ترغبين في تناول الطعام معي الآن أم فيما بعد؟"
أجبت غير مكترثة:
"لا فارق عندي..."
قال والدي بنبرة حزينة مستسلمة:
"حسناً سأتركك إذاً..."
سألت في إستغراب بريئ:
"أبي... ماذا عن أمي؟... ألن تشاركنا الطعام؟... لم أرها منذ وصلنا من عيادة الطبيب!!!"
إضطرب والدي في جزع و أسرع إلى سريري يحتضنني و يقبل جبهتي بحنانه المعهود.
ثم همس في يأس:
"ليلك... هل على أن أخبرك كل مرة أن والدتك قد قضت في حادث سيارة منذ عامين... و أنك قد كنتي في المقعد الخلفي للسيارة وقت الحادث!!!"
اترك تعليقا او تصويتا ساكون ممتنة جدا و سيساعدني هذا على الإستمرار في الكتابة...
شكرا علي مرورك و إعطاء كتاباتي الفرصة...
أنت تقرأ
أحلام اليقظة
Short Storyأصاب بالصداع أحيانا فأكتب لإفراغ رأسي من تلك الأصوات... Teaser كم عالما يا ترى في رأسي؟ لم يخطر على بالى أن أقوم بعدهم من قبل... لن أبالغ إن قلت بالآلاف... بل ربما بالملايين... بعضهم أعود إليه مئات المرات... والأخر أدفنه في أعماق وعيي و أنساه...