اصنع لنفسك عكازا

150 22 0
                                    

اصنع لنفسك عكازا

ليس من عادتي أن أرى اثنين تتشابك أيديهما ويبتسمان أثناء سيرهما فأظن أنهما يتذوقان كئوس السعادة؛ فلقد علمتني الحياة أن البيوت أسرار وأن هناك من الخبايا العظيمة خلف الجدران والأسوار؛  فها هي ضاحكة الوجة ربما تكون في بيتها  مكسورة الخاطر حزينة القلب.

وها هو الرجل ذو الذوقيات الرائعة مع كل من تحيط به من فتيات يعامل زوجته بقسوة بالغة، وربما تقضي لياليها وهي خائفة تترقب زوابعه وانقلابه المفاجئ عليها!

علمتني الحياة أن كثيرا من الأزواج والزوجات يرتدون أقنعة السعادة أمام الآخرين بينما هم في بيوتهم يعيشون التعاسة بأقوى معانيها؛ لذا لا أكترث ولا أهتم بهذه الأيدي المتشابكة والوجوه الضاحكة ولكنني بالأمس اهتممت.

أتدرون لماذا؟

لأنني لعدة أيام متتالية حين كنت أنزل لأشتري طلبات المنزل كنت أراهما وأرى السكينة مرسومة على وجهيهما.

رجل وامرأة بلغا من الكبر عتيا، يسيران ببطء شديد، يشتريان معا طلبات بيتهما،
يستند كل منهما إلى الأخر وكأنه يقول له بلسان الحال: أنت سندي وملاذي، أنت قوتي وعكازي.

كلما رأيتهما أجد قلبي ينبض بالفَرحة والسعادة، وأجدني ابتسم، فإذا بهذه الجدة تبتسم لي بحنان بالغ وكأنها تقرأ ما يدور في خلدي.

أدعو لهما بيني وبين نفسي، وأسير في طريقي متساءلة:

تُرى كيف كان حال كل منهما مع شريك حياته في فترة قوته وشبابه؟

أتذَّكر في هذه اللحظة الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك حين أُمروا باعتزال زوجاتهم فإذا بزوجة هلال بن أمية تأتي إلى رسول الله ﷺ فتقول له: "يا رسول الله، إنَّ هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟
قال: لا ولكن لا يقربك.
قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا"
زوجة أحبت زوجها الشيخ الكبير فكانت له سندا في محنته وطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لها في البقاء معه فقط كي تخدمه.

تُرى هل ستكون زوجتك عكازا لك تستند عليه حين يهرم سنك ويضعف عظمك؟

هل ستتذكر زوجتك أنك كنتِ لها حصن أمان ونبع حنان فإذا بها إلى جوارك مهما حدث ومهما كان؟

أم أنها ستتذكر ذلك الخوف الذي كنت تزرعه فيها، أو تلك القسوة التي كنت تعاملها بها أو ذلك الظلم أو الإهمال والإذلال؟

تكررت الفكرة في ذهني حين حدثني ابن من أبنائي الذين أدرّس لهم ليستشيرني في حاله، وكيف أنه صار مهموما وحزينا ولا يدري كيف يخرج من هذا الحال الكئيب.

نصحته ببر والده الذي كبر في السن وصار في مرحلة الشيخوخة، فإذا ببركان حزن ينفجر من هذا الابن وهو يقول لي: لم أجد من معاني الأبوة معه سوى أنه كان سببا في إنجابي وحسب.
أنني أتمنى له الموت.

للأسف أبناء هذا الرجل يتجنبون الحديث معه لأنهم لا يتذكرون له حلوا ولا معروفا، ومنهم ابنة تعيش صريعة الحزن والخوف لأنها تتذكر دائما صوت أبيها وهو يصرخ في أمها ليلا فإذا بهذه الصغيرة تستيقظ فزعة يملؤها الرعب.

حاولت معها ومع أخيها مرارا أن أليَّن قلبيهما على والدهما ولكنني لم أستطع؛ فيبدو أن ما بقلبيهما أكبر من محاولاتي.

تُرى بعد سنوات قليلة بل وبعد شهور قليلة من سيكون عكاز هذا الرجل الذي لم يقدم لهِرمه سوى ما يُنفر أقرب الناس منه؟

ليت الرجال يدركون ما يفعلون بزوجاتهم وأبنائهم  بل وبأنفسهم حين يسلكون طريق القسوة والظلم!

ليت الرجال يدركون أن الأيام تدور ولا يبقى حال على ما هو عليه.

سيكبر الأبناء وينشغل كل منهم بحياته، ويعجز الجسد عن الاستمرار  في الدوران في دائرة العمل كما كان، وسيجد الزوج نفسه يشتاق إلى قلب يعيش معه ما تبقى من الحياة في سكينة وانسجام؛ فابذروا ا لأنفسكم بذورا صالحة حتى تنمو وتصبح أشجارا تظللكم وتحميكم من حرارة الوحدة النفسية حين يتقدم بكم الزمان.

اصنع لنفسك عكازا تستند عليه؛ فاليوم قوة وغدا ضعف، واللبيب من جعل قوته له لا عليه.

رضا الجنيدي

✍ كلنا راحلون ويبقى الأثر.. فلنترك أثرا قبل الرحيل.

🌸 السابقات الى الجنة 🌸..(الجزء 2)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن