الفصل الأول

579 24 10
                                    

الفصل الأول

في إقليم الخريف حيث تهب الريح على مدار أيام السنة يهب معها كل شيء عبر المدن الثلاث التي تحتل الإقليم بما في ذلك الاسرار و المؤامرات و الدسائس و غيرها من الامور التي تجعل حياة الساكنة تتأرجح بين البؤس و الشقاء، الرغد و السعادة الكراهية و الحقد، الحب و المودة كلها تسافر مع اوراق الخريف الحمراء الملتهبة تسيّر حياتهم.
كان ماركو لا يزال يغط في نوم عميق جداً متناسيا أن اليوم هو موعد افتتاح المدارس و عودة الطلاب إلى مقاعد الدراسة. بالنسبة لماركو فقد كان يترقب هذا الحدث بخوف شديد فهو يكره كل مصطلح يتعلق بالدراسة . تقدمت السيدة نيكول والدة ماركو نحو ابنها بغضب : ماركو لقد حان موعد الاستيقاظ .... آه يا إلهي متى ستنتهي قصة حبك مع السرير
على وقع كلمات أمه استيقظ ماركو بسرعة خوفاً من أن يعقب ذلك ركلة عنيفة معتادة من والدته و أسرع بالقيام بما يجب القيام به و جهز نفسه لأول يوم دراسي للموسم الجديد و خرج مسرعاً من البيت محدثاً نفسه قائلاً : يا إلهي !!! لا أريد أن اتأخر من اول يوم " و ظل يركض بأقصى سرعته حتى بلغ بوابة المدرسة مصطدماً بأحد الطلبة بعنف جعل رأس ماركو يدور و سقط الاثنان أرضاً ما جعل الفتى يغضب بشدة من ماركو كما أن ماركو وقف بدوره متجهاً نحو الفتى و قال في ثورة غضبه : لست في مزاج جيد سأوسعك ضربا يا هذا !!! "و قبل أن يفعل تدخل صديقه كيتارو في آخر لحظة و حاول إيقاف ماركو و من حسن حظه أن جرس المدرسة قد رن في نفس اللحظة و معه بدأ اكتئاب ماركو فلطالما كره الكتب و رائحتها كما كانت تضجره رؤية الأقلام و الدفاتر و تحسس من محفظته السوداء الكئيبة كان يبدو شاباً ميئوساً منه لكن هذه النظرة التي سمح للمجتمع بتكوينها حوله لطالما تمكن من إثبات عكسها و خلافاً لما يبدو عليه إلا أنه شاب يحرز علامات جيدة و يدرس كما ينبغي.
بدأت الدروس لكن هناك امر غير معتاد فقد ظل ماركو يراقب صديقه المقرب كيتارو الذي لم يكن على ما يرام و لم يظهر عليه حماسه المعتاد أثناء الدرس فقد بدا شارداً و حزيناً.
بعد انتهاء الحصة خرج ماركو برفقة صديقه و سأله مباشرة عن سبب حزنه فأجابه قائلاً : ماركو يبدو أن صداقتنا لن تدوم أكثر من هذا" عبس ماركو من الإجابة الغبية التي تفوه بها صديقه و بعصبية رد قائلاً : " كيتارو لست في مزاج يسمح بالتفاعل مع ألغازك اريد شرحاً للهراء الذي سمعته للتو"
_ "أبي .... مؤخراً صار يلّح علي بموضوع نقلي من هذه المدرسة إلى مدرسة خاصة" اندهش ماركو مما سمعه و قال بصوت متقطع من هول المفاجأة: "ما ..... ماذا ؟! ...... ما السبب؟؟" تابع كيتارو مجيباً:" أخبرني أن مردودي الدراسي جيد جداً و انتقالي إلى مدرسة خاصة يليق بي"
بعد رد كيتارو تقدم ماركو مبتعداً ببضع خطوات، حدق كيتارو بعينين جاحظتين وقال : " ماركو ؟!" و التفت صاحب الشعر الاسود و الانزعاج باد على وجهه حين قال:"هذا يكفي لا أريد سماع المزيد يا كيتارو سأجعل والدك يعدل عن رأيه هذا" صاح كيتارو بنبرة سعادة بنكهة الدهشة قائلاً: "حقاً ؟! هل ستحاول إقناعه من أجلي ؟"
رد ماركو كاذباً:"ستتعرض للاستغلال بما أن لديك قلباً طيباً اذا انتقلت الى مدرسة اخرى لذلك سأمنع حدوث هذا" خنقت السعادة كلمات كيتارو فقال:"ا...... أنا حقاً لا أدري ما اقول أنت ....." و قبل أن ينهي جملته قاطعه ماركو قائلاً : "إن بقيت واقفاً هناك فلن ننجز شيئاً". أحس ماركو بسعادة كيتارو الغامرة و الذي جعله ينسى ما كان يضايقه فدائما ما يثبت له ماركو جدارته كصديق فهو قد سانده في كل الأحوال ليس لأنه ثري بل لأنه يعتبره صديقاً حقيقياً.
تقدم الصديقان معاً بالقرب من بوابة المدرسة و كان سائق كيتارو الخاص قد ركن السيارة بانتظار سيده و لدى وصوله انحنى الخادم بأدب قائلاً :" طاب يومك سيدي الشاب آمل أن تكون قد قضيت يوماً دراسياً موفقاً"
و أضاف : "طاب يومك سيد ماركو"
بابتسامة خجلة قال كيتارو : "هيا ..... أخبرتك مراراً أن تتخلى عن هاته الرسمية يا نيل أظن أن كيتارو تكفي أليس كذلك؟"
رد الخادم و كأنه تجاهل قول سيده:" تفضل بالصعود سيدي" تلك الاجابة جعلت ماركو يستغل الموقف و أضاف ساخراً من كيتارو : "تجاهلك نلت ما تستحقه أيها الأشقر المدعي للتواضع" ابتسم كيتارو وقد تورد وجهه خجلاً وقال: "اوه يا للاحراج". بعد أن ركب الاثنان السيارة امسك ماركو هاتفه و اتصل بوالدته ليخبرها انه قد يتأخر في العودة للبيت.
تحركت السيارة و قد لاحظ ماركو أن ملامح صديقه قد عادت للإمتقاع لكنه فضل ألا يقول شيئاً هذه المرة، مرت دقائق حتى توقفت السيارة أمام بيت فخم مترف الأثاث ، كان ماركو يندهش كلما رآه و كأنها المرة الأولى، كان ذلك البيت هو البيت الذي يعيش فيه كيتارو مع والديه، ترجل الشابان من السيارة و اجتازا البوابة الرئيسية و لدى دخولهما استقبلتها خادمة بأدب قائلة :" طاب يومك سيد كيتارو و رفيقه" رد ماركو بلباقة و انما بتكلف قائلاً :" أهلا ريتا تبدين نشيطة كالعادة" ثم اكملا طريقهما بينما يتخلف ماركو بضع خطوات حتى وصلا الى مدخل غرفة الجلوس المهيبة و قد الفى كيتارو والده جالساً بينما يتصفح جريدة و يحتسي فنجان قهوة،كان السيد والده يتمتع بنظرات زجاجية تبعثها أعين حادة ترتسم فوقها حواجب شقراء كثيفة بعض الشيء على وجه طويل ببشرة قمحية و انف طويل ينسدل تحته شارب ذهبي و شفتين ممتلئتين و مع شعر رأسه الغزيرة المسرح الى الخلف كانت ملامح والتر تخبر عن الرجل الاربعيني الصارم الذي هو عليه، انتبه والد كيتارو الى أن ابنه يقف بتردد عند مدخل الغرفة فجأر بصوت أجش ملأ الحجرة: "مرحبا بني لقد كنت في انتظارك" ثم لاحظ ماركو من الخلف و أضاف بفتور:"أهلا ماركو " أجاب كيتارو مطأطئاً رأسه قائلاً :" ابي... لا اريد تخييب أملك و لكن... انا لا اريد أن ارحل الى مدرسة أخرى بعيداً عن رفاقي " زمجر الاب ممتعضاً:" ليست هذه هي الإجابة التي كنت انتظرها"
انقبضت ملامح كيتارو حينما قال:"ابي ارجوك ما فائدة هذا الانتقال إن لم يكن عن طيب خاطر مني "
تدخل ماركو متحرياً اللباقة في ما سيقول وهتف فجأة: "سيد والتر أعلم أنه من الوقاحة أن أتدخل في نقاش بين الأب و ابنه كما انني لست أبا لأدرك ما يفكر به الآباء لكنني أعلم أموراً أخرى تخص كيتارو و أرى أن تراعي مشاعر ابنك أكثر و تتفهم طريقة تفكيره" كانت تلك هي المرة الأولى التي يتحدث فيها ماركو مع والد صديقه بشيء غير التحية، ظل والتر صامتاً للحظة ثم رمق ماركو و أضاف:"أنا افعل ما اظنه مناسباً لحفظ اسم العائلة و كيتارو سيرثني من بعدي " كان رد ماركو التالي قد تفلت منه الاحترام و صاح بنبرة انزعاج:" حتى لو دل ذلك على تعاسة تفرضها على حاضر ابنك؟ " قال والتر بجمود: " "مستقبله أهم من حاضره" ثم توقف يستجمع حججه و قد بدا لماركو أن والتر مضطر لتبرير أمر عائلي يستوجب الحفاظ على ما بقي له من صبر ثم سمعه يقول: "أنا على وشك أن أنقل ابني الى مدرسة خاصة تضمن له ارتياد أفضل الجامعات لذا يا ماركو اخبرني لو سمحت ما هي المزايا التي تمنحها مدرسة المدينة لابني الوحيد بحيث تجعلني أتنازل عن هذا الامتياز؟" كانت اجابة والد كيتارو مقنعة الى حد بعيد لدرجة أن الكلمات تبعثرت في خلد ماركو قبل أن يرد: "لا مدرسة خاصة هنا في مدينة تشرين الثاني بأكملها ولا أظن أن هناك واحدة في إقليم الخريف بأكمله..." قاطعه بتلقائية قائلاً: "إقليم الربيع يضم مدرسة خاصة في مدينة (أيار) مدينة جميلة تجعل الإنسان يطيل البقاء هناك لطالما أخذتني رحلات عمل إلى هناك ... مدينة تذكرني بإبنتي "لم يجد ماركو وقت المواساة و قال مجادلاً :"(أيار) ؟! ... إنها مدينة تبعد حوالي خمسمئة كيلومتر عن هنا !"
"أعلم هذا، كما أعلم أن هناك سككاً حديدية بين كل مدينة لا اظن أنك تعتقد أن كيتارو سيقطع تلك المسافة سيراً" كان في نبرة الرجل الثري شيء من الحسم جعل الاحباط يتسلل الى ماركو بالقدر نفسه ثم قال: "سيحتاج الى تصريح لمكوثه في (أيار)" تصريح يعرف ماركو شدة صعوبة الحصول عليه من المدن الوردية، لكنه سمع السيد والتر يقول :"لا تشغل بالك بهذا بني ... توليت الأمر بالفعل" توقع ماركو هذا نسبياً، يتطلب الحصول على تلك الورقة طرقاً ملتوية أغلب الأحيان نظراً لتزمت (الأياريين) .في هذه الحالة حتى أشرف الرجال يجنحون لتلك الأساليب بمن فيهم السيد والتر ، يبدو أن العجوز الأشقر متشبث بموقفه بما لا يدع مجالا للشك في أنه سينفذ ما يعتمل في صدره،رغم ذلك قال ماركو في محاولة يائسة :"أنت تبعده عن كل شخص عرفه في هذه المدينة ... جذوره هنا " قال آخر كلمتين بنظرة حادة ، رد والتر ببرودة الصقيع :"لكل شيء ثمن "
بعد رد والد كيتارو الخالي من المشاعر كان الغضب و العجز ينهشان صدره و يجعلانه يتميز غيظاً لكنه تنهد و كظم الغيظ بالنذر اليسير من الصبر الذي يمتلكه و قال بهدوء:"لقد فهمت"

ثم خرج من بيت السيد والتر بخطوات واسعة و متجاهلاً نداءات كيتارو الذي حاول بيأس منعه من الخروج أو أن الغضب أعماه لدرجة أنه لم يسمع صوته، كان كيتارو على وشك أن يمنع صديقه من الخروج لكن والده منعه بنظرة واحدة تغلغلت في أعماق الشاب الأشقر و أوصلت الرسالة.

خرج ماركو و هو يحاول الا يركض و قد كان يشعر بعروقه تنبض كأنها على وشك الانفجار و بعد دقائق بدأت خطواتها الطويلة تقصر تدريجياً و بعد لحظات كان قد بدأ في التفكير و إعادة النظر في ردة فعله الأخيرة، فرغم العناد الذي يعرفه عنه صديقه الا أن غضبه لا يعمر طويلاً و عادة ينطفئ كشعلة شمعة، حدث نفس

-لقد قللت الأدب .... و ربما يستوجب هذا التصرف الإعتذار-

توقف مُطرقاً ثم جلس على مقعد على الرصيف ووضع كلتا يديه على وجهه ثم مررهما خلال شعره الأسود الفاحم الغزير و ظلت أصابعه تخلل شعره لفترة من الزمن بينما تدب قدمه اليمنى ضرباً على الأرض بشكل خفيف- العادة التي لا يعلم ماركو من أين اكتسبها إلا أنها دائماً ما تنجح في منحه بعض السكينة و تملكه الإمتنان لذلك، أخذ يحاول طمر كبريائه ليعود بإعتذار لوالد كيتارو في مرحلة أخرى خلال جلوسه على الكرسي المعدني، لكن لديه كبرياءً يكفي إقليم الربيع بأكمله و هكذا وقف الشاب اليافع متخذاً طريقه نحو البيت،  غضبه سريع الذوبان لكن ليس عناده، كانت السماء قد تخضبت بغيوم حمراء بينما ترسل الشمس آخر خيوطها و أخذ يمشي بتأنٍ بينما ينتحر ضوء النهار . في شرود انعطفت شاحنة مسرعة و كان قد بدا على سائقها انه قد فقد السيطرة و في تلك اللحظة لم يجد ماركو نفسه إلا واقفاً بينما يتلقى ضربة عنيفة بمؤخرة الشاحنة تسببت برميه على الجدار القريب و لم ينتهي حظ ماركو السيء عند هذه النقطة بل تسبب طيش السائق باصطدام مؤخرة الشاحنة بمثبت صنبور إطفاء مزق الباب الخلفي مما جعل حمولة الشاحنة تُقذف خارجاً و شعر الشاب قبل لحظات من غيابه عن الوعي بوخزات حادة كوخز إبر الخياطة تهاجم كل إنش من جسمه و سقط على الأرض مضرجاً بدمائه، و أسبل جفنه و العالم من حوله تغشاه رقاقة باهتة شاحبة و بعد لحظات لم يكن هناك شيء سوى الإغماء، لم ينتظر السائق أن يوثق أحد غلطته و يحمل رقبته دم الشاب فاحتكت الفرامل بالأرض بشدة و أصدرت صريراً عالياً يسمعه الموتى ربما لكن ليس ماركو و انطلق بأقصى سرعة تاركاً طالب المرحلة الثانوية وسط مصير مجهول .

.
.
.
.
.
ملحوظة:
سيتم تعديل جميع الفصول

المغناطيس: الشظاياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن