كان تدوين الذكريات ونشرها حلماً حمله علي الطنطاوي في قلبه وأملاً ظل يراوده سنين طوالاً، حتى قال -في بعض سطور مقدمته لكتاب "تعريف عام"- إنه يرضى أن يتنازل عن كل ما كتبه ويوفق الله إلى إكمال ذلك الكتاب (تعريف عام) وكتاب "ذكريات نصف قرن" (كما كان يعتزم أن يسميه).
وتأخر الأمر، وأجّل علي الطنطاوي الشروع في هذا الكتاب ثم ما زال يؤجّل، ومرت السنون بإثر السنين، حتى كان يوم من أيام سنة 1981م جاءه فيه زهير الأيوبي يسعى إلى إقناعه بنشر ذكرياته في مجلة "المسلمون" التي كان قد ابتدأ صدورها في ذلك الحين. قال:
«أحالتني الأيام على التقاعد، فودعت قلمي كما يودَّع المحتضر، وغسلته من آثار المداد كما يُغسل من مات، ثم لففته بمثل الكفن وجعلت له من أعماق الخزانة قبراً كالذي يُدفن فيه الأموات. حتى جاءني من سنة واحدة أخ عزيز، هو في السن صغير مثل ولدي، ولكنه في الفضل كبير، فما زال بي يفتلني في الذروة والغارب (كما كان يقول الأولون)، يحاصرني باللفظ الحلو، والحجة المقنعة، والإلحاح المقبول؛ يريدني على أن أعود إلى الميت فأنفض عنه التراب وأمزق من حوله الكفن، وأنا أحاول أن أتخلص وأن أتملص، حتى عجزت فوافقت على أن أكتب عنده ذكرياتي. فيا زهير: أشكرك؛ فلولاك ما كتبت.»
لقد استجاب علي الطنطاوي لهذا الإلحاح وهو لا يتصور ما هو مقدم عليه، فقد هوّنوا عليه الأمر -بداية- حتى راح يتحدث وهم يكتبون ما يقول، وظهرت في مجلة المسلمون حلقتان كذلك، ولكنه ما لبث أن استُثيرت همّته ودبَّت فيه الحماسة فتحول إلى كتابة الحلقات بنفسه، ومضى فيها تجرّ كل حلقة حلقةً بعدها حتى قاربت ربع ألف حلقة!
لقد كانت كتابتها أملاً من آماله العظام، وها هو يحدثنا عنها في مقدمتها في أول الجزء الأول:
«هذه ذكرياتي؛ حملتها طول حياتي، وكنت أعدّها أغلى مقتنياتي، لأجد فيها -يوماً- نفسي وأسترجع أمسي، كما يحمل قربةَ الماء سالكُ المفازة لتردّ عنه الموت عطشاً. ولكن طال الطريق وانثقبت القربة، فكلما خطوت خطوة قطرتْ منها قطرة، حتى إذا قارب ماؤها النفاد، وثقل عليّ الحمل، وكلّ مني الساعد، جاء مَن يرتق خرقها، و يحمل عني ثقلها، ويحفظ لي ما بقي فيها من مائها؛ وكان اسمه زهير الأيوبي. جاءني يطلب مني أن أدوّن ذكرياتي... وكان نشرُ هذه الذكريات إحدى أمانيّ الكبار في الحياة، ولطالما عزمت عليها ثم شُغلت عنها، وأعلنت عنها لأربط نفسي بها فلا أهرب منها ثم لم أكتبها، بل أنا لم أشرع بها؛ لأني لا أكتب إلا للمطبعة. لذلك لم أجد عندي شيئاً مكتوباً أرجع -عند تدوين هذه الذكريات- إليه وأعتمد عليه، وما استودعتُ الذاكرةَ ضعفت الذاكرةُ عن حفظه وعجزت عن تذكّره. لذلك أجّلت وماطلت، وحاولت الهرب من غير إبداء السبب، وهو يحاصرني ويسدّ المهارب عليّ، ويمسك -بأدبه ولطفه وحسن مدخله- لساني عن التصريح بالرفض. ثم اتفقنا على أن أحدّث بها واحداً من إخواننا الأدباء وهو يكتبها بقلمه، فسمع مني ونقل عني، وكتب حلقتين أحسن فيهما وأجمل، ولكن لا يحك جسمَك مثلُ ظفرك؛ فكان من فضله عليّ أن أعاد بعض نشاطي إليّ فبدأت أكتب.»
وفي الصفحة 17 و 18 كتب شيخُنا:
"نحن في تبدّل مستمرّ، كل يوم يموت فيّ شخص ويولد شخص جديد، والميت أنا والمولود أنا. خلايا جسدي تتجدد كلها كل بضع سنوات حتى لا يبقى فيها شيء مما كان. عواطف نفسي تتبدّل، فأحب اليوم ما كنت أكره بالأمس وأكره ما كنت أحبّ. أحكام عقلي تتغير، فأصوّب ما كنت أراه خطأ وأخطّئ ما كنت أجده صواباً. فإذا كانت خلايا الجسد تتجدّد، وعواطف النفس تتغير، وحكم العقل يتبدّل، فما هو العنصر الثابت الذي لا يتبدّل ولا يتغير ؟ أقول: قال لي عقلي و قلت لنفسي ، فمن أنا ـ إذن ـ إذا كان عقلي غيري فأقول له وكانت نفسي غيري فتقول لي ؟ العنصر الثابت الباقي هو الذي لا ينتقص إن قُطع عضو من أعضائي ولا يموت إن متّ، بل يبقى حياً يحاسَب، فيكافَأ أو يعاقب. هذا العنصر هو أنا الحقيقي، وهو شيء من غير عالمنا الأرضي فلا تنطبق عليه قوانين علومنا الأرضية، هو الروح!
وفي الصفحة 82 :
هذه هي الدنيا، فالأحمق من اطمئنّ إليها ووثق بدوامها، ولم يحسب حساباً لتداول الدول وتبدّل الأحوال، وظنّ أن ما نال منها من مال ومجد وسلطان باقٍ له ؛ ما علم أنه لو دام على مَن قبله ما وصل إليه!
وقال في الصفحة 323 :
في الحلم يغفل العقل، أيْ يغيب الرقيب، فتنطلق الأماني المحبوسة وتتكثف وتتجسد أمامك حتى تحسّ بها: تراها، تلمسها، تكلمها، تعيش فيها... كل ما كنت تتمناه تراه قد جاءك من غير أن تمد إليه يداً. أو تخطو إليه بقدم. إن كنت فقيراً تتمنّى الغنى تدّفق عليك المال، وإن كنت عاشقاً بلغت الوصال، تشعر أنك تطير على ظهر الرياح بلا طيارة ولا جناح. ثم يصحو النائم ويتصرم الحلم، فإذا العالَم الذي كنت تعيش فيه ليس إلّا صورة في فِلْم أو مشهداً في لوحة راءٍ انقطع عنه التيار، فإذا اللوحة بيضاء ! إن الذي فات مات (كما تقول المسرحيات)، ويستحيل أن يرجع في الدنيا الأموات!!
و من صفحة 122 :
هذه هي الدنيا: علوّ وانخفاض وقوة وضعف، نهار مضيء بعده ليل مظلم، وشتاء باكٍ بالمطر بعده ربيع ضاحك بالزهر؛ لا يدوم على حال إلّا الكبير المتعال، ثم تذهب الدنيا ويذهب هذا كله معها، ولا يبقى للإنسان إلّا إحسانٌ قدّمه يرجو ثوابه أو عصيانٌ يخشى عقابه، إلا إذا مات على الإيمان وأدركته نفحة من عفو الرحمن، واللهُ (لا يغفر أن يشركَ به ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاءُ ) اللهم اجعلنا ممّن تشاء له المغفرة يا رب.
أنت تقرأ
ذكريات علي الطنطاوي..
Nonfiksiنظرة الشيخ للحياة نظرةإيجابية كلها تفاؤل، وكلماته جميعُها حكم، والشيخ بلا شك معروف عنه بكتاباته وكتبه التي أثرت المكتبة العربية. ....................