الدعوة الغامضة

109 23 25
                                    

لم يكد يرتفع صوت جرس المنبه معلناً الساعة
السادسة صباحاً،
حتى قفزت "هادية" من فراشها برشاقة كما هي عادتها،
وأسرعت تفتح نافذتها المطلة على حديقة منزلهم
الصغير،
وفتحت ذراعيها باسمة وكأنها تحتضن الطبيعة الجميلة من حولها،
وأخذت نفساً عميقاً من نسمات سبتمبر الرقيقة المنتعشة،
وأشارت إلى العصافير التي ارتفع صوت شقشقتها في الصباح الباكر وكأنها تحييها تحية اليوم الجديد.
وابتَسَمت وهي ترى شقيقها "ممدوح" يجري حول سور الحديقة من الداخل في خَطوات رياضية.
إنه يسبقها إلى الاستيقاظ دائماً...
وكم حاولت أن تستيقظ قبله ولو مرة واحدة،
ولكنه لم يترك لها هذه الفرصة أبداً....
فكلما استيقظت مبكرة، وفتحت نافذتها
كان أول ما يقع عليه نظرها "ممدوح"، وهو يمارس
رياضة الجري...
إحدى الألعاب الرياضية التي يبدأ بها يومه ويحبها،
وهل هناك رياضة لا يحبها "ممدوح"؟
إنه يمارس تقريباً كل أنواع الرياضة،
الجري، والقفز، والملاكمة، وكرة القدم...
كل ما يمكن أن يلعبه يشترك فيه فوراً...
وابتسمت "هادية" وهي تتذكر قول والدها العزيز
أنه قد أنجب ثلاثة، لا يشترك واحد منهم في هواية مع الآخر إطلاقاً...
وهذا ما دعاه إلى إقامة هذا" الكشك" الصغير في الحديقة حتى يُجنب نفسه متاعبهم المستمرة...
ونظرت "هادية" إلى "الكشك"...
وكان هناك " محسن"... شقيقها الآخر... وتوأم "ممدوح"...
وبالرغم من أن كل منهما صورة طبق الأصل للآخر...
ولا يمكن التمييز في الشكل بينهما...
فإنه متخلف جدا عنه،
عقله..... تفكيره..... ميوله.....كلها عملية، تتجه نحو العلم أولاً وأخيراً...
وهكذا أصبح "الكشك العجيب" كما يطلقون عليه
مقسماً إلى ثلاثة أقسام...
في الوسط أقام "محسن" في غرفته معملاً صغيراً
للتجارب وعن يمينه القسم الخاص ب"هادية" والتي ملأته بالكتب ليصبح مكتبتها الخاصة...
والأخير قسم "ممدوح" الذي فتح باباً كبيراً فيه على الحديقة حتى يتمكن من ممارسة ألعابه الرياضية
كما يشاء...
    وأفاقت "هادية" من خواطرها على صوت
" ممدوح" وهو يصيح فيها : صباح الخير... ماذا خططت لنا اليوم يا حضرة المفكرة العظيمة؟...
ابتسمت....وأسرعت إلى الداخل..... فقد خططت لقضاء اليوم كما هي عادتها... ومهما سخر الجميع
منها فإنها مؤمنة تماماً بفوائد التخطيط...
وترى انه هو الذي ينظم الوقت ويوفره...
ونظرت إلى ورقة بجوار سريرها...
ووجدت انها قد كتبت فيها قبل أن تنام :
" الاستيقاظ السادسة تماماً... ارتداء الملابس في
ربع ساعة... إعداد الإفطار في ربع ساعة أخرى...
الإفطار. مربي...جبنة... بيض ثم الشاي واللبن...
الإفطار في السادسة والنصف تماماً... ينتهي في السابعة... الذهاب إلى الكشك... اللقاء في التاسعة
بعد ساعتين للاتفاق على تخطيط باقي اليوم "
قفزت" هادية "بعد أن ارتدت ملابسها....
وأسرعت تنزل درجات السلم في رشاقة... وقبل
أن تصل إلى الدرجة الأخيرة، توقفت في مكانها...
كان هناك شيء صغير ينزلق تحت باب المنزل
ويكاد يختفي تحت السجادة...
وتقدمت" هادية "... ومدت يدها لتأخذ هذا الشيء...
كان مظروفاً أنيقاً أزرق اللون مذهَّب الأطراف
وكُتب عليه اسم والدها.... ولا شيء آخر...
فتحت "هادية" الباب فلم ترى أحداً...
ونادت شقيقها "ممدوح" وسألته :

هل رأيت أحداً يقترب من باب المنزل؟
قال "ممدوح" : أنه لم يرَ أو يسمع شيئاً.
وتعجبت "هادية".. ولماذا لم تصل الرسالة في
البريد العادي؟... أو لماذا لم يدق صاحب الرسالة
الجرس؟... ونظرت في الرسالة مرة أخرى..
لا شيء غريب!!... الاسم مكتوب على الآلة الكاتبة
المهندس " نبيل حسني"... فقط....
وهزت "هادية " كتفيها.. ووجدت أن الوقت يمر
سريعاً
وهذا سيؤدي بالضرورة إلى اختلاف التخطيط
الذي أعدته...
فوضعت الرسالة بجوار طبق والدها....
وأسرعت إلى المطبخ تساعد والدتها في إعداد
الإفطار.... وبسرعة حتى تعوض الوقت الضائع...
في السادسة والنصف تماماً أمسكت بالجرس
الصغير وهزته هزات متتالية، فأسرع "محسن"
و"ممدوح" إلى قاعة الطعام في الوقت الذي
نزل فيه والدهم درجات السلم وأخذت والدتهم
مكانها على المائدة...
   تبادل الجميع تحية الصباح، وأخذ والدهم
يداعبهم واحداً بعد الآخر سائلاً عن أخبارهم.
وقال "محسن" بحماس شديد :
لقد نجحت يا أبي في طبع البصمات... نعم أصبحت
حالياً وبعد تجارب عديدة أستطيع أن انقل آثار
البصمات تماماً كأي خبير في معمل جنائي...
الأب : رائع يا "محسن"... لم يبق إلا سنتان وتنال
شهادة الثانوية العامة وتدخل كلية العلوم...
محسن : وسأتخصص طبعاً في الأبحاث الجنائية...
نظر الأب إلى "ممدوح" وسأله عن أخباره الرياضية،
وقف "ممدوح" وقفة تمثيلية ورفع ذراعه إلى
جواره وأخذ يحرك عضلاته وصاح :
انظروا.... لقد أوشكت أن أنجح في تكوين عضلات
قوية... على الأقل حتى أصبح مختلفاً عن شقيقي
الرقيق... ويصبح لي شيء مميز عن حضرة العالم
فيتمكن الناس من التفريق بيننا...
   ضحك " محسن" ونظر إلى شقيقه وقال :
هناك طبعاً شيء يميز بيننا... لا يمكن أن يختلف
فيه اثنان.... وأشار " محسن" إلى رأسه....
    وقبل أن يرد " ممدوح" ضحك الوالد وقال :
وأنت يا "هادية".... آخر أخبار خططك....
   ولكن "هادية" كانت مهتمة بشيء آخر... فأشارت
إلى الرسالة التي بجوار طبق والدها وقصت عليه
الطريقة الغامضة التي وصلت بها الرسالة...
   وأخيراً قال الوالد : شيء عجيب... على الأقل
كان يجب أن يكتب اسمه!...
   صاحت "هادية" : من؟...  من يا أبي؟
   قال الوالد : صاحب الرسالة... إنها دعوة غريبة...
بل أغرب دعوة تلقيتها في حياتي.... اسمعوا....
   صديقي العزيز...
الحقيقة أنك لست فقط صديقي العزيز، ولكنك أعز
أصدقائي على الإطلاق، وقد تدهش لوصول هذه
الرسالة إليك، ولكن عندما نتقابل ستختفي كل
أسباب الدهشة، أنا في إنتظارك اليوم الساعة
السادسة مساء... وعنواني هو المعادي شارع ٢٨٧..."الفيلا" الأخيرة في هذا الطريق...
أرجو أن تحضر،وألا تفكر في التخلف، فلقاؤك أمل
عشت من اجله عمري كله.... وسيكون لقاؤنا مفاجأة لك لن تنساها، فلا تخيب أملي...
                         صديقك الذي افترقت عنه سنوات
                                                ك. ع.
صمت الجميع، وتعلقت العيون بوجه الأب منتظره
رده على هذه الدعوة.....

اختفاء السبعة "اللغز الأول" ( مكتملة) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن