2

16 1 0
                                    

*الخوف سلاح لا يعلم قيمته المغاوير*


انشق فرج السماء بعد ليلة طويلة، لتظهر من صلبها شمس ضاوية، تبلج السماء أفقها، ليكش طرمساء الليل المظلم. ظهرت الأرض بحلتها البريئة من جديد.

أرسلت الشمس جنودها راغبة في إنارة المدينة كلها، لكن أسهمها لم تستطع التوغل بين خبايا الغابة المتوحشة التي أسكنها، لكن وعلى حين غرة، لم أنتظرها لتوقظني، فأفكاري تقارعت اليوم مبكرا، لم أشأ و لأول مرة منذ ظهور، أن أضيع يومي دون الاستمتاع به. فكرت أنني ملكت كل ما حلمت به يوما، لا أنكرر أنني فقد الحياة هدفها، إلا أن القدر لا يزال يمهلني وقتا لاستدراك الأمور.

أخدت أدفع بجسدي خارج الفراش كالكلب اللاهث، مطأطئ الرأس كالسنبل المحش، ووسط عتمة المنزل الأدهم، بدأت يومي كما لم أفعل من قبل، هذبت مرقدي وجمعت ملابسي بعد أن أخدت منهم بدلة أنيقة داكنة اللون، و مثيرة المنظر، لم يمسها وابل العفن المنتشر في كل مكان. تَهَنْدَمَتْ حالتي ولأول مرة، حلقت ذقني الكثيف ورجَّلت شعري للخلف. نَافحت قنينات الخمر المنتشرة بين أرجاء المكان، بدا الأمر سهلا عكش ما تخيلت تماما، جمعتها في كيس كبير مع باقي النفايات وحملتها خارجا. ثم خرجت أنا الأخر.

***

تذكرت كم طال غيابي عن العمل، لذا انتويت أن أستغل كنزا أهدته لي السيدة صونيا منذ زمن طويلا. حدرتني من إهماله ودعتني للاحتفاظ به لأنه يجلب الحظ الجيد ويسهل كل ما صعب. دلفت البيت مرة أخرى، وبالطبع لم أشأ نزع حدائي الأسود اللامع ذو الأربطة القصيرة المتعانقة، بدا أنيقا ونظيفا كما لم يكن من قبل، اتجهت نحو غرفة النوم التي تَضَوَعَت بأريج زكي، ليس كالتي ألفتها سابقا، أخدت أبحث بين ثنايات المكان وبين الأغراض المنسية التي غفر لها الزمن من استعمالي. لم أبحث طويلا حتى وجدت علبة أغراضٍ متهالكة، هملتها منذ تراكم الزمن على ظهري وأثقل كاهلي. استعملت أناملي لأحمل غايتي.

كان عطرا ملكيا نقي، تعود أصوله لزمن قديم تناقلته امي من جذوعها، كانت علبته على شكل فارس من شعب الأُورْكَا الخيالي، يحمل على مصراعيه رمحا ذهبيا مزينا بحروف تاريخية لم أهتم لفهم معناها.. و ينشرح في كبده سهم يتأصل من رأسه منفذ لخروج العطر العبق. وضعت القليل منه على وجهي، ثم أرجعته لموضعه لأكمل يومي الذي ما فتئت أن بدأته، إلا انني لمحت بعين ساجية لا تتحرك، صورة شملت زمنا مضى، ظهرت فيه برفقة غفران الراحلة لمملكة السماء، وبجانبي أمها. انكمش جدعي بعد أن خرَّت قواي، تطلعت على باقي الصور الجميلة، احتفظت بواحدة كانت مميزة. ثم أسكنت الصندوق في مكانه محملا بماضٍ لا أرغب في تذكره الآن. اتكأت على ركبتي حاملا كياني المحطم و في يدي صورة الملاك البريء غفران بجمالها الخلاب، عينان داكنتان عميقتان، و تفاصيلها الجذابة دلت على بديع خلق الرب. فرت ابتسامة شاحبة على وجهي لأنبس هامسا: "حان وقت المضي يا عزيزتي".

ممالك السماءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن