3

6 0 0
                                    

جيرمينال

وسط عتمة الليل الباهية، وبين أزقت *أسوان الموحشة، اشتعل صريخ مدوي لم يصلني منه إلى صداه العاتم. تلقيت حينها اتصالا توقعته طويلا، كما لو أن القدر يريد أن ينجيني من مصيرٍ لن تمر عقباه سداً، رنة الهاتف والصراخ شتتا تركيزي تماما، وبيد مرتعشة أسكتُّ المحمول وتحركت ببطيء على أنامل قدميَّ. إلا أن صوت استغاثة مخيفة جعلني أغلق خط الهاتف المرن للمرة الثانية، اسرعت المشي ناحية المستنجد، أو بالأحرى مستنجدة. ما إن وصلت مكان الصراخ، حتى وجدتني ألقي بنفسي على فتاة لم تبلغ العشرين من عمرها اليافع. صوت اندهاش برز على ملامح شخص خُبِئَت تفاصيله تحت وشاح أسود، صوت ضجة صدر من مسدسه الذي ودع للتو رصاصة انحشرت بين نسائج جسدي، لتنفجر الدماء من أسفل بطني. معلنة فرار الشخص الغريب هاربا بجسده النحيف.

مسرح كان لجريمة قتل، جسدت عليه دور الضحية. ما لبثت أن استوعبت ما يجري، حتى كادت روحي تُقْبط. شنطتي المحمولة انطلقت هي الأخرى من حصار أصابعي، ونظاراتي تركت مكانها ورحلت بعيدا في انكسار، أما أنا و نشيجي المتألم، لم نجد مكان وسط ما حدث فتركنا الواقع و أبحرنا بزورق من ورق بين أمواج الأدب العاتية. برزت نور الثقافة ساطعة في الأفق البعيد. لوهلة لم أدري ما الذي جرى لي وللفتاة وللرصاصة المغروسة في بطني.

أهــــــه، الرصاصة.. وقفت في تعصب لا أرى سوى عتمة الشروق الدارج. تفحصت نفسي في ماء البحر الصافي، لأمعن النظر في الجرح العميق، الذي مائن تحسسته في ترقب عصيب، وضعت إحدى أصابعي على الجرح، و في اندهاش غريب كبست على الجرح بانفعال، فانفجرت الدماء في كل مكان، أحسس بدوار وألم شديدين كما لو أن منارة عالية سلطت كمية ضوء كثيفة باتجاه بقلتاي.

لم أستطع إيقاف نزيف الدماء المتصببة من قرحتي، هطلت بغزارة إلى أن أغرقت القارب، قبضت أنفاسي و قفزت دون تفكير، وسط البحر العميق، بدا نظيفا وطاهرا، لكن "بــــــدا"، قبل أن ينغمر هو الأخر في دمائي و تتغير زرقته بحمرة داكنة كبحت قرنيتيَّ من إبصار مصيري المظلم. تلفتت يمينا و شمالا باحثا عن أمل ينجدني، لكنني كنت وحيدا، ضَرَبَت زوجتي *علياء في رأسي فتذكرتها برفقة ابنتنا *غفران، منتظرتا نني الأن، فما الذي أتى بي إلى هنا؟ ... انسجم جسدي بجاذبية المكان، فانصبت روحي منهاله غرقا نحو جوفٍ غامق، و جسدي المنهك لا يرص عن النشيج. فهل ستنتهي القصة هنا؟

اندحرت مفاصلتي فارتاحت جفوني لوهلة، وما إن انبعثت عيناي في عتمة المكان، حتى لمحة الرصاصة منطلقة من بين أحضان مسدسها متجهة في بطء كاسح، ناحيتي، ابتسم وشاح الشبح القاتل، وعين الفتاة دامعة تناجيني شاكرة. انفجرت الدماء في وجهي في غرة واحدة. لتشتعل أنوار الحياة الواقعية من جديد، بعد

أن أمضيت أسابيعا طويلة في غيبوبة داخل مركز العيانة المشددة، كادت تخطف روحي لمملكة السماء...

***

-مــا ال..

-لا عليك، لم تمر بالسهل.

-أين.. مــا، أين #غفران.

نادت الفتاة على إحدى الممرضات بالممر، دَلفت واحدة منهن بلباس يغزوه بياض جميل، هدأت من روعي وأخبرتني أن عائلتي بخير و أن حالتي كانت حرجة، حمدتِ الله على نجاتي ثم ندهت على الطبيب المهتم بحالتي... و ما إن غز عرقي بإبرة حادة، حتى انغمر عقلي بين غيابات العوالم المختلفة مرة أخرى.

***

وهكذا بدأت علاقتي بجيرمنال، كانت فتاة بريئة، خفيفة الدم، محبة للكتب و الروايات. عاشت من المشاكل ما تشيخ على إثرها الجفون. أغرقت نفسها في دوامات لا تقدر عليها، مخدرات و إجرام و عصابات. لا أنكر أنني حقدت على روحها بعد ما حصل لي بسببها، إلا أن بحرها المعرفي جعلني أغرم بعقلها و ما يحمل من أفكار. وهذا ما جعلني أشركها في مهام المكتبة معنا.

***

كانت المكتبة، حلما رغبت مشاركته مع أعز من جاورني ذات يوم، زوجتي #علياء وصديق عمري #منتدا. عملنا طويلا لنصل لمرادنا، نجمع الملاليم ونحرم أنفسنا من محاسن الحياة، فقط من أجل توفير المال الكافي لتشييد مكتبة كبرى كما تصورناها جميعا. كانت الكتب حبا يجمعنا، والأدب عشق أغوى قلوبنا، قررنا كما بدأنا المشروع جماعة، نكمله جماعة... و هذا ما لم نتوفق فيه

***

عاشت #جيرمينال حياة يغلب عليها طابع حزين، غُلِفَ بوشاح من دموع قاسية و أحداث مريبة، تبعا لما حكته لي. كان والدها سارق أرواح، يقوم بتوفير ليال جنسية لكبار البلد من الأثريات الفاسدين. لكن بعد أن اُغتال من طرف إحدى "سلعه إن صح التعبير". تحولت حياة جيرمينال لمأساة بخسة، راحت أمها تبحث عن أمل في استكمال حياتها مع حبيب جديد، يزرع في روحيها ربيعا مزهرا، تاركة فلذة كبدها تتأرجح بين دروب الأحياء و شوارع المدن. مضت سنين طويلة قررت من خلالها جيرمينال الاستقلال عن ماضيها و بناء طريق لمستقبلها. صادفت أناس دعوها لشتى الطرق، منها الجيد و منها البخس، لكن روحها استقرت في درب الأدب و الثقافة، فراحت تبحث عن أكبر المكاتب بالبلد و تزورها حبا في الاستكشاف و المتعة.

كان للفتاة أحلام كسرها سارقوا الأرواح البريئة مرة أخرى، اغترت جيرمينال لفترة بالمال الذي كانت تجنيه من بعض الأعمال السفيهة، لتتصادف مع نوع من البشر يبتاعك ثمن دمائك لو شاء، ترنحت روحها الجميلة بين حب المال الخبيث، قمار، مخدرات ودعارة ويا ليتها ما حكت لي كل هذا...

سارت حياتها بالطريق الخاطئ. لكن ما إن قابلتني حتى استقرت روحها من جديد في الطريق الصائب و علمت أن مكانها بين أسطر الروايات وحروفها.

خلفت جيرمينال ماضٍ كاد يتبعها حتى يسفك دمائها،لولا أنني تقدمت لتسديد ما عليها من دين لدى سارقي الأرواح مقابل ترك السبل التيلا نور أخرها. فما كان لها سوى أن تحبني...

ممالك السماءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن