الفصل السابع

329 16 23
                                    

الفصل السابع

- سعيد برؤيتك اليوم.
يقولها عيسى باحترام ممزوج بحيائه المعروف خاصة مع الفتيات،  ابتسامة غزل تتسع وهي تنقل بصرها بينه وبين الفتاة المراهقة التي تتشبث بذراعه وتختلس النظر لها بارتباك،  وهتفت بوِد واضح:
- وأنا أيضًا، لم أتوقع رؤيتك ماذا تفعل هنا؟
تحدث عيسى وهو يحيط كتفي فرحة بذراعه مبتسمًا:
- أنا أعمل في فندق هنا منذ عام ونصف،  لكني الآن في إجازة مع عائلتي..
ثم التفت إلى فرحة قائلًا بحنو:
- تلك الصغيرة شقيقتي الصغرى،  فرحة..
أسبلت فرحة أهدابها بخجل بينما ابتسمت غزل مرحبة وقالت دون أن تغفل عن عيني عيسى التي تحركت ناحية روح: 
- تشرفت بكِ يا فرحة.
أومأت لها فرحة بارتباك ولم تسعفها الكلمات حتى ترد،  أما عيسى فالتقت عيناه ب روح التي اتسعت عيناها للحظة وخفق قلبها بعنف،  اضطربت نظرته وأبعد عينيه بسرعة ناظرًا إلى غزل وقال موجهًا حديثه إلى فرحة: 
- غزل من زملاء الدراسة..
ثم وجه حديثه إلى غزل وقال مودعًا:
- سعدتُ بلقائك مرة أخرى يا غزل أتمنى أن أراكِ قريبًا.
- إن شاء الله
لوحت لهما وهما يبتعدان وعاودت الجلوس أمام روح فوجدتها تحتضن جسدها بذراعيها وعينيها شاردتان ظَاهِرِيًّا تراقب أمواج البحر التي بدأت تتلاطم بقوة مع بدء اختفاء قرص الشمس خلف الأفق..
وضعت غزل يدها على كتف روح وقالت بخفوت مبتسمة:
- فيمَ شردتِ؟
التفتت لها روح وهزت رأسها بلا معنى وهمست وهي تتلاعب بحافة الكوب أمامها محاولة السيطرة على ارتجافة جسدها بعدما هاجمتها ذكريات مشئومة:
لا شيء.. آسفة لأني أزعجتك حقٌّ أنا.. أشعر بالحرج منكِ
تنهدت غزل وهي تلتقط كوب الشاي الخاص بها تلتمس منه بعض الدفء وقالت بصوتٍ جاد لكنه حازم:
- لا تتفوهين بتلك الحماقات مرة أخرى،  منذ اليوم الأول الذي رأيتك فيه وأنا أحببتك وشعرت أنكِ مسئولة مني،  فلا تضعي بيننا حواجز وإذا احتاجتني في أي وقت ستجديني بجانبك مهما كان..
ابتسمت روح بامتنان وانسابت الدموع على وجنتيها لكنها مسحتها بسرعة،  قلبها يرتج بين ضلوعها وهي تحاول إبعاد ذكرى تجسدت أمام عينيها مع رؤيتها لذلك المدعو عيسى،  تماسكت قليلًا لكن صوتها خرج مرتجفًا وهي تهمس باختناق:
- شكرًا لكِ على كل شيء. .
لم تُجبها غزل فقط اكتفت بابتسامة مطمئنة حنونة،  أطرقت برأسها تخفي اهتزاز عينيها وهي تلتقط اسمه يضيء على شاشة هاتفها باتصال لم تعد تعرف عدده..
**
عادت إلى منزلها، تسير متهدلة الكتفين، وجهها شاحب ، سمحت لانكسار عينيها وإرهاقها أن يظهرا على الرغم من حفاظها على ثبات ملامحها في الخارج، بمجرد دخولها البيت  تركت العنان لمشاعرها، وحررت دمعتين كادا أن يخنقاها من كتمانها لهما.
هكذا علمتها أمها منذ الصغر، خارج حدود مملكتها تقف كالجبل لا تهزه الرياح، لا تبدي ضعفها لأحد، ولا تسمح لأي شخصٍ أن يرى دموعها، تدعي الثبات من الخارج حتى ولو كان بداخلها حُطام.
وبين جدران المنزل فقط.. تسمح لنفسها ببعض الانهيار لكنه لا يستمر طويلًا..
فقط لساعاتٍ أو أيام.. وبعدها تنفض عنها ثوب الضعف المُهين..
وتنهض من تحت رمادها كعنقاء ولدت من جديد دون أن تأسرها رتوش الماضي البغيض..
تلك المرة تشعر أنها لن تنهض بسهولة، فالكسر أعمق من أن يُجبر..
هي امرأة لم تقبل بالخسارة يومًا، ولا تتلبس الضعف ثوبًا، فكيف لها أن تلملم شتات نفسها، كيف تصلح ما دمره هو بفعلته..
ذلك اليوم عندما أخبرها ظلت تنكرها كثيرًا بينها وبين نفسها حتى بعد رحيله.
بكت كما لم تبكِ من قبل، حررت كل الدموع التي سجنتها عندما خذلها سابقًا، وها هي تبكيها بأثر رجعي حتى لم تعد تعرف على أي سبب تبكي..!
باتت ليلتها تضم ركبتها لصدرها في وضع الجنين، تحتضن نفسها تواسيها بعدما أيقنت أنه لا يوجد من يقف جوارها، لم تجد من يضمها لتبكي على صدره كما كان يفعل والدها..
لم تجد حضن أمها الذي رغم شدتها كانت أكثر من تساندها، عناقها الحنون الممزوج بقوتها
كمْ احتاجتها في تلك الليلة بالذات..
ما أشبه اليوم بالبارحة..
نفس الخذلان ومن نفس الشخص.. لكن هذه المرة الأمر كان أصعب.
والدتها لم تكن موجودة لتساندها..
لم تحتضنها كما فعلت في المرة الأولى، حينها نهضت وتغلبت على كسرتها بفضلها..
والآن كيف ستتجاوز ما حدث وحدها..!!!
بداخلها كمْ من غضب شديد تريد صبه على رأسه، وبين كل هذا بقعة صغيرة تريد معرفة أسبابه لكنها تكبتها..
أبدا لن تسمح له بالانتصار عليها وهز كبريائها..
تتعجب من سعيه لعودتهما في نفس الوقت الذي كان هو فيه قد استقر وكون أسرة..
ما الذي استفاده من زعزعة كيانها والعبث بحياتها الهادئة.
هي التي ظنت دومًا أنها تقف على أرضٍ صلبة لا تتزحزح مع هبوب أعتى الرياح ها هي تجد نفسها تسقط من فوق هاوية دون إرادة منها..
عيناها تنتقلان تِلْقَائِيًّا إلى صور والديها المعلقة على الحائط، تتوقف عند صورة أمها فيهيأ لها أنها تبتسم لها، أغمضت عينيها وتتخيلها بجانبها الآن تضمها وتمسح على شعرها بحنان..
"لا تنكسري يا غزل"
تسمعها بصوت والدتها جَادًّا حازمًا، تناسب دموعها وتطرق برأسها هاربة من النظر للصورة، كأنها تهرب من مواجهتها هي..
دومًا كانت تريد أن تُثبت لأمها أنها على حق، تستطيع الاعتماد على نفسها دون أن يساندها أحد، في هذا الوقت تجد نفسها تنكمش خجلًا ما وصل إليه حالها، ينتشلها رنين جرس الباب من شرودها، تتنهد بكبت وهي تعرف هاوية الطارق، للحظات فكرت ألا تهتم كأنها غير موجودة..
ولكن ذاك الضوء الخبيث يحثها على الفتح، تغلب على عقلها واتجهت للباب لتفتحه، وبداخلها تصبر نفسها أنها ليست مهتمة..
لن تسامح.. تريد المعرفة فقط إرضاء لفضول الأنثى بداخلها..
هي ليست مهتمة.. وبالطبع لن تسامح..
تكررها بصوتٍ مسموع حتى تثبت لنفسها ذلك، تأخذ نفسًا عميقًا وتخرجه ببطء وتفتح الباب..
وخارج المنزل كان يقف مطرقًا برأسه، توتره قد وصل أقصاه وقد ظنها لن تفتح له خاصة بعدما رفضت التواصل معه الفترة الماضية، عندما فتحت رفع رأسه بتردد ناظرٍ لعينيها الجامدتين ببرود ألجمه، انفرجت شفتاه لكنه عاد وأطبقها مجددًا، هربت منه الكلمات ولم يسعفه لسانه على قول شيء..
كل ما حدده قد تبخر بمجرد رؤية نظرتها تلك شعر بقلبه يهوى..
لأول مرة يشعر بقلبه يتألم من أجله، لم يكن يريد خداعها، ظهورها لم يكن ضمن حسابتها..
لقد ظن أن ما بينهما انتهى.. وأن مشاعره كانت عابرة اختفت مع مرور الزمن، لم يكن في حسبانه أن يجد روحه معلقة بها حتى فشل في تحرير نفسه منها..
انتزع نفسه من أفكاره مرغمًا عندما تململت في وقفتها وما زالت ملامحها على جمودها، ابتلع ريقه بصعوبة واختلجت عضلة في فكه وتكلم محاولًا إخراج صوته ثابتًا لكنه خرج مهزوزًا رغمًا عنه:
- هل.. هل يمكننا التحدث قليلًا؟
- قل ما عندك وأرحل سريعًا لدي ما هو أهم من سماع أكاذيبك..
قالتها بحدة اجفلته جعلت رأسه يرتد، أما هي فكانت تنظر له بجمود وثبات لكنها لم تستطع السيطرة على اهتزاز حداقتيها وارتجافة أناملها مما جعلها تعقد ساعديها أمام صدرها حتى تخفيهما، تنهد "نديم" وهمس برجاء:
- لن نتحدث واقفين يا غزل، اسمحي لي بالدخول
ظلت تحدق في عينيه قليلًا حتى ظنها شاردة لم تسمعه لكنها فاجأته عندما عادت للداخل تاركة الباب خلفها دون أن تغلقه، دلف بتردد، يهدئ نفسه سِرًّا ويرتب ما سيقول..
بالتأكيد ستلتمس له العذر، على الرغم من ثقتها الشديدة واعتزازها بنفسها إلا أنها طيبة القلب..
ويثق تمام الثقة أن قلبها الذي لم يحب غيره لن يستطيع أن يُجافيه..
جلست على الأريكة ووضعت ساقًا فوق الأخرى دون أن تنظر إليه، رأسها مرفوع بشموخها المعتاد على الرغم من يقينه أنها تتألم وكالعادة تخفي ذلك خلف قناع البرود والسخرية..
لطالما كانت بارعة في التخفي، لا تعطي أحد فرصة ليعلم إلى أي درجة هي مفككة من الداخل، حتى وإن كانت تائهة أو مشتتة، ولا أحد يعلم كمْ يؤلمها حزنها وفشلها أو أشياؤها التي لا تستقيم..
كان ذلك ما يدور برأسها وهي تتطلع له متسلحة بالبرود رغم اشتعال جوارها بكل غضبٍ وقهر.. وحزن دفين لن تظهره..
مر وقتٍ ثقيل كالدهر، ولا يقطع الصمت إلا صوت أنفاسه المضطربة كطفل أمسكه والده بجرمٍ كبير، أما هي فحاولت السيطرة على ثباتها، تتنفس بهدوء وتمارس على نفسها أقصى درجات ضبط النفس..
- لقد كنت مُضْطَرًّا للزواج منها..
يقولها بخفوتٍ شديد، حتى ظنت أنها لم تسمع جيدًا، انعقد حاجباها بتساؤل لم ينطقه لسانها وأصرت ألا تقاطعه حتى ينتهي من حديثه، جلس على الأريكة بجانبها، تسمعه يتنهد بعمق ثم استطرد قائلًا بخفوت كأنه يخشى خروج الكلام من فمه:
- بعدما افترقنا ندمت، لكن لم تكن لي قدرة على العودة لكِ، كيف سأريكِ وجهي بعدما تحكم في غضبي وتركتك هكذا، وفي النفس الوقت كنت أشعر أن هذا أفضل حل، نحن لم نكون نفعل سوى تجريح بعضنا البعض دون قصد، من ناحيتي على الأقل أما أنتِ..
ترك جملته معلقة للحظات، بجانبه كانت تطبق شفتيها بقوة، تبتلع ريقها بصعوبة وكلماته كقطرات ملحٍ يلقون على جرحٍ لم يلتئم بعد..
لم يهتم بانتظار ردها وأردف بصوتٍ متألم على الرغم من حدته:
- شعرت أنكِ تتعمدين إيلامي وانتقاص ذاتي، دومًا تهدديني بالانفصال عني وكأنني لا أعني لكِ شيء..
قاطعته قائلة بحدة دون إن تنظر إليه:
- حبي لك لم يكن معناه إهدار كرامتي وتركك للتحكم بي وبحياتي كأنك ولي أمري، تذكر جيدًا يا نديم أنكَ أيضًا كنت تحاول إخضاعي كأنني سلعة بالية عليها الخضوع لسلطانك.. كنت تريدني أن أكون واحدة أخرى غير التي نشأت عليها، هذه هي مشكلتك يا نديم، تريد تشكيل البشر على حسب رغباتك أنت فقط بغض النظر عما يشعرون أو يريدون..
انعقد لسانه ولم يستطع الإنكار، نعم فهذا هو تفكيره، تجاهل هذا الجزء من الأمر وأكمل وهو يطرق برأسه:
- في تلك الفترة ظهرت سارة، فتاة جميلة وقفت بجانبي كثيرًا عندما التحقت بالعمل مع والدها، كان يخبرني دومًا أنني كإبن له، في نفس الوقت بدا إعجاب سارة بي واضحًا للجميع، أنا فقط انتهزت الفرصة، بيت وأسرة وزوجة تحبني بجانب مكانة عالية في العمل تحولت مع مرور الوقت لشراكة بيننا، لم يكن في حُسباني عودتك من جديد
- أنا لم أعد يا نديم بل أنت على الرغم من امتلاكك -لبيت وأسرة وزوجة تحبك- ظهرت في حياتي بل وسعيت لعودتنا أيضًا..
هز رأسه موافقًا وقال:
- نعم ولكن تلك الفترة كانت حياتي معها غير مستقرة حتى بعد إنجابنا
- أنجبت منها أيضًا!!!
هتفت بصدمة مقاطعة فنظر لها بطرف عينه دون أن يرد فهتفت باستنكار:
- حتمًا أنت مختل، أي عودة كنت تريدها وأنت زوج وأب!!!
- غزل ارجوك تفهمي أنا وسارة انتهينا ما بيننا مسألة وقت ليس إلا وسننفصل.. لكني أحبك أنتِ.
هتف بها بصوت قاطع فعقدت حاجبيها وهي تهز رأسها بعدم تصديق، يتحدث كأن شيئًا لم يكن، كأنه لم يتزوج وينجب وعلى وشك الانفصال، كأنه لم يخدعها ويتلاعب به وهو ملك امرأة أخرى!!!
نهضت بحدة ومسحت وجهها بكفيها وهي تتنفس بسرعة، الغضب بداخلها قد وصل أقصاه، كيف يتحدث بهذا البساطة!!!
لم تنتبه لوقوفه خلفها إلا عندما استدارت له، عيناها تحدقان فيه بخيبة أمل، تتأمل هيئته كأنه غريب عليها، تتساءل كيف يستطيع أن يحبها ويخدعها في نفس الوقت!!
قاطع تأملها هامسًا بصوته الدافئ الذي يستطيع أن يدغدغ مشاعرها في الوقت السابق:
- أخبريني ما تريدين وسأنفذه لكِ أعدك.
لحظات صمت رتيبة مرت وهي تحدق في عينيه بملامح خالية من المشاعر، حاجباها يهتزان من حين لآخر، ينعقدان مرة، ويرتفعان في الأخرى، أنتظر ردها طويلًا حتى أتاه..
صفعة..  ردها كان صفعة هوت بها على وجنته جمدته مكانه واتسعت عيناه وأطبق شفتيه بشدة محاولًا السيطرة على غضبه، أما هي فهتفت بصوتٍ حاد رغم خفوته:
- ابتعد عن حياتي.. هذا ما أريده
لم تكن تخطط لذلك حتى أنها تفاجأت من فعلتها، أما هو فالإهانة كانت أقوى من تحمله لكنه كبت غضبه بصعوبة وهو يحاول التماس العذر لها، يقبض كفيه بجانبه بقوة..
صمت طويل لم يقطعه سوى صوت تنفسه الغاضب، لكنه فشل، قبض على فكها بقوة وهتف بخفوت مرعب وعينيه كانا مخيفان في تلك اللحظة:
- ستندمين على إهانتي يا غزل
لم تهتز بها شعرة، لم تؤثر بها نبرته المخيفة ولا حتى قبضته التي كادت تتحطم فكها، ثابتة، من الداخل والخارج، كما اعتادت دومًا، هي التي لم تخف في أقصى مراحل حياتها ظلمة، ستخشى تهديدًا من أشباه الرجال!!
حررت فكها بصعوبة من يده وابتعدت بخطوات متمهلة وجلست مرة أخرى واضعة رأسها بين كفيها، تتنهد بتعب وقلبها يؤلمها وتتملكها رغبة عارمة في البكاء فتكبتها بصعوبة وتهمس بصوتٍ مختنق لم تستطع السيطرة عليه:
- ارحل يا نديم أرجوك، ليتني لم أعرفك يومًا..
لم يرد فظنته لم يسمع أو لم يهتم لكنها تفاجأت باقترابه منها وجلوسه على ركبتيه أمامها، وهمس باختناق:
- ليتني لم أعرف في حياتي غيرك.. لن أتركك يا غزل أنتِ اصبحتي جزءً مني وأنا لا أتخلى عما يخصني بسهولة..
صمت للحظات ثم استطرد بخفوت:
- وأنا أعود إليكِ كما يعود اليتيم إلى ملجأه الوحيد..
***

خلف قناع العادات، كاملة (مستوحاه من احداث حقيقية)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن