الفصل التاسع عشر

297 19 4
                                    

الفصل التاسع عشر

صوت الموسيقى الصاخبة لأحد "المهرجانات" الشهيرة يصدع عاليًا من غرفة نومها، في منتصف غرفتها تتمايل هي بحركات عشوائية على الموسيقى بينما تبعثر شعرها الأسود كأنها تنثر فوضى روحها مع تلك الخصلات الثائرة.
تهز كتفاها بحركات مدروسة وهي تتطلع لنفسها في المرآة، تعود للقفز بشكل جنوني والموسيقى تزداد صخبًا...
لم تكن مجرد رقصة، بل كانت صراخ روح أبت أن تبقى حبيسة مشاعر عابثة ليس لها فائدة.
رقصة وداع.. رقصة تحرير الروح من ذنوبها كما ترى..
الآن هي سعيدة، سعيدة لدرجة أنها تقيم احتفالًا خَاصًّا بها تضع به نهاية قصتها مع ذاك الوغد الذي أضاعت معه أكثر من عام دون جدوى..
لكن المهم الآن أنها سعيدة لأنها تخلصت منه للأبد..
ليس للأبد تمامًا فهو لم يكف عن الاتصال بها يَوْمِيًّا والتوسل لها كي يعودا لكنها ترفض، ومع الوقت أصبحت تتجاهل مكالمته.. بل ووضعته على قائمة المحظورين..
فليذهب للجحيم..
تنفض عن رأسها الأفكار السلبية وتصب تركيزها كله على كلمات الأغنية وهي تتراقص بحيوية افتقدتها منذ فترة..
هي لم تتعاف من التجربة لكنها تعلمت ألّا تكترث بما مضى، يكفيها الاهتمام بالمستقبل وما ستفعله به..
فكرت في السفر لكنها لم تختَر المكان بعد..
توقفت عن الرقص عندما توقفت الألحان مع رنين هاتفها..
زفرت بضيق وهي تظن أن المتصل لن يكون سوى "نديم" ..
أقسمت بداخلها إن كان هو لن تهدأ حتى تقتلع قلبه بيديها ولن تخسر شيئًا إذا اقتلعت عينيه أيضًا..
تلتقط الهاتف بحدة لكنها تتجمد مبهوتة للحظات وهي تحدق في الاسم المتصل!!!
- عيسى!!!
رددت اسمه ببلاهة وهي تدقق في شاشة الهاتف بتعجب، ابتلعت دهشته بسرعة وهي تُجيب بصوت جاد لم يخلُ من الود والتوجس:
- مرحبًا
جاءها صوته متوترًا لكنه حازم دون مقدمات أو حتى إلقاء تحية:
- غزل أعطيني عنوان بيتك..
ارتفعت زاوية شفتيها بتعجب وهي تُبعد الهاتف عن أذنها وتقرأ الاسم مرة أخرى لتتأكد من اسم "عيسى" وليس "نديم" الذي بالطبع لن يطلب عنوان بيتها وهو يلتصق ببيتها من آن لآخر كعلقة، أجلت صوتها وتساءلت بخفوت:
- عفوًا عيسى.. لماذا تريد عنوان بيتي!!! 
أجابها بتوتر ملحوظ وصوت متقطع:
- روح.. معي.. أظنها مريضة قليلٌ..
تغضن جبينها وشعرت بقلق ممزوج بتعجبها وهمست بتساؤل:
- ماذا بها!! هل هي بخير!! عذرًا ولكن ما الذي جمعك بها!
- سأخبرك بكل شيء عندما أراكِ لكن روح تحتاجك الآن.. هل تستطيعين المساعدة؟
صوته الحنون امتزج بقلقه ورجائه لم تستطع أن ترده خاصة وهي تشعر بالمسئولية تجاه تلك الفتاة فتنهدت قائلة:
- حسنٌ.. سأرسل لكَ العنوان الآن..
أغلقت الخط وأخفضت الهاتف وهي تحدق في الفراغ بشرود، انشغل عقلها بتلك الفتاة وجرفها تفكيرها إلى ما جمع بين عيسى وروح!! وأين عُدي من هذا؟
تعترف أنها انعزلت عن الجميع بإجازتها واستغلتها كي تفكر مَلِيًّا في حياتها القادمة خاصة بعد طلاقها من نديم.. حتى أنها تناست تمامًا عُدي ولم تعد تسأله عن حالة شقيقته كما اعتادت
قررت أن تتوقف عن التفكير في الأمر فما هي إلّا دقائق ويصل عيسى ويشرح لها ما الأمر..
تنهدت وهي تتجه نحو خزانة ملابسها وتنتقي أي شيء يليق بمقابلة ضيوفها بعدما ألقت على نفسها نظرة في المرآة وتعجبت من مظهرها..
شعرها منثور بعشوائية أعطاها مظهرًا متمردًا، بشرتها متوردة بفعل المجهود الذي بذلته في الرقص، قميصها القطني القصير الذي تعدى فخذها بقليل فتظهر بشكل مغرٍ تعلم أنها تمتلكه..
لن تنكر أنها على علم بأن هذا أكثر ما جذب نديم إليها منذ البداية، وليس هو فقط بل أي رجل يحاول التودد لها لا يهتم بأي شيء سوى مظهرها..
انتزعت نفسها من شعور الكآبة الذي اجتاحها عندما تذكرت أنها عادت لوحدتها لكنها صبرت نفسها بانتصارها على نديم وأنها تخلصت من وضع تراه- بعيني ضميرها-  شائنًا ولا يليق بها..
بعد دقائق كانت بدلت ملابسها بأخرى مريحة تتكون من سروال من "الجينز" الضيق وبلوزة بيضاء عارية الكتفين إلّا من حمالة عريضة..
جمعت شعرها على شكل "كعكة" كبيرة برز فيها طوله وخرجت للردهة عندما التقطت أذناها رنين جرس الباب..
رغمًا عنها ظلت تحدق في هيئة عيسى وروح المزرية خاصة روح التي تبلل شعرها والتصق بوجهها، وملابسها المبتلة أسفل سترة عيسى الذي لم يكن أقل منها في المظهر وهو يساعد الفتاة على الوقوف وقد بدا عليها الإعياء بشكل واضح.
استجمعت نفسها وهي تجذب روح لتدخلها فاستسلمت لها دون أدنى مقاومة واختفت بها داخل الرواق.. 
بعد دقائق عادت إليه تحمل غطاء ثقيل لتجده ما زال واقفًا يضع كلتا يديه في جيبي بنطاله أمام الشرفة المطلة على الشارع، ملامحه باتت صارمة بشكل لا يليق به فهي قد عرفته دومًا رقيق الملامح إن لم يكن وسيمًا، هادئ بشكل مغيظ لكنها عندما تقربت منه تأكدت من طيب معدنه وأصله..
كان شاردًا لكن اهتزاز جسده أظهر توترًا واضحًا حتى لو أخفى وجهه خلف قناع مظلم وصارم، فهي أدرى الناس بالتخفي خلف أقنعة الجمود وإخفاء المشاعر ببراعة اكتسبتها مع مرور السنوات..
تعلمت كيف تخفي ألم الخذلان و إرهاق الوحدة وتظهر أمام الجميع بكل قوة وكبرياء..
أصدرت صوتًا خافتًا فانتبه له وهو يلتفت وعيناه تشع بتساؤلات لم يبُح بها لسانه فتناوله الغطاء وهي تقول بخفوت:
- بدلت ملابسها ونامت، أظنها مرهقة الآن ولن تستطيع التحدث.
- لقد تركها..
عقدت حاجبيها متسائلة بخفوت عن معنى عبارته:
- عفوًا لم أفهم..
ضم الغطاء حول كتفيه وهو يهمس بشرود:
- خطيبها.. تركها
- ماذا!!!
خرج صوتها مهزوزًا وهي ترفع يدها تغطي بها شفتيها وهزت رأسها بعدم فهم وهمست:
- كيف!! أقصد لماذا؟ لقد.. إنه يحبها..
هز عيسى كتفيه وزفر بضيق هامسٍ:
- لا أدري، هي أخبرتني فقط أنه لم يعد خطيبها.
ساد صمت للحظات وكلٍّ منهما سارح بتفكيره بعيدًا عن الآخر..
لا تدري لماذا شعرت بغصة تخنقها وألم في قلبها بمجرد معرفتها بانفصال روح عن عُدي على الرغم من يقينها أن تلك العلاقة لم تكن لتنجح أبدًا لكنها أثرت عدم التدخل فهي أكثر من يقدس الخصوصية..
انتبهت إلى عيسى الذي ارتسم على ملامحه البؤس بشكل آثار ريبتها فسألته بخفوت:
- ما الذي جمعك بها؟
دون تردد قص عليها عيسى كل شيء بداية من رؤية روح في المرة الأولى حتى اليوم بينما هما يجلسان على الأريكة..
- لا أعرف ما الذي يصيبني كلما رأيتها، تلك الفتاة بها شيء غريب يجذبني يجعلني أتصرف بطريقة لا تليق بيّ أو بطباعي، أشعر أنني..
صمت للحظات يبحث عن كلمة مناسبة تصف شعوره فتولت غزل المهمة وهتفت بتساؤل:
- تشعر أنكَ مسئول عنها؟
فتحت فمه ليقول شيء لكنه عاد وأطبق شفتيه بقوة كأنه عاجز عن البوح وهز رأسه بالإيجاب دون صوت فابتسمت غزل قائلة بتفهم:
- أتفهم شعورك.. أنا شَخْصِيًّا شعرت بالمسئولية تجاهها..
صمتت للحظات وهي تتفرس في ملامحه ثم قالت بيقين:
- لكن ليس هذا ما يؤرقك..
ابتسامته الجانبية واطرقه برأسه دون رد جعلها تتيقن من ظنونها، فحثته على الحديث قائلة:
- كنا أصدقاء.. لطالما قصصت لك حكاياتي مع أمي عندما كنا ندرس سَوِيًّا، هيا شاركني ما تُخفي..
- لا تهتمي يا غزل إنه أمر عائلي.. فقط
- أمر عائلي وستشاركني إياه رغمًا عنك..
قالتها وهي تنهض من على الأريكة وتعطيه ظهرها متجهة ناحية المطبخ وهي تقول بمرحها المعهود:
- سأعد لنا شيئًا نشربه وبعدها تحكِ لي كل شيء..
تسللت ابتسامة إلى شفتيه رغمًا عنه وهو يشعر براحة كانت قد غابت عنه منذ فترة، يعترف أنه كان يكِن لها مشاعر عندما كانا أصدقاء بالجامعة، ولكن مع مرور الوقت اكتشف أنه لم يكن سوى إعجابًا بحيويتها وانفتاحها بجانب البيئة المتحفظة التي نشأ بها هو..
بعد دقائق عادت تحمل كوبين، القهوة بالحليب له والشاي لها..
ناولته الكوب الخاص به واستندت بذراعيها على ركبتيها بعدما وضعت كوبها على الطاولة الصغيرة أمامها وهمست بطفولية جعلته يضحك:
- هيا شهرزاد تسمعك!
للحظات ظل يضحك على دعابتها بعدها اختفت ضحكته بالتدريج وبدأ يقص عليها كل شيء يخص فرحة وصالح، وجد نفسه يتحدث بعفوية مثلما كان يفعل معها في الماضي، يتحدث عن مخاوفه، عن ردة فعله، عن فرحة..
أكثر ما لفت انتباه غزل هو حديثه عن فرحة عندنا سألته عنها:
- وكيف هي شقيقتك؟ صفها لي.. أنا رأيتها مرة لكني لم أعرفها من قبل..
ابتسم عيسى بشرود وهو يتذكر فرحة منذ كانت طفلة تحبو فلا يحملها غيره، يتذكرها حينما كانت تحاول الاقتراب من والده فينهرها ويُبعدها فتبكي دون أن تفهم بأي ذنب يعاقبها لكنها على الرغم من ذلك كانت مثابرة تحتمل ما لم يتحمله شخص آخر، وجد نفسه يهمس دون وعي:
- فرحة.. مُمتلئةٌ بالحنان، تفيض بالرقّة، أينما حلّت حلّ معها الدفء
اتسعت ابتسامتها وهي ترى رقة الوصف، لم ترَ شخصًا يُحب شقيقته مثل عيسى، يتحدث عنها كأنها أغلى ما عنده..
خوفه وتردده في أمر صالح ينبع من خوفها عليها هي، وكأنه قرأ أفكارها فهتف بخوف واضح:
- أخشى عليها يا غزل.. فرحة شديدة الهشاشة لن تحتمل ألم آخر، وأنا لا احتمل فكرة خسارتها أو أن يمسها شخص بأذى، يكفي ما ينالها من عائلتي..
كانت غزل تستمع له بصبر دون أن تنطق بحرف، تركته أن يفرغ مخاوفه كلها وعندما صمت ظلت للحظات تتأمله صامتة وتفكر، تحدثت بجدية وهي ترتشف القليل من كوب الشاي الخاص بها:
- أنت تتوقع ما هو أسوأ، يمكنك النظر للأمر بشكل إيجابي، الرجل جاء إليك ومعه كافة المعلومات التي قد تحتاجها لتعرفه، ولو أراد أن يتلاعب بها كان من الممكن أن يقنعها بمقابلته دون أن تعرف.. لكنه لم يفعل..
تغضن جبينه بتفكير عميق بينما غزل تنظر إلى عينيه بثقة فتساءل بخفوت:
- لذا؟
تنهدت بنفاد صبر وهتفت بحدة لم تقصدها:
- يا رجل لا تفقدني أعصابي، لذا أسأل عنه وأعلم إذا كان مناسبًا لشقيقتك أم لا، والأهم أن تتحدث معها كي تكون على علم بكل شيء، لو كان سيئ فلا يؤثر عليها.
- لا يمكنني الحديث معها..
تفوه بها بحدة وقد بدت على ملامحه الغضب، كلما تذكر حديث صالح يشعر بالدماء تغلي في عروقه وتتملكه رغبة غريبة بالقتل، ويلوم نفسه أنه لم يسبب له عاهة مستديمة كي يبتعد عن شقيقته تمامًا..
ابتسمت غزل رغمًا عنها وربتت على كفه برفق هامسة بتعقل:
- ستتحدث معها يا عيسى وبالعقل، أنت الأقرب لها من بين الجميع، تستطيع أن تحتويها وتفهم ما تشعر به، هي وحيدة ولا تحتاج لأي شخصٍ بقدر احتياجها إليك..
استمر صمته لأكثر من دقيقتين، يطرق برأسه وملامحه خالية من أي تعبير، تركت له المساحة الكافية كي يفكر بهدوء وانشغلت هي بالتفكير في حال روح، فكرت أن تحدث عُدي تفهم منه الأمر ولكن بعد أن تنتهي من الحديث مع عيسى..
رفع بصره إليها وتبسمت عيناه وارتسم الهدوء على ملامحه كأنه عاد ابن الثامنة عشرة الذي كان يجلس معها أسفل الشجرة بالجامعة وهمس بامتنان:
- شكرًا لكِ يا غزل.. على كل شيء
اتسعت ابتسامتها وهي تربت على كفه برفق وهزت كتفيها قائلة بخفوت:
- لا تشكرني.. لم أفعل شيء..
أومأ ببطء ونهض يزيح الغطاء عن كتفيه وناوله إليها قائلًا بأسف:
- يجب أن أرحل، وجودي هنا لا يصح..
هزت غزل كتفيها قائلة بلامبالاة:
- لا تهتم نحن أصدقاء..
ضحك عيسى بخفوت وهي يسير نحو الباب وهي تتبعه، أوقفته قبل أن يخرج قائلة بينما تضع يداها في جيبي بنطالها:
- أنا هنا.. كلما احتجت لصديق.. ستجدني..
أومأ لها مبتسمًا ورحل دون كلمة أخرى لكن عينيه قالت الكثير..
بدلت ملابسها وألقت نظرة على روح النائمة،  ملامحها كانت ساكنة فاطمأنت وأغلقت الباب خلفها وعادت إلى غرفتها..
جلست على الفراش ووضعت الحاسوب الخاص بها على قدميها وأخذت تبحث عن فيلم جديد تشاهده لم يمر سوى ثلاث دقائق حتى سمعت رنين الجرس مرة أخرى، عقدت حاجبيها وهي تنهض مفكرة لا بُد من أن عيسى نسي شيئًا..
فتحت الباب وعندما رأت الطارق أظلمت ملامحها، زفرت بضيق وهي تدور بعينيها في المكان في محاولة واهية كي تهدأ..
وقف "نديم" مستندًا على حافة الباب يكتف ذراعيه أمام صدره ويحدق فيها مبتسمًا ببرود، بادلته النظر ببرود هي الأخرى واستمر للحظات بينما تفكر من منهما سيصبر أكثر..
لم تمر دقيقة ووجدته يدفعها للداخل ويغلق الباب خلفه بهدوء، وهتف متسائلًا بنبرة باردة:
- من الرجل الذي كان هنا؟ أشعر أنني أعرفه!
 عضت على شفتيها بقوة حتى كادت تدميها وأغمضت عينيها تعد إلى عشرة عدة مرات وتهمس لنفسها بصوت مسموع:
- أهدئي.. أهدئي
 ثم فتحت عينيها لتبتسم بسخرية وهتفت بنبرة أشعلت النيران بداخله:
- وما شأنك أنت؟
- أنا زوجك.
- كنت..
- يمكنني ردك..
- من قال أنني سأقبل!
كان صوته مهزوزًا لا يتحلى بالثقة التي طالما تفاخر بها، أما هي فنبرتها كانت جليدية وكأنها فقدت أي إحساس به، تُجيب ببرود ألم قلبه، يعترف أنه أجبن من أن يجبرها على العودة إليه في الوقت الحالي خاصة بعد ما عرفته، يخشى أن تفعل شيئًا يهدم كل ما سعى لأجله خلال السنوات الماضية..
استجمع قواه وقبض على كتفيها برفق وهمس أمام عينيها بحنو:
- غزل.. أنا ما زالت أحبك، لا زال أمامنا فرصة لنصلح ما فات ونعود كما كنا..
فلتت من بين شفتيها ضحكة ساخرة جعلته يعقد حاجبيه بتعجب فأبعدت يديه عنها وهي تعود خطوة للخلف وهمست بتساؤل ساخر:
- أصدقني القول مِمَّ أنت مصنوع؟ لوح ثلج؟ لا الثلج يذوب بالحرارة وقد يتفتت مع كثرة الضغط.. 
- كل هذا لأني أحبك!!!
يهدر بتساؤل حاد فتجيبه بانفعال جاهدت كي تكبته لكنها فشلت:
- يا إلهي أنت حق لا تفهم!! ألم يمر عليك كبرياء الرجل الشرقي الذي طالما سمعنا عنه؟ كتلة ثلج لا تشعر وليس لديها كرامة... أخبرني بكل صراحة هل حصلت على كرامتك من صندوق قمامة!! افهم يا رجل أنا لا أريدك ولا أطيق النظر في وجهك بل أكاد أتقيأ كلما تذكرتك.
كان يحدق فيها بتعابير غير واضحة لكنها أبصرت في نظرته غضبًا، يذم شفتيه بقوة كأنه يكبت انفعالًا، لقد أهانته بطريقة لا يحتملها أي رجل..
هذه هي غزل، عندما تريد الدفاع عن نفسها تلجأ إلى إهانة الآخرين،  كانت تحدق فيه وهي تلهث من الانفعال ووجهها أحمر بشدة..
كانت تعلم أنها بالغت في إهانته لكنه يستحق، ألم يخدعها باسم الحب مرارًا وهي سلمت له بكل طيب خاطر.. فلماذا يلومها الآن؟
عندما طال صمته تعجبت، عقدت حاجبيها تفكر كيف لم يغضب؟ لم يُبدِ أي رد فعل على ما قالته، لو كان رجل آخر لصفعها على وقاحتها لكنه دومًا نديم يخالف توقعاتها..
تنهدت وهي تمسح وجهها بكفيها ثم قالت بقوة وهي تثبت بصرها عليه:
- أرحل يا نديم.. ما بيننا لن يصلحه شيء، لقد تقبلت خذلانك مرة وخداعك لي مرة أخرى لكن الآن الوضع مختلف، لم أعد أخشى السقوط، كل شيء بي سيشفى إلّا الثقة التي كُسرت أثناء سقوطي لن تعود إلى سابق عهدها.. عُد إلى زوجتك، كن بجانبها.. أسعى كي تسعدها هي وأبناءك واتركني لشأني.. دعني أرمم روحي التي كدتُ أفقدها معك..
لم يحاول إقنعها، ولم يبذل مجهودًا في الحديث، بكل هدوء انسحب من أمامها مغادرًا المنزل دون يتفوه بشيء..
**
صباح اليوم التالي..
طرقات خفيفة على باب الغرفة تبعها دخول غزل بابتسامتها الحنون ترمق روح بنظرة مشفقة رغمًا عنها، بشرتها شاحبة وعيناها شاردة بعيدًا كأنها انفصلت عن العالم حولها، حتى الآن لا تصدق ما أخبرها به عُدي باقتضاب عندما هاتفته وسألته عن الأمر، لكنه طلب منها البقاء مع روح حتى تستعيد توازنها فهي أضعف من أن تنهض وحدها.. حتى أنها تناست أمر عيسى وشعوره ب"روح" أمام الكارثة التي عرفتها اليوم
لم تلتفت لها روح بل ظلت شاردة تحدق في السقف وهي ممددة على الفراش، تنهدت غزل وهي تجلس بجانبها على الفراش وتمسح على شعرها بحنان وتحدثت بخفوت:
- كيف حالك الآن..
- بخير
تقولها دون أن تتحرك، لسانها نطق بها بعد لحظات من استيعاب وجود غزل هنا، ساد الصمت قليلًا حتى التفتت لها روح بعينين زائغتين، ساعدتها غزل على الاعتدال وهي تقول بحنو:
- ستكونين بخير، سأكون معك، كل شيء سيمر مهما كان صعبًا..
دمعت عيني روح لكنها كبتت دموعها بقوة وهي تغمض عينيها، لا تريد أن تبكي، هي لن تبكي حُبًّا أبدًا..
فهمت غزل ما يدور بخلدها واحتضنت جانب وجهها براحتها وهمست بحزم ممزوج بحنانها:
- إذا أردتِ البكاء فلا تترددي، لا بأس الجميع يأتي عليه ويحتاج إلى بعض الضعف.
نظرت لها روح وهي تهز رأسها بتشتت فأردفت غزل بشرود:
- هناك حرائق تُقام بداخلنا.. لا يعلم عنها أحد، لكننا نسعى دومًا لنكون أقوياء..
- أشعر بألم شديد، لا يمكنني تجاوزه أو التعايش معه..
تهمس بها روح باختناق ودموعها تناسب دون إرادة فضغطت غزل على كفيها تحدثها وكأنها تحدث نفسها:
- الألم درجات..  كلما تألمتِ.. هبطتِ درجة.. وأزداد الواقع قسوة.. فالهبوط لم يكن يومًا اِخْتِيَارِيًّا.. بل اِضْطِرَارِيًّا.. لكننا فقط من نستطيع تحويل الألم لطاقة عكس الجاذبية، بدلًا من أن نسقط.. نحلق..
تنصت لها روح بكل كيانها وتسألها بتردد خجول:
- هل.. أحببتِ من قبل؟
ابتسمت غزل بشجن وهي تقول بهمس:
- نعم..
- وماذا حدث؟
شردت غزل وهمست دون وعي:
- كل شيء انتهى
لحظات مرت على روح دون أن تُبدي رد فعل ثم تساءلت بألم وهي تعيد خصلة من شعرها للخلف:
- كيف انتهى؟ أريد أن ينتهي عندي أنا الأخرى، لا أستطيع تحمل الوجع.. أخبريني طريقة امحي بها ذاك الحب من داخلي..
تبسمت بحنان وهي تمسح دمعة غادرة سقطت على وجنتها وهمست بحزم وكأنها تتحدث عن شعورها هي:
- الحُب لا ينتهي برمشة عين أو ضغطة زر.، لكنه يذبُل.. يجف.. ثم يتفتت.. يتحول لرمادٍ.. ثم يتلاشى بمرور الوقت..  لكنه يترك خلفه ألف وجع..
شهقت روح بنشيج جعل قلب غزل يتمزق ألمًا عليها وهي تهتف بصوت متقطع:
- لماذا!!! لماذا يجب أن نتألم!!! أهو عقابنا لأننا أحببنا!!!
- دومًا ما يقترن الحب بالألم..
بيقين متألم تهمس بها غزل، وهي أكثر من تعرف كيف يكون ألم الحب عندما تأتيك من أقرب الناس إليك..
تنهدت غزل وهي تنهض وتقول بحزم اكتسبته من سنوات عملها كمعلمة:
- هيا انهضي، لن تقضي وقتك كله تبكي على أطلال حبٍّ لم يكتب له الله الكمال، الحزن لن يفيدك في شيء صدقيني.
دون مقاومة استمعت إلى حديثها..
وبعد فترة كانا يجلسان في الشرفة تحثها غزل على تناول إفطارها لكنها أتعبتها حتى انفعلت عليها قائلة:
- يا فتاة فليذهب الرجال جميعهم للجحيم ما دخل الحزن بالطعام
انفلتت ضحكة خافتة من روح وهي تحدق في غزل كيف تتحدث بجدية عجيبة عن الطعام وكأنه شيء مقدس، ابتسامتها تسللت إلى غزل هي الأخرى فأردفت بجدية:
- هيا تناولي طعامك
أومأت روح وأخذت تتناول طعامها بصمت ثم رفعت رأسها إلى غزل وهتفت بتردد:
- هل يمكنك مساعدتي في البحث عن أمي؟
ربتت على كفها قائلة بحنو:
- بالطبع.. أعطيني فقط كل المعلومات التي تخصها وأنا سأحاول جاهدة كي نصل إليها..
شكرتها بخفوت ثم سألتها بفضول:
- أتعيشين وحدك؟
هزت غزل رأسها بالإيجاب قائلة:
- أجل، أبي وأني توفاهما الله منذ أربع سنوات في حادث، من يومها وأنا أعيش وحيدة.
- لا تخشين وحدتك؟
تركت غزل كوب الشاي خاصتها وتنهدت وحدثتها بحزن:
- بل كانت تصيبني بالرعب، وخوفي منها كان يحركني ويتحكم بكل تصرفاتي السيئ منها قبل الجيد ولكن.. أتعلمين شيئًا..
انتبهت لها روح وكأنها تنتظر إجابة تطمئنها على نفسها وتجعلها تتقبل وحدتها، أكملت غزل بابتسامة حزينة:
- مع الوقت اكتشفت أن الوحدة لم تأذينا بقدر ما آذتنا أشباه الصحبة... وأشباه الأحبة... اكتشفت أيضًا أن وحدتي لم تكن بهذا السوء الذي تخيلته، المشكلة الحقيقية كانت في عدم تقبلي لرحيل وَالِدَيَّ، فأنا كنت مدللة للغاية فكان صعبًا عليّ أن أواجه كل شيء وحيدة.
- أنتِ أقوى أنثى عرفتها..
همست بها روح بانبهار فضحكت غزل بخفوت قائلة بسخرية:
- لا أنا لست قوية لا تدعي المظاهر تخدعك، أنا أضعف مما تظنين لكني تعلمت أن أخفي ضعفي حتى لا يكون سلاحًا ضدي ذات يوم..! أتعلمين أيضًا أكثر ما كنت أخشاه أن تنطفئ رغبتي تجاه أمر تمنيته طويلًا، أن يبهت بريق عيني وأستسلم بعد مُحاولاتِ العديدة من المقاومة للوصول.
- ليتني مثلك..
- لا.. كوني أنتِ.. لا تكوني صورة لأحد.. أنتِ أيضًا أقوى من مظهرك الضعيف هذا، بل تفوقيني قوة فقط حينما تدركين قيمة نفسك جيدًا وتتركين الماضي بكل ما أصابك فيه، ما مضى لم يكن ذنبك.. لكن القادم بيديكِ أنتِ..
- شكرًا لكِ
- لا تشكريني، فقط كوني بخير، ستبقين معي هنا عدة أيام حتى تستعيدي قوتك وبعدها أريد أنا أرى نتيجة المحاضرة الرائعة التي ألقيتها على مسمعك اليوم..
عبرتها الأخيرة كانت مزحة جعلت روح تبتسم بها بامتنان حقيقي وهي تفكر كيف لشخصية مثل غزل لا تقرب لها شيء أن تكون حنونة بهذا الشكل!..
***
تجلس على الفراش تحتضن الهاتف بين يديها تستمع إلى صوت "صالح" وهو يحكي لها تفاصيل يومه كالمعتاد منذ أن وصل إلى مصر، يطمئنها ببضع كلمات يَوْمِيًّا أنه لن يتخلى عنها، ويحذرها أيضًا من أن تخطأ أمام شقيقها..
تغلق الهاتف ويجرفها عقلها إلى اليوم الذي ذهب فيه صالح إلى شقيقها، تتذكر صورته التي أرسلها إليها في مساء نفس اليوم والكدمات تملأ وجهه..
تتذكر رعبها وهي تتخيل ما حدث، وصالح يخبرها بكل هدوء:
- لا تخافي.. توقعت الأسوأ ولكن شقيقك أبهرني بكبت غضبه
- كيف فعل بكَ هذا؟
تكتبها بأنامل مرتعشة والخوف يغلف قلبها وهي لأول مرة تدرك أن عيسى أيضًا يغضب مثل الجميع فيأتيها رد صالح منطقي لكنه مقبض:
- لا تلوميه على رد فعله فهذا طبيعي، لا يوجد رجل على وجه الأرض يتقبل أن شقيقته تتحدث مع رجل غريب عنها من خلال مواقع التواصل خاصة إذا كان من أهل الجنوب، بل لو أخبرنا أحدًا أنني ذهبت إليه كي أخطبك منه سيتهمونني إما بالجنون أو الوقاحة، أنا تركت له مساحة من الوقت كي يفكر لكن أعلمي لو رفضني ألف مرة لن يصيبني اليأس وسأظل أسعى كي تكوني معي..
انتفضت منتزعة نفسها من شرودها عندما فُتح باب الغرفة بعنف وأطل من خلفه عيسى، أغلق الباب ببطء وهو ما زال يثبت عيناه عليها، تجمدت في مكانها وفشلت في حث جسدها ليتحرك ويعانقه كما تفعل، تتعرف أنها لأول مرة تشعر بالخوف.. في وجوده..
ملامحه كانت مبهمة فلم تستطع أن تخمن ما سيفعل، اقترب منها انكمشت على نفسها وهي تغمض عينيها وتخفي وجهها بكفيها ظَنًّا منه أنه سيضربها..
قبضة ألم اعتصرت قلبه وهو يحدق فيها مذهولًا، كيف تختبئ منه وجسدها ينتفض برعب..
غضبه كله تبخر في لحظة وهو يقترب منها بسرعة يزيح يديها عن وجهها وهو يهمس بصدمة:
- رباه!! فرحة اهدئي أنا لن أضربك
ترفع رأسها إليه بتردد، أبصر في عينيها خوفًا والدموع تجمعت بهما، بدلًا من تعنيفها وجد نفسه يعانقها بقوة ويمسح على شعرها بحنان بينما جسدها يرتج ببكاء مكتوم فيهمس لها بكلمات تطمئنها..
بعد فترة شعر باستكانتها بين ذراعيه فأبعدها برفق وهو يمسح دموعها، هربت بعينيها منه فليس لديها قدرة على مواجهته الآن، لكنه قبض على ذقنها ورفع وجهها إليه ناظرًا إليها بجدية لم ترها على ملامحه من قبل وهتف بحزم:
- الآن.. يجب أن نتحدث.. ولكن أولًا.. أعطيني هاتفك..
**
انتهى الفصل

خلف قناع العادات، كاملة (مستوحاه من احداث حقيقية)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن