الفصل الخامس

593 16 5
                                    

الفصل الخامس

- كيف يمكن للروح أن تألف روحًا أخرى وتوقن أنها شبيهتها بهذه السرعة..!
سؤال يتردد في ذهنه وهو يراقبها واقفًا عند بوابة المسرح، تنظف المقاعد بعقل شارد وملامحها تحكي ألف قصة وجع..
جميلة، لم يكن جمالها باهرًا لكنها تظل جميلة في نظره..
يراقب عينيها كيف يتسعان بانبهار طفولي وهي تحمل تلك القطة التي خرجت من خلف أحد المقاعد..
عيناها جميلتين.. هكذا فكر وزاوية فمه ترتفع في شبه ابتسامة جانبية أظهرت غمزته..
يتذكر لونهما جيدًا فرغمًا عنه كلما وقف أمامها يجد نفسه يحدق فيهما دون القدرة على إزاحة عينيه عنهما..
يذكرانه بلون البندق..
لم يعِ لنفسه وهو يتحرك إليها كالمنوم دون أن يحيد بعينيه عنها، ابتسامته تزداد عمقًا وهو يراها كيف تركت ما في يديها لتحمل القطة تحتضنها بحنان..
لم تخف منها القطة على العكس استكانت بين أحضانها وروح تمسح على شعرها برفق..
- ليتنا نستطيع أن نأمن للبشر دون الخوف من غدرهم..
تجمدت ساقاه في مكانه وهو ينصت إلى حديثها للقطة، بدت شاردة بعيدة عما يحدث حولها كأنها انفصلت عن العالم فقط تحدق في عيني القطة كأنها تفهمها..
قرر ألّا يفصح عن وجوده ويترك لها مساحة من الحرية كي تخرج ما تشعر به..
يريد أن يتوغل بداخلها ويعرف عنها كل شيء..
يشعر بها جزء منه.. كأن روحيهما تعلقا معًا برابط خفي لا يدري مصدره لكنه يوقن أنه سيكون سببًا في تقاربهما
منذ اليوم الأول لرؤيته لها يشعر أنها تخفي أكثر مما تظهر..
بل يكاد يقسم أن خلفها سر كبير تخشى أن ينكشف فيظهر الخوف في عينيها كلما التقت عيناهما..
لكن لا بأس هو لا يهتم..
لا يهتم بمن تكون ولا ماذا تخبئ..
كل ما يهمه أن يقترب، يقترب حد الانسجام..
لم تهتز به شعرة حينما التفتت بحدة لتلتقي عيناها بعينيه، يرى الارتباك يظهر جاليًا على محياها فيبتسم..
تطرق برأسها في خجل وهي تشعر أن نظراته تنفذ لداخلها، تخترق حواجزها دون مقدمات..
لا تعرف ما يحدث لها حَقًّا في وجوده..
منذ لقائهما الأول وهي تشعر بابتسامته تعبر سور خلف الآخر فتعرف طريقها لقلبها بشكل يربكها..
هذا الرجل يثير فيها مشاعر غريبة لم تجربها من قبل ولا تعرف لها مسمى..
لا يحدثها فقط ينظر لها بتلك النظرة التي تصيبها بتوتر ملحوظ، تقسم أنه يتعمد فعل ذلك..
رغم ارتجافة جسدها إلا أنها لا تشعر بالخوف..
على العكس يجتاحها شعور غريب بالأُلفة كأن نظرته تحوي دفئًا غريبًا..
يرتجف قلبها بين أضلعها وهي تراه يقطع المسافة التي بينهما ليقف قابلتها ويحدق فيها دون أن يرمش له جفن، توترها يزداد فلم تنتبه أنها تضغط على القطة بعدها كانت تضمها بحنان لصدرها فتصدر القطة مواء عاليًا وأظافرها تنغرس في أحد ذراعي "روح" الظاهرة من بلوزتها الصيفية فأصدرت تأوهًا عاليًا وهي تفلت القطة من يدها، ارتجف قلبه وهو ستحتضن يدها بكفيه بسرعة هاتفًا بنبرة قلقة:
- هل أنتِ بخير؟ هل تأذيتِ!!
حاولت سحب ذراعها بتوتر ملحوظ وتشنج جسدها وهي تتبع أنامله التي يمررها ببطء على مكان الاحمرار البسيط الذي أصاب ذراعها، للحظة تعلقت عيناها بملامحه الجزعة فغامت عيناها بحزن..
منذ متى لم ترَ شخصًا قلقًا عليها هكذا؟
حتى وإن كان الموقف كله لا يستحق قلقًا ولكن جزعه هذا وجد صداه في قلبها بقوة..
لم تعِ أنها كانت ترتجف لدرجة أنه كاد يحتضن جسدها ليهدئ ارتجافته لكنها نجحت في انتزاع ذراعها منه وارتدت للخلف في حركة عنيفة بينما صدرها يعلو ويهبط ووتيرة أنفاسها تزداد سرعة..
ابتلعت ريقها بخوف وهي تحتضن نفسها فأقترب منها "عُدي" محاولًا تهدئتها لكنها ابتعدت مرة أخرى وهي ترمقه بنظرة آلمته، كانت خائفة.. بل مذعورة، عقد حاجبيه وهمس بحنو:
- أهدئي يا روح لم يحدث شيء، لا تخافي..
ابتلعت ريقها وهي تطرق برأسها مقاومة رغبتها في البكاء حتى تنفرد بنفسها، شعرت بالإحراج الشديد من ردة فعلها لكن ما يحدث رغمًا عنها..
لا تحب أن يلمسها أحد ولو حدث تجد نفسها تنتفض بقوة..
التقط بعينيه القطة الصغيرة التي تقترب منها بحذر شديد وأخذت تتمسح في ساق "روح" وتصدر مواء بسيط كأنها تعتذر، ابتسمت "روح" وهي تنحني لتربت على رأسها بحنان..
ارتج قلبه بين ضلوعه لابتسامتها، لم يكن يدري أنها ستصبح بهذا الجمال وهي تبتسم..
فكيف سيكون شكلها عندما تضحك!!
رفعت بصرها له بتردد خجول وعيناها تحملان ابتسامة رقيقة جعلت خفقات قلبه تزداد جنونًا..
للحظة شعر برغبة عارمة في تقبيل عينيها المبتسمتين..
يراها الآن أقرب لطفلة صغيرة وهي تداعب القطة ببراءة..
أيعقل أن يكون أحبها بهذه السرعة!!
منذ متى كان الحب يعرف موعدًا أو يعطي إشارة؟ هو دومًا يخترق قلوبنا في لحظة أما أن يحياه أو يوقفه للأبد.. لكنه ليس بساذج ليترجم مشاعره حُبًّا بهذه السرعة!!! يحب أن يعطي كل شيء وقته.. ويترك الأمور تسير بسلاسة ليرى إلى أين يأخذه القدر..
تنهد وهو ينتشلها من شرودها بل ينتشل نفسه من زحام أفكاره التي لو ترك لها العنان لاختطفها الآن دون ندم فهمس بصوت يكاد يسمع:
- تحبين القطط؟
- لم أكن أحب الحيوانات يومًا..
ارتفع حاجباه بتعجب وهو يسمع نبرة الشجن في صوتها كأنها تتحدث عن عهد بعيد، جلس على أحد المقاعد وعقد ساعديه أمام صدره وقال بتساؤل:
- غريب.. من يراكِ يظن أنكِ تحبينهم..
- أحببتهم مؤخرًا فهم كانوا نعم الرفاق لي منذ فترة..
نهضت وهي تلقي شعرها الطويل المعقوص على شكل جديلة طويلة خلف ظهرها وجمعت أدوات النظافة التي كانت تستخدمها وهمست بصوت مرتبك:
- عذرًا يجب أن أعود لعملي..
لم تمهله فرصة للرد وسارت بخطوات مرتبكة لتخرج لكنه لحق بها يهتف باسمها بنبرة غريبة لم تسمعها إلا منه:
- روح..
توقفت دون أن تلتفت له وقلبها يخفق بعنف من تأثير صوته عليها، لهجته تشعرها أنه ينتمي لبلاد الشام فقط عندما ينطق اسمها، تشعر أنها سمعت مثلها لكنها لا تتذكر..
انتظرت بصبر وهي تحاول السيطرة على ارتعاش جسدها فجاءها صوته متسائلًا:
- لماذا تجلسي دومًا وحيدة في أوقات الراحة؟ ولماذا تخترين ذلك السلم المنعزل لتجلسي عنده؟
طالت وقفته وهو ينتظر ردها، بينما هي تعطيه ظهرها وتغمض عينيها بقوة وتهمس لنفسها بصوت لم يسمعه
- اهدئي يا روح اهدئي، كل شيء سيكون على ما يرام..
مر وقت طويل كالدهر حتى التفتت إليه قائلة بشرود زاد من حيرته تجاهها:
- الاختلاط بالبشر عبءٍ ثقيلًا جِدًّا عليّ، لم أعد أستطيع تحمله..

خلف قناع العادات، كاملة (مستوحاه من احداث حقيقية)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن