_ إبتزاز ! _

10.4K 442 3
                                    

كان يجلس بالصالون ، عندما سمعها و لا زالت تواصل بكائها الحار ..
دخن سيحارته بعصبية ، و هو يفكر بِمَ عليه فعله ، لم يعد بمقدوره السيطرة عليها ، فقد انفلت عقالها تمامًا و انتهى الأمر ..
تلك الأنثى بداخلها استيقظت من بعد سبات ، و أصبحت بحاجة لمن يكملها !
لا يستطيع أن يصدق ، لقد كانت طفلة بالأمس .. من أين آتت بتلك الجرأة ؟ من أين آتت بتلك الأفكار ؟ كيف تتوق لهذه الأشياء فجأة و في هذا السن ؟
صحيح أنها نشأت داخل مجتمع متفتح و متحرر ، و لكنه هو من وضع أسس تربيتها ، هو من علمها ، هو من حرص على إتباع اسلوبه الصارم معها حتى لا يقع ما خشى منه اليوم !
اعتصر عينيه بإغماضة حانقة ، حين قفز أمامه ذلك المشهد المخزي القذر الذي جمعها بذاك الوغد !
الحقير ، استغل سذاجتها و براءتها ، أراد أن يفسدها ..
و لسخرية القدر ، كان "داوود" يعتقد بأنها ستكون بأمان هنا ، في بلده المنغلقة ، وسط عائلته المحافظة ، لم يكن يدرِ بأن الخطر متواجد في كل مكان و زمان ..
-يا ويله مني !
هكذا ردد "داوود" متوعدًا بخفوت من بين أسنانه ..
بينما كان بإمكانه سماعها و هي تبكي حتى تلك اللحظة ..
شعر بالضيق لهذا ، و أشفق على حالتها ، لكنه لن يذهب إليها بالطبع ..
ليتركها تعاني قليلًا ، و ترتعب حتى تعرف أنه في هذه المرة بالذات لن يتساهل معها ببساطة ..
ازدادت وتيرة بكائها ، و علا صراخها ، و بدأت تسعل بحدة أيضًا ، ثم انقطع كل هذا فجأة !
قطب و هو يرهف السمع نحو غرفتها .. شعر بالقلق ، و خشى حدوث مكروهٍ لها ..
لكنه سمعها تتحرك بالغرفة ، فارتاح باله ، و استرخى متنهدًا فوق الأريكة ..
لينتفض بغتة حين سمع أصوات أشياء تتكسر عندها !
هنا لم يستطع منع نفسه ، و نهض متجهًا صوب غرفتها ..
كان الباب على حاله ، مفتوحًا كما تركه ، لكنها لم تكن موجودة حيث تركها ..
نظر إلى باب الحمام المغلق ، و تردد في الطرق عليها ..
و لكن حين سمع صوت ارتطام مكتومٍ منبعث من الداخل ، اندفع نحو الباب ، و نقر نقرتين هاتفًا باقتضاب :
-كريمان ! ماذا يحدث عندك ؟ .. كريمان !
و واصل الطرق بقوة أكبر ، و هو يحاول أن يفتحه لكنه مغلق من الداخل :
-كريمـان ! أجبي ماذا يجري معكِ ؟ .. كريمان لا تتجاهليني هكذا و ردي . لا أريد أن أؤذيك أكثر .. أفتحي هذا الباب الآن ... قلت لكِ الآن . إذا فتحته أنا ستنالين مني عقابًا لن تتحمليه !
هددها ، و لكنها لم ترد عليه ..
فاتخذ قراره ، و راح يدفع الباب بجسده عدة مرات ، حتى انكسر القفل ..
انتقل إلى الداخل ، ليصطدم برؤية بحر من الدماء يلون رخام الحمام الزبدي ..
خفق قلبه بذعر ، عندما رآها هناك ، متهالكة فوق الأرض ، و مستندة بظهرها إلى الجدار ... و قد كان مصدر الدماء ، معصميها الملقيان بجوارها في حالة نزف متواصل !
أسرع "داوود" يجثو إلى جانبها ، غير عابئ بالدماء التي لوثته :
-كريمااان ! ما هذا ؟ ماذا فعلتِ ؟
قالها صارخًا فيها ، و هو يمسك بكتفيها ، و يرفع أحد معصميها النازفين ..
بحث بعينيه عن شيء ليوقف به النزيف ، فوجد المناشف البيضاء الصغيرة على الرف أمامه ، فأحضر اثنتين ، و ربط معصميها ..
ثم عاد يتحدث إليها ملتاعًا :
- كريمان ! عزيزتي هل تسمعينني ؟ أجبي صغيرتي ! ردي أرجوكِ لا تصمتي هكذا !
و لكن لا حياة لمن تنادي !
كانت شاحبة حتى البياض ، مرتخية تمامًا بين ذراعيه ، بدت كالأموات بحق و هو يتلمس وجهها بيده المرتعشة و الملطخة بدمائها ، ليجدها باردة كالثلج ..
صرخ مرةً أخرى باكيًا :
-لاااااا ! ماذا فعلت بكِ ؟ ماذا فعلت ؟ افتحي عيناكِ يا صغيرتي . أنا آسف . لقد كذبت . كنت أريد معاقبتك صدقيني أنا لن أتركك أبدًا . مستحيل أفعل هذا . ألم تذكري وعدي لكِ ؟ أنتِ جوهرتي . أنتِ كنزي . كيف أفرط فيكِ ؟ افتحي عيناكِ من أجلي . من أجلي أيتها العزيزة ! د
أحاط كتفيها بذراعٍ ، و وضع الآخر أسفل ركبتيها ، ثم حملها برفقٍ ، و نهض مسرعًا بها إلى أقرب جهة إسعاف ...
*****
في نفس الشارع الذي يقطن به ، كانت هناك عيادة جـراح مشهور بإحدى البنـايات ..
للفور ، سعى إليه "داوود" و توسل له لينقذها ..
أخذها الطبيب و مساعديه لحجرة الفحص ، بينما وقف "داوود" بالخارج ، يعاني الندم على مبالغته في طريقة عقابه لها ..
ما كان يجب أن يغالي في أمر كهذا ، ما كان يجب أن يؤكد لها بقسوة بأنه سيتنازل عنها و يعيدها للحياة البالية المهينة التي كانت تحياها بالسابق ..
بالطبع كان تصرفها تلقائي عندما شعرت بأنها فقدت كل شيء ، و لكنه لم يتوقعه !
°°°°°
مرت عليه أسوأ أربعة ساعات في حياته ، و هو لا يزال واقفًا أمام حجرة الفحص ..
حتى خرج الطبيب أخيرًا ، أسرع نحوه متسائلًا بتلهفٍ :
-رجاءً أيها الطبيب ! طمئني . كيف هي الآن ؟ أسعفتموها أليس كذلك ؟
تنهد الطبيب بأرق ، و هو يعدل نظارته الطبية فوق أنفه ، ثم قال بهدوء :
-لحسن حظك أن لدي هنا بالعيادة إمكانيات طبية مطابقة لإمكانيات المشفى . أنت آتيت بها على أخر لحظة . لو كنت اتجهت للمشفى لكانت انتهت منك في الطريق !
عاد الجزع يكسو ملامحه مجددًا ، و هو يقول :
-ماذا تعني ؟ أليست بخير ؟
طمئنه الطبيب بجدية :
- اطمئن .. ستتعافى بإذن الله . لقد أوقفت نزفها . و أجريت لها غسيل معوي لأنها ابتلعت أقراص مسكنة كادت تسممها أيضًا . إذا مرت الليلة عليها بسلام . ستكون بخير تمامًا في الصباح . و سيكون بإمكانك نقلها إلى المنزل إذا شئت !
و أردف منصحًا :
- يبدو أن ثمة شيء خطير دفعها لهذا التصرف المتهور .. لقد قلت لي أنها ابنتك أليس كذلك ؟ إذن حاول أن تتقرب إليها و تعرف الأسباب بنفسك لئلا تعاود الكرة مرةً أخرى . و يستحسن لو استشرت طبيبًا نفسيًا !
شكره "داوود" على اهتمامه ، فإنصرف الأخير ، لتأتي في إثره فجأة العمة "نورا"  ..
-ماذا يجري داوود ؟ ما بها كريمان ؟ أخبرني ماذا فعلت لها ؟
هكذا وجهت إليه "نورا" أسئلتها بنبرةٍ حادة ، ليلوي فمه بابتسامة هازئة ، و يقول :
-من أخبرك أننا هنا ؟
-عم زاهر حارس البوابة هو من دلني علة وجهتك !
-و لِمَ جئتِ أصلًا ؟
تنهدت "نورا" بصبر نافذ ، و أجابت :
-لقد حكى لي ماهر ما حدث !
-حقًا ! عظيم .. جيد أنه فعل . حتى يكون لديك علم بالأسباب عندما أرسله إليكِ مُـحطمًا !
- توقف عن هذا الأسلوب !
قالتها بشيء من العصبية ، و أردفت :
-أنا لم آتِ لأطلب الصفح عنه أو لأقل أنه لم يخطئ . لقد آتيت لأحل المشكلة و أصلح الخطأ الذي ارتكبه
قهقه "داوود" بخفة ساخرًا ، و سألها :
-و كيف برأيك أن يحدث هذا ؟ كيف ستصلحين خطأ ابنك ؟
لتتحول نبرته بصورة مفاجئة ، و تصبح جلفة غاضبة :
-ابنك الشهم . الرجل الهمام الذي خلت بأنني أستطيع الاعتماد عليه . أستطيع أن أترك كريمان بحوزته و أنا مطمئن بأنه لن يمسسها بسوء و لن يسمح لأحدٍ بأن يقترب منها . أريدك أن تعرفي بأنني طوال السنوات الفائتة حظرت عليها مصادقة الفتيان . إلا ابنك .. عندما وصلنا إلى هنا تغابيت . تحامقت و سمحت لها بالتعامل معه . كنت غبي . و لكني تعلمت من الدرس !
أجفلت "نورا" في خزي من كلماته ، لكنها قالت متغاضية عن حديثه :
-اسمعني داوود .. كما قلت لك . أنا جئت لأحل المشكلة . بعد خروج كريمان بإذن الله سنأتي  إليك لطلب يدها !
-ماذا ؟
استوضحها مقطبًا ، لترد بابتسانة خفيفة :
-ماهر معجب بكريمان و يريد الزواج منها ، أنا أيضًا أريدها له . و أؤكد لك بأننا سنعتني بها جيدًا ، ستكون بخير بيننا !
- ما هذا الهراء !
صاح "داوود" مستنكرًا ، و أردف :
-مستحيل أن أوافق على ذلك !
عبست  "نورا" و جادلته :
-و لِمَ لا ؟ .. نحن عائلتها و أحق بها . ثم أنك لا تستطيع أن ترفض أو تقبل . يجب أن تأخذ رأيها أولا !
- لا أحتاج لرأيها . أنسيتِ بأنني الوصي القانوني عليها ؟ بإمكاني أن أقرر بشأنها ما أشاء
احتقن وجهها بحمرة غاضبة ، واقتربت منه قليلًا ، و قالت بلهجة تحذيرية :
-من الأفضل لك أن تنصت لي و تأخذ رأيها . أنت لا تعلم ماذا يمكنني أن أفعل داوود . لو أردت سآخذها منك في لحظة !
رفع حاجبه متسائلًا بحدة :
-حقا ! و كيف هذا يا عمتي ؟
-لا تنسة بأنني خالتها الفعلية . شقيقة أمها . أما أنت . فمجرد  قريب لها من بعيد . و إذا رفعت أنا دعوى لأطالب بضمها حتمًا سأفوز بها . لذا يتوجب عليكِ أخذ كلامي بعين الاعتبار !
كانت تتحدث بثقة ، و لم ينكر أنها أخافته بتحذيرها ..
لكنه استطاع أن يخفي عنها ردة فعله ، و بقى ينظر إليها ببرودٍ ..
-سأتصل بك لاحقًا لنحدد ميعاد الزيارة !
قالت "نورا" باقتضاب ، ثم انصرفت دون أن تفه بحرفٍ آخر ..
في اللحظة التالية ، تداعى "داوود" فوق أقرب مقعد ، و هو يشعر برأسه تكاد تنفجر من شدة الأفكار التي تدفقت إليه دفعة واحدة !
لا يعقل أن يأخذونها منه ، ليس بعد أن تعلق بها و أصبحت كل شيء بالنسبة له ..
الخوف الأعظم الآن ليس من العمة "نورا" بل من "كريمان" نفسها !
فربما تأبى الرجوع له ، و تقبل الزواج من "ماهر" خاصةً بعد كلامه اللاذع و تهديده لها ..
الرد القطعي لـ "كريمان" .. هي من ستقرر كل شيء ، غدًا صباحًا عند عودتها للوعي  !!!
 

جمرة فوق الثلوج ( مكتملة )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن