_ إنتحار ! _

10.2K 439 2
                                    

ظلت هاجعة فوق الأريكة كما هي ، متسطحة على ظهرها ، تتطلع إليه بفزعٍ من هيئته الشريرة ، فقد بدا قادرًا على القتل دون أدنى مبالغة ...
ترقبت خطوته التالية ، و خالته سينتقم منها أولًا ، لكنه انصرف عنها فجأة متجهًا نحو "مـاهر" الملقى أرضًا في الجهة المقابلة ..
و هنا استوت جالسة بسرعة ، و هي تغطي فمها بكفيها ، عندما رأت "داوود" يقبض على عنق "ماهر" و يرفعه ليقف على قدميه ، ثم يكيل له لكمة ، تلو الأخرى ، تلو الأخرى ، حتى خارت قوى الأخير و سقط عند قدميه ..
لم يكتفِ "داوود" بعد ، فتابع تفريغ شحنة غضبه الجامح ، و أنهال عليه ضربًا مبرحًا ، حيث جثى فوقه و هو يلكمه على أنفه و فمه لكماتٍ أسالت منه الدماء ..
ذعرت "كريمان" و هي تشاهد هذا ، و خشت على "ماهر" المسكين من غضب "داوود" المتفاقم ..
فاندفعت صوبهما ، و أمسكت من الخلف بكتفي "داوود" محاولة درئه عنه و هي تترجاه أن يتركه ، و لكنها بدل ذلك نالت من ساعده دفعة قوية أسقطتها بعنف بعيدًا عنه ..
أطلقت تأوهٍ عاليًا من قوة السقطة ، و بعد عدة محاولات استطاعت القيام ..
في نفس اللحظة نهض "داوود" عن "ماهر" المتراخِ بصورة كاملة ، و أمسكه من ياقة قميصه بيدٍ واحدة ، و أخذ يجره جرًا في اتجاه الباب ..
ألقاه خارج المنزل تاركًا درجات السلم تتلقى جسده بقسوة ، و عاد إلى "كريمان" !
لم يجدها بالصالون حيث وجدها منذ قليل في أحضان "مـاهر" حزر أين ذهبت أو بالأحرى حزر  أين هربت ، فطوى الأرض بخطواتٍ واسعة غاضبة قاصدًا غرفتها ..
*****
عندما سمعت "كريمان" صوت ارتطام جسد "ماهر" على الدرج ، إقـشـَّعـِر بدنها خوفًا ، و للحال فرت هاربة إلى غرفتها ..
و لسوء حظها ، لم يكن هناك مفتاح أو قفل للغرفة لتغلق على نفسها حتى لا تطولها يد "داوود" المدمرة !
اكتفت بمواربة الباب ، و هي تدعو في سرها ألا يأتي الآن ، فهو غاضب جدًا .. جدًا ، و لن يستطيع أحد إيقافه ما إذا أطلق لغضبه العنان ..
و لكن خاب أملها ... حين رأته يدفع الباب بمنتهى العنف ، و يظهر أمامها على نفس الهيئة الشريرة ..

إنها نهايتها !
تراجعت بظهرها للخلف عندما أخذ يتقدم صوبها ..
بينما تابع تقدمه البطيء منها ، كنمر يتأهب للانقضاض على غزالة ..
-كم مرة قلت لكِ ؟
قالها بنبرة خافتة عبر أسنانه المطبقة بشدة ، و أردف و هو يرمقها بنظراتٍ مستوحشة :
-كم مرة قلت لكِ بأن جسدكِ منطقة محظورة ؟ .. لا يحق لأحد مقاربتك . لا يحق لأحد ملامستك . لا يحق لأحد رؤيتك . لا يحق لأحد تقبيلك .. كم مرة قلت ؟
و انقض عليها بغتة صارخًا ، و هو ينشب مخالبه بذراعيها :
-أجبي . ألم أقل لكِ ذلك مرارًا ؟ تكلمــي !
ازدردت ريقها بصعوبة ، و هي تومئ بخوفٍ ..
فاستوضحها غاضبًا :
-لماذا إذن تركتيه يقبلك ؟ لماذا تركتيه يعتليكِ بتلك الطريقة القذرة ؟ لماذا استسلمتِ له هكذا ؟ لِمَ لم تمنعيه ؟ لِمَ لم تصرخي طلبًا للنجدة ؟ ما الذي أردتينه بالضبط في تلك اللحظة ؟ قوووووووولي !!!
ثم هز رأسه متابعًا بعدم تصديق :
-إلهي ! لو كنت تأخرت قليلًا لكان طارحكِ حقًا و ما كنتِ لتعارضي حتى !
و شدد قبضتيه حول ذراعيها ، و عاد يسألها :
-ردي عليَّ و إلا نفذ صبري ! لماذا سمحتِ له بفعل هذا معك ؟ تكلمــي !
استجمعت شتات نفسها ، و بارتباك حاولت الرد :
- لـ للـ لأني .. لأني . لأني أردت ذلك !
-أردتِ ماذا ؟
استفسر منها فاغرًا فاهه ، فأجابت بنفس الارتباك :
-و نحن في لندن .. كنت أسمع قصص زميلاتي مع الفتيان . جميعهن فعلن ذلك . و كريستا .. قالت بأنها تجربة ممتعة . ليس على ايّ فتاة تفويتها . و أن من ترفض خوضها . تعتبر فتاة ذات عقلية رجعية متخلفة .. فـ فأردت أن أجرب !
-أردتِ أن تجربي لتثبتي بأنكِ متحضرة و لست متخلفة ؟ أم أردتِ أن تجربي لأنكِ حقًا أردتِ ذلك ؟
هكذا سألها بغموضٍ ، و هو يغرز نظره الحاد بعينيها ليلتقط منهما الحقيقة ..
فأجابته بصراحة :
-أردت أن أجرب لكلا الأمرين . فقد أحسست بأن ثمة شيء في بحاجة للإشباع . تمامًا كالطعام و الشراب أحتاجهم كي ما أشبع معدتي !
عند ذلك ، لم يستطع كبح نفسه أكثر ..
فصفعها بقوة صائحًا بضراوة :
- أيتها اللعينة ! سأقتلك يا حقيرة . أنتِ حقًا ابنة أمك . مثلها تمامًا و ستسلكين دربها . و لكني سأدفنك بيدي قبل ذلك أعدك !
و ناولها صفعة أخرى ، و أخرى ، و أخرى بمنتهى العنف ..
حتى تداعت فوق الفراش متورمة الوجه !
فاستندت على مرفقيها ، و هي تجادله بصوتٍ متحشرج :
-ليس من حقك أن تتصرف معي هكذا . لقد كبرت و أصبحت مسؤولة عن نفسي سيد ديڤيد !
انحنى نحوها ، و قبض على خصلات شعرها بقوة جعلتها تصرخ ألمًا ، ثم قال :
-لقد هربت بكِ من لندن إلى هنا مخافة مني أن تطولك يد الفساد . و لكني نسيت بأنكِ الفساد نفسه .. نسيت بأنكِ لعنة كان لابد التخلص منكِ منذ البداية . نسيت بأنكِ ثمرة الخطيئة . خطيئة والديكِ اللذين تركاكِ لنا نتحمل عبئك و خطاياكِ !
و أردف وسط دموعها و صدمتها من كلامه :
-و لكن لا يا صغيرتي .. لن أسمح لكِ بتدنيس إسمي و اسم عائلتي كما فعلت أمك في السابق . سأتخلص منكِ في أقرب وقت !
و تركها فجأة ، ثم هب واقفًا و هو يعلن بصرامة :
-غدًا . سأحل عني قيودك . سأتنازل عن حكم التبني و أضعك بأيّ ملجأ أو أيّ دار رعاية رخيصة تناسبك . لم أعد أريدك بعد الآن !
توسعت عيناها بصدمة أقوى .. فقفزت من موضعها نحوه و هي تقول ببكاء :
-ما الذي تقوله  ؟ لا . لا يمكن أن تفعلها . لا يمكن أن تتركني و تتخلى عني هكذا . لا يجدر بك فعل ذلك !
رمقها بتقززٍ ساخر ، و أشاح بوجهه عنها ، و كاد يتحرك ليخرج من الغرفة ، لولا أنها ركعت على ركبتيها أمامه ، و أمسكت بقدمه ، و هي تنتحب بحرارة ..
ثم توسلته بانهيارٍ :
- دااااادي ديڤيد . أرجووك لا تتركني .. لا تفعل هذا بي . أنا آسفة . أعدك ألا أتصرف هكذا مجددًا و لكن لا تتركني . لا تنفذ ما قلته و تتنازل عني .. أقسم . أقسم لك لن أرى شابًا بعد الآن . لن أخرج من باب المنزل حتى . سأكون جيدة لأجلك . أنت قلت بأنك لن تتركني أبدًا . قلت بأنني كل شيء بالنسبة لك . و أنك ستظل ترعاني ما حييت . أنت قلت كل هذا .. أرجوك لا تخلف وعودك لي . لا تتركني . لا أستطيع العيش بدونك . سأموت لو تركتني !
يبدو أن كلماتها لم تحرك مشاعره مثقال ذرة ..
إذ أبتعد عنها بحزم ، و غادر الغرفة دون أن يفه بحرف ..
بينما تصرخ "كريمان" و تعول بجنون ، لا تريد أن تصدق ما قاله ، ترفض الواقع الذي جعله يتفوه بكل هذا ، ترفض تصديق فكرة أنه سيتركها و يتنازل عنها ، سيلقيها بملجأ أو دار رعاية كما قال !
لا .. قالت في نفسها .. لا يستطيع أن يفعلها !
و لكنه أكد .. غدًا سيتنازل عن بنوتها ، غدًا سيعود لها لقبها القديم .. - لقيطــة ! - .. و لكن لا ، غدًا هذا لن يأتي !
هكذا خاطبت نفسها ، ثم مسحت دموعها بعزم ، و نهضت متوجهة صوب المرحاض الملحق بغرفتها ..
ولجت و أغلقت الباب من خلفها و بالمفتاح ..
اتجهت إلى علبة الإسعافات الأولية المعلقة على الجدار ، و أخرجت منها شريط أقراص المسكن ، و زجاجة دواء صغيرة ..
وقفت بهم أمام المرآة ، و بدأت بالمسكن ..
جمعت الأقراص كلها بكفها ، و بدون تردد ، ابتلعتهم دفعة واحدة بشربة ماء من صنبور الحوض ..
تنفست الصعداء ، و هي تنظر لباقي المحتويات ..
لم يبقى سوى زجاجة الدواء !
آبت أن تشربها ، و عوضًا على ذلك ، فكرت في حل أسرع ..
أمسكت بالزجاجة من الرأس ، و هوت بها على حافة الحوض ، لتنكسر في الحال ..
جرحت معصميها الأثنين و هي تسترجع بسرعة سنواتها الخمس معه ، و بكت ، ليس على حياتها ، إنما على خسارتها ..
فقد خسرته اليوم ، الرجل الذي أحبها و رعاها ، نعتها بأفظع الصفات ، و أوقظها على حقيقتها التي نسيتها بفضله طوال تلك السنوات ..
أخذ الدم ينزف ببطء نازلًا على راحتيها ، متسللًا من خلال أصابعها قبل أن يقطر على الأرض ..
بدأت تشعر بالبرد ، و بدأ حلقها يجف ، لكنها تابعت بعينيها تدفق النزف و هي تتساءل عن الوقت الذي يلزم لكي يفرغ جسدها من الدم ؟
و سرعان ما تثاقل جفناها و شرعا ينغلقان ، و أظلم المكان في عينيها ، و تعالى الطنين في أذنيها ..
لتحس بجسدها ينزلق شيئا فشيء ، و هي مستندة إلى الجدار بمكانها ..
شعرت ببرودة الرخام خلف ظهرها ..
ثم لم تعد تشعر بشيء !!!
 

جمرة فوق الثلوج ( مكتملة )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن