حينَ انتكَست راتوليا

22 7 32
                                    

ظلت تتأمل ظله حتى غاب عن ناظريها ، ثم لملمت أمتعتها وهمّت مغادرةً المكان وفي فؤادها همساتٌ ترجوها أن تعود وتمسك بيديه مجددًا ..

لكنها أبت الاستماع لأنين قلبها الذي ظل يكبس على جفونها طالبًا منها أن ترفع الستار عن صغيراتها النقيات، اللاتي قد يزِحنَ عنها بعضًا من الهموم المنتكسة في حنجرتها وتواسيها .

كانت تلك مرتها الاخيرة التي ترى فيها امارات وجهه وهي تتبسم نحوها، ارادت حقًا أن توقفه عن حده، لكن حدث الأمر وكأنه قد جُبر على ذلك.

عادت الى منزلها الصغير الذي بالكادِ يكفيها، مربعٌ متوازي الأضلاع مكررٌ ستّ مرّاتٍ حولها، جلست القرفصاء بداخله، ضامةً ساقيها بين يديها، ارتكزت عليهما بيأسٍ شديد، وكأنَ لا فجرَ سيحينُ بعد هذا اليوم.

كطفلٍ فقدَ والدَيهِ وظلَّ ينتظرُهما ليعودا للحياةِ ليمسكا بيديهِ ويرفعانه مجددًا ليسير على قدميه كما عهده منهما.

أخذت تخُطّ باصبعها النحيل على أطرافِ مكعّبِها وقدِ انغمست في أفكارِها متناسيةً اغلاقَ بابَ شقّتها الصغيرة الفوضوية، كيانٌ صغير يعيش وحده في دولةٍ غريبةٍ عنه، كيف ستواصل العيشَ بمكانٍ كهذا ومن كانَ يرعاها قد تركَها بحُجّة أنه لم يعُد يناسبُها كمسؤولٍ عنها، لقد هرب، كبقيةِ من تبعوه في رعايتها.

ليسَ وكأن بلوغها سنَّ الرُشدِ كانَ السبب، بل لأنها كانت تحدِثُ الكثيرَ من المشاكل كمُعتلّةٍ اجتماعية تأبى الإنصياعَ لقوانينِ هذا الكوكب.

فجأةً أحسّت بأحدِهم يدخل دارها، ارتعشت، لم تكن تلك الخطوات مألوفةً لديها، هي خافت، وتقرفصت أكثر حول نفسها، لمعَ المكعّب بالأرزق سريعًا لينزاحَ تحت تلك الطاولة التي يغطيها لحافٌ سميك، كان الخيار الوحيدَ أمامها آن ذاك، فهالةُ المقتحِمِ الذي دخلَ منزلها لم تكن تنبعث من شخصٍ عادي!.

نظّمت أنفاسها محاولة الحفاظ على أكبر قدر من الانضباط والهدوء، في حين تجول ذلك الشخص في المكان، كانت خطواته ثقيلة متزنة لا تدل على أنه شخص سكير او مختل، لكن ..هالته المظلمة التي أخذت طريقها نحو قلبها متغلغلةً من الثقوب التي وجدتها كمسلكٍ مناسب جعلتها تتألم بشدة مصدرة ضجيجًا جعله ينتبه اليها.

وماهي الا ثوانٍ معدودة حتى رُفِعَت الطاولة عاليًا مصطدمةً بالجدار القريب منهما!، رفعت وجهها بخوف وصدمةٍ مما حدثَ للتو لتتلاقى عيناها مع خاصّته، تجمدت، مخلوق غريب يقف امامها وخلفه العديد من الجنود السوداء المكونة من هالته المظلمة..

وقفَ ممتثلًا أمامها كعارض أزياء بتعابير جامدة على وجهه، زي رسميّ لا يتناسقُ مع فوضويةِ المكان الذي به، في الأصل ..أكانت لهُ تعابير وجهٍ بشرية؟، لقد كان يبدو ككرستالة ظلامية تملكت درعًا من متحفٍ ما لتمتلك هذه الهيئة البشرية.

ابتدأ كلامه بصوتٍ صارم كأنه يتّبعُ نصًا ما: - تم ايجادُ العينة المطلوبة، والتي سيتم إعادتها لمكانها المناسب.

شهقت بخوفٍ من كلماتِه، لكنها لم تستلم لكونه يحاصرها ويمتلك اليد العليا حاليًا، زفرت محاولةً التقاط بعض من اتزانها، لتقفزَ في الهواء مسددةً بقدمها نحو وجهه الا انه تفاداها بسهولة!، بدلا عن ذلك امسك بقدمها الممتدة عليه ليعيدها على الطاولة التي كادت تتحطم.

تابع كلامه فيما كان يتفحصها بعينيه وسط استغرابها: - على الرغم من مرور ألفيّ عام إلا أنك ماتزالين بنفس هيئتك، لم أصدق الأمر حين قالوا أن العينة 77 لاتزال على قيد الحياة.

"أقلت عينة ؟" نبست وقد كانت فاقدة السيطرة.

اومأ بابتسامةٍ لامباليةٍ لوضعها الحاليّ بينما يمسك بكلتا يديها مثبتًا اياها بإحكام، مدّ يده ناحيةَ قلبِها الذي امتصّ هالتهُ المظلمةَ ليتحسسه، مرر يده للجهة المقابلة للقلبٍ ليتمتم مستنتجًا بعض الامور: - على الرغم من أن هذا الجسد لم يتعرض للطاقات منذ سنين طويلة، إلا أنه لازال قيد العمل؟، أم أنه.

عاد جهةَ القلبِ ليغرِسَ يده به ملتقطًا إياه على حينِ غرةٍ من صراخها المدوي ألمًا!.

لكن، حينَ اقتربَ من اقتلاعهِ توهّجَ فجأةً وبقوة مبعدًا إياهُ عنها وكأنما قد تلقى صعقةً ما!، اخذت يده ترتجف اثرَ الكهرباءِ التي آذته بشدة، رمّقَ تلكَ الفتاةَ بارتيابٍ ليشهَدَ كيانًا ضبابيًا يحيطُ بها ويحتويها اليه بينما الأشياءُ من حولهما تطفو وتتوهج!.

اعتلته ابتسامةٌ مسلية: - توقّعتُ وجودَ وحشٍ بداخلكِ، لكن ليسَ هذا النّوعَ منَ الوحوش!.

تعالجت جهة القلب جيدًا إثر طاقةِ شريكِها الرمادية الزرقاء، نظرت الى من كانَ يحملها بين جناحيهِ لتعتريها الدهشةُ كاشفةً الستارَ عن صغيراتِ عينيها فتترقرق بعمقٍ واشتياق.

أهذا الأسيرُ التي كانت تريد ايقافه، أكانَ يسكنُ فؤادها حقًا طوالَ هذه السنين؟، مدّت يدها نحوه ليمسكها بحرصٍ إلّا أنّ قبضته لم تكُن قويّةً كالسابق.

همسَ بنبرةٍ مطمئنةٍ لها رغمَ قساوةِ معانيها: " لقد انتظرتُكِ طويلًا، منذُ أن رحلتِ آخِرَ مرّة، أوصالي لم تتحمل فراقكِ فقامت بالذبولِ والانكماش، وبقيت روحي فقط بداخلَ قلبِكِ الصغير، لكن لا داعيَ للقلقِ الآن فها أنا معكِ مجددًا (راتوليا) ".

____________
مجرد لقطة بسيطة .. من مكانٍ ما.
كُتِبت 23/11/2020.
688 كلمة.

لقطاتٌ قصِيرة ˚₊·حيث تعيش القصص. اكتشف الآن