الفصل الأول

596 17 4
                                    


في منزل عائلة الجيزاوي..
تجلس شاردة تائهة بينهم وكأن الأمر لا يعنيها رغم أنها سبب هذا الاجتماع، حاولت انتشال نفسها من أفكارها السوداوية التي تخبرها أن تقتلهم جميعًا الآن فرفعت عينيها عن الأرض التي حفظت معالمها جيدًا لتُلقي نظرة خاطفة عليه، ليلتقط عينيها بالجرم المشهود وكأنه كان ينتظرها.
انبهر بعينيها البنية الواسعة، يتمنى بداخله لو تنطق؛ فالسهرة ستنقضي ولم يسمع صوتها الذي يكاد يجزم أنه رقيق مثلها، ولكنه فقط حصل على نظرة كارهة من عينيها البريئة الساحرة، ترك عينيها قليلًا ليتأمل هيئتها الأنثوية التي لا تقل جمالًا عنها، ترتدي فستان أزرق ناعم يحتضن قوامها الرشيق برقة، تترك شعرها الأسود الليلي منسدلًا على ظهرها، على الرغم من إعجابه بهيئتها الأنثوية الناضجة إلا أنه لم ينخدع بها؛ فعينيها الشفافة أخبرته بالكثير، ولكنه قرر ترك هواجسه تلك جانبًا ويترك فلسفته الآن حتى يتعرف عليها.
رمتْ زوج والدتها بنظرة حانقة وهو يقول: رغد خدي دكتور حمزة فرجيه على الجنينة.
أومأت برأسها إيجابًا على مضض وتحركت دون أن تنطق، تحرك وراءها هو أيضا بصمت، حين وطأت قدمها خارج المنزل تنفست براحة وقد تخلصت من صوته الذي يثير اشمئزازها، نظرت خلفها وجدت "عريس الغفلة" كما أطلقت عليه واقف يرمقها بتعجبٍ لمعاملتها الجافة له، نظرته رغم تعجبها لم تُثر الخوف بداخلها، مازالت تكرهه وترفض فكرة الزواج بهذه الطريقة إلا أنها إن أُجبرت في النهاية عليه ككل شيء آخر لن يكون سيئًا؛ فعلى الأقل نظراته ليست شهوانية طماعة كمن سبقوه، انتُشِلتْ من أفكارها على صوته وهو يقول بعدما أيس من نطقها: لو مش عايزه تفرجيني على الجنينة أحنا ممكن ندخل عادي.
انتفضت لفكرة العودة لذلك البغيض فقالت بسرعة: لأ مفيش مشكلة اتفضل.
تأكدت ظنونه وصوتها لم يقل جمالًا ورعة عنها.
سألها بودٍ ليفتح أي حديث معها: اسمك أيه؟
قالت بسخرية: على أساس إنك متعرفش؟
تجاهل سخريتها وهو يقول: عارف بس حابب نتعرف من جديد.
مد يده إليها وهو يقول بابتسامة مشجعة: أنا حمزة.
نظرت إلى يده بتردد ولكن نظرة واحدة إلى عينيه التي لم تستطع تحديد لونها، ولكنه يبدو كأنه مشتق من لون الرمال وقت الغروب، حتى أن نظراته أشعرت قلبها بالدفء كملمس الرمال في ذلك الوقت، مما جعلها تمد كفها الصغير ليستقر بين كفه الكبير وهي تقول بابتسامة مترددة: أنا رغد.
ذلك التيه الذي لمسه من نظراتها وهي تتأمل عينيه مع نظرة التردد الذي تلاها شغلا ذهنه، إلا أن ملمس يدها الناعمة انتشله من أيِّ شيءٍ آخر، ولم يفق إلا على نحنحتها المُحرجة وهي تسحب يدها فتركها وهو مفتون بتورد وجنتيها، انسحبت سريعًا ولم تتركه يتأملها طويلًا متجهة إلى أرجوحة حمراء رقيقة مثلها تطل على حوض بديع من الزهور مختلفة ألوانها وأشكالها، قال وهو يجلس بجانبها: شكل الورد حلو أوي.
نظرت له بفرحة وابتسامة رائعة تزين شفتيها يراها للمرة الأولى وهي تقول له: أنا اللي زرعته.
نظر لها بإعجاب وهو يقول: وبتحبي تعملي أيه تاني؟
قالت ولمعة حزن برقت في عينيها وقد أعادت نظرها لحوض الزهور: ولا حاجة، بحب الورد بس وكل حاجة ليها علاقة بيه، عمو أحمد الجنايني وماما نجاة هما اللي حببوني فيه، وبحب أرسم.
ذكرها للرسم جعله يركز في ملامحها أكثر، حتى شعر أنها مألوفة، فتلك الملامح الرقيقة مرت على ذاكرته من قبل، حاول أن ينعش ذاكرته ولكن انتبه إلى صوتها الرقيق وقد توجهت لتحضر له زهرة وهي تقول: مفيش حاجة ممكن أهرب ليها غير الورد، بحسه شيء نقي جدًا ممكن تحكيله كل حاجة جواك وأنت مطمن.
استدارت لتعطيه الزهرة لتكتشف أنه يتأملها للمرة الثانية، فأباحت لنفسها تأمله، بداية من شعره الناعم الذي يفوق شعرها الغجري الثائر جمالًا وتزينه بعض الخصلات الفضية، سألته: هو أنت عندك كام سنة؟
سألها وهو يبتسم بغرور: تديني كام؟
ضحكت بسخرية وهي تقول: أكيد أربعين أو أكثر زي اللي قبلك!
قال بصدمة: 35.
ها قد أكتمل حلمها الطفولي، ثلاثيني وسيم بخصلات فضية رائعة، فقط لو اختلف الوقت وبقت في سذاجة طفولتها، ولو اختلفت الطريقة لكانت وقعت في غرامه في الحال، كم تتمنى لو تعود مرة أخرى لتلك السذاجة، أن تكون بريئة لا تعي من الدنيا شيء سوى غرفة ألعابها، أكان يجب أن تعرف كل ما عرفته؟ وأن تضطر لمواجهة كل تلك العثرات بمفردها؟ هل هذا فعلًا ضروري؟
قال وهو ينظر للزهرة الحمراء التي تمسكها: شكلك مش قادرة على فراق وردتك.
قدمتها له وهو تبتسم بخجل: لأ طبعا اتفضل.
قرّب الزهرة إلى أنفه ليستنشق عبيرها فاكتشف كذب الحكمة "من اعتاد أن يزرع الزهر سيبقى شيء من العطر في يده"؛ فعطرها هي بقي في الزهرة، وفي يده..
***
في منزل عائلة الشناوي..
اجتمعت العائلة كلها حول مائدة الطعام، تحدثت عبير قائلة: مش فاهمة يا إبراهيم أنت على أي أساس حددت معاهم ميعاد الفرح بعد أسبوع من غير ما تاخد رأيي؟
قال إبراهيم بهدوء: وأنا مش عارف أنتِ رافضة البنت ليه؟
قالت بعصبية: شكلها عيلة صغيرة ولمضة وهتتعب حمزة على الفاضي، ده غير إنها قليلة الذوق!
قال بمكر: صغيرة أيه بس أنتِ ماشوفتيش إمكانيتها؟ ده غير إن سامح مدكن شيء وشويات على قلبه هيبقوا ملكها بعد عمر طويل وأمها كذلك، يعني الفلوس ديه كلها هتبقى في جيبنا.
ثم قال بصرامة وهو ينظر إلى الممر المؤدي إلى غرف النوم: وبطلي كلام في الموضوع ده عشان الولد!
ثم قال وهو يبتسم بمرح: تعالى يا عريس.
رد مبتسمًا: يا بابا ده لسه أسبوع.
ثم سأله: صحيح يا بابا أنت تعرف دكتور سامح ده منين؟ أنا أول مرة أسمع عنه، وأول مرة أعرف إنك تعرفه وعلاقتك بيه قوية كمان!
قال إبراهيم بتوتر: دكتور سامح من أكبر وأفضل العملاء عندي في البنك وسمعته سبقاه يعني، هو تخصص جراحة عامة ممكن عشان كده ماتعرفهوش.
ثم قال ليغير مجرى الحديث: سيبك أنت، بعد الأكل هديك مفتاح فيلا التجمع روح شوف ناقصها أيه عشان تقعد فيها أنت وعروستك وشيل أي حاجة تانية من دماغك.
ابتسم حمزة وذكرى القادم تداعب خياله..
***
تمددت على فراشها وهي تتنهد بتعب لتمحي آثار ذلك اليوم من ذاكرتها إلا ما يتعلق به، تشعر أنه مألوف، سحر عينيه جذبها كالبحر تمامًا، ذلك الذي تسافر من أجل أن تنعم بلحظة واحدة أمامه، وسط أمواجه الثائرة التي تفوق ثورة قلبها ضجيجًا، تذهب لتستمد منه قوة الاستمرار، فتعود لتكمل حياتها بروح محاربة باسلة على أهبة الاستعداد لتواجه العفن المحيط بها، على ذكر السفر تذكرت المرة الأخيرة، فأغمضت عينيها عائدة إلى ذلك اليوم..
بدأ اليوم بصباح لم يكن الأفضل على الإطلاق، بدأ برؤية ذلك الكريه سامح، تركت فطورها والمنزل بأكمله متجهة إلى كليتها، لتقابل آخر إنسانة تود أن تقابلها اليوم، رأتها تقترب منها ولم تشأ الفرار من أمامها حتى لا تظهر لها ضعفها، وقفت أمامها وهي تحرقها بنظرات تُطلق شرارات قادرة على حرقها، قالت لها: مش قادرة استوعب فكرة إن ممكن حد يبقى بجح لدرجة إنه قتل قتيل ومشي في جنازته ومكمل حياته بكل برود شبهك كده.
قالت بلامبالاة مخفية تلك النار التي تشعل قلبها: تعرفي إن البرود ده ممكن يكون حاجة مفيدة جدًا عشان نقدر نتلاشى أمثالك.
ابتسمت بسخرية: متحاوليش تمثلي أكتر، مهما ادعيتِ مش هتقدري تنجحي قدامي، مش هتقدري تخفي إن قلبك بيموت كل لحظة من الاحساس بالذنب.
قهقهت دون أن تصل الضحكة إلى عينيها: أحب أقولك إن ذكائك خانك كعادتك مؤخرًا، لو كنتِ فاكرة إن اللي قدامك ديه رغد القديمة تبقي غلطانه.
فتحت فمها لتكمل إلا أنها قالت منهية هذا الحوار: وبعد إذنك عشان أنا مش عندي وقت أضيعه أكتر.
رحلت وتركتها تشتعل خلفها غضبًا، بينما فكت أسر دموعها أخيرًا وأعطتها حرية الانهمار أخيرًا، تلقائيًا وجدت قدمها تحملها إلى محطة القطار، لا تريد شيئًا الآن سوى أن تجلس أمام البحر تسقيه بعضًا من دموعها وهمومها، جلست على مقعدها ووضعت سماعات الأذن وهي تهرب من واقعها إليه بتلك الأغنية التي كان يعشقها، صدح صوت الشيخ إمام في قلبها قبل أذنها وهو يتغنى بكلماته التي تقتلها ببطءٍ..
"أنا أتوب عن حبك أنا؟ أنا ليّ في بُعدك هنا؟"
ليتها تستطيع، ليتها تستطيع تخطيه، تخطي كل ذكرياتهما معًا، منذ ابتعاده وهي واقفة مكانها، كلما فكرت في التقدم خطوة واحدة شعرت وكأنها تمشي على شوكٍ يدمي قدميها وقلبها، قلبها المعذب بفعل الفراق، كيف تمكن من فعل هذا؟ كيف بين ليلة وضحاها اختفى تمامًا كلمح البصر كأنه لم يكن؟ لماذا يجب أن تتألم دائمًا؟ أن تواجه ذلك الوجع وحدها؟

رواية رغد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن