ابنة الشجرة

38 17 2
                                    

-٣-

أنا عالقة في كوني ورقة شجر، حدودي هي جسدي الغض وحوافي الرفيعة، جسدي معقود إلى أخي الغصن، عالقة أنا في حدود نفسي.
لم يكن ذلك جيّدًا لي، كنت فضولية وتتقد في رغبة في معرفة أي شيء عن كل شيء، لكن معرفتي لم تتجاوز حدود أسئلتي، كنت أتذمر لأمي الشجرة بين فينة وأخرى فتحدثني بشيء من وقارها المعهود: " أنتِ هنا لأنه المكان الجدير بكِ وأنتِ جديرة به، ستمسين بلا نفع إذا قررتِ الفرار من حدودكِ، بعض الحدود وُجِدت لتحمينا، كل شيء لحكمة لا يعلمها إلّا العليم وكل مخلوق خُلق لغاية "
أهدأ وتصيبني كلماتها بشيء من السكينة، ومزيد من الفضول، تبدو لي كلغز لا يتوقف عند حدود الكلمات نفسها، أنهال عليها بالأسئلة مجددًا فتضحك وتهتز فروعها.

وأنا أنتظر نهايتي تعود بي الذاكرة إلى بدايتي، عندما أقبلت إلى الدنيا كان الصيف يرحل ويلملم أسماله رويدًا رويدًا، في نهايته ولدت بدايات لبعض الأحياء، فما إن أبصرت الدنيا حتى وجدت شيء غريبًا يجاورني،  رقيقًا ويشبه قطرة الندى، لكنها لم تكن قطرة، سألت أمي متلهفة فأخبرتني أن ذلك بُرعم.

أخبرتني أن شيئًا جميلًا سيخرج منها في الصباح، سألتها كيف تعرفين وقت خروجه، ردّت باسمة:
"الأم تعرف متى يولد في أبنائها "
ت

عجبت وتسائلت في سري، هل كانت تعرف متى سأولد؟

انتظرت حلول الصباح بفارغ الصبر وبالكاد استطعت النوم، أفقت عند البكور لأرى ما أخبرتني به أمي، أخذت أراقب البرعم عن كثب، حتى ألقت الشمس نورها علينا وراحت قطرة الندى الصغيرة تنفض عن نفسي وتتباعد بدلال، جسده الوردي يتحرك رويدًا كما لو أنها تصحو، حين أنهت تحركها البطيء صارت بخمس أطراف جميلة، تنثني حول نفسها وكأنها تعانقها أو تأسر تلك الذرات الصفراء بداخلها، تحرك أخي الغصن لحظتئذ وصبّ إهتمامه على وليدة أمي الأخيرة تمتم بحماس لم أعهده عليه:
" كم أنتِ آسرة أيتها الزهرة! "

زهرة! كم بدا لي اسمها جميل كما جمالها، وبدا أخي الغصن مأخوذًا به، لطالما بدا لي هذا الغُصين هادئ وحكيمًا كان أقرب أقراني، يشد أزْري عندما تشتد الرياح، عطوفًا ومراعيًا، لكنه منذ أن قدمت أختي الزهرة إلى الدنيا حتى صار اهتمامه منصبًا عليها،
حتى أمي الشجرة كانت تمنحها جلّ أهتمامها هي ومثيلاتها، وتطلب من دائمًا أن أدنو منها لأقِيها قسوة الرياح، كانت تردد أن لزهور لغة مميزة لا تشبه لغتنا، الناظر إليها سيردد " أنا أسيركِ " كانت تلك لغتها الفريدة التي أوجدتها في قلوب الجميع ما إن انضمت إلى الحياة.

أصابني شعور ساذج بالغيرة من تلك الزهور الرقيقة، لم أتحمل أن أفقد اهتمامهم لوجودها في المكان، كانت مزعجة وتجلب النحل إلى المكان، ظلت الزهرة أختي تحظى بعنايتهم حتى انكمش جسدها وانغلقت حول نفسها بعد ثلاثة أيام.
حينها أصاب الحزن أخى وقلّ حديثه الذي لم يكن كثيرًا من الأساس، أمي بدت هادئة ولعلها رأت الأمر مرارًا، قلت لها بعد أن ضِقت ذرعًا باكتئاب أخي:
" هذه الأزهار أنانية، تأخذ ولا تعطي! "
تجيبني أمي بهدوء كعادتها: "بعض الأمور ليست كما تبدو عليه "
تصيبني الحيرة فتكمل: " ألم تتسائلي يومًا لم عُمْر الأزهار قصير فيما حكايتكن أطول؟ "
أصمت فترد أمي على سؤالها بعد أن ترى عجزي:" لأن الأزهار تعطي وهي ميتة وأنتن لا تقدرن على العطاء إلا وأنتن على قيد الحياة، موت الأزهار في حقيقته ليس موتًا بل عطاء بطريقة أخرى، إن الأزهار تعطي أبعد مما تقدر عليه الأوراق "

أمي شجرة الخوخ كانت حكيمة، كلماتها بعثرتني وبقيت أفكر في كل حرف قالته لأيام، حتى وجدت شيئًا آخر ينمو في موضع أختي الزهرة القديم، دائري أخضر اللون، مرّت الأيام سريعًا وأنا أراقبه يكبر ويتغير لونه إلى الحمرة، حتى رأيته يومًا ذات صباح وقد زينته قطرات المطر، أحمرًا يانعًا كَبُر حجمًا، أخبرتني أني حينئذ أن هذه هي أختي الزهرة وأنها قد غدت ثمرة، بقيت مشدوهة أراقب دنو بعض البشر من أمي، صعدوا شيئًا غريبًا وأخذوا الثمر من جواري وراحوا سعداء بها.

نظرت إلى أمي فابتسمت ولم تتحدث، كل شيء كان جليًا كنور الشمس بيّنًا لا يحتاج للحديث، عَظُمت رهبتي فسبّحت خالق الأكوان.

^-^

خضراء أوْرَقتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن