مقدمة: مدمن تدليس

300 42 125
                                    

=إيطاليا، عام 1709=

في بلدة رياتشي الساحلية، يلتزم الخريف بعهده مع الحقول، فالحصاد لم يتأخر هذا العام أو يتقدم.. ورغم العاصفة الرعدية التي مرت من هنا ليلة أمس، فلم يكن من نصيبها إحراق شيء هذه المرة.

وفيما كانت أرصفة ساحة البلدة ميداناً يعترك فيه جؤار الماشية و نقنقة الدجاج حول النافورة العملاقة، كان رجل طويل مستقيم الوقفة كصندوقه الكبير المستقر أمامه، يستتر تحت مظلتين؛ مظلة متجر الثياب الرخيصة ومظلة سوداء يرفعها بمحاذاة وجهه.. و قد أخذ من الساعات وقتاً يتمعن فيه المكان بدكناويه الغامضين.

كان قد وُهِبَ وجهه الاعتدال في كل شيء، وجهٌ ثابت الملامح في اغلب الأحيان لا يفصح عما تكظمه نفسه، مما يلزم الناس الحذر كلما اضطروا لسؤاله بأن يفسح الطريق يمنة أو يسرة، فطوله شاهق يربك من يمر قربه.

"بقعة جيدة"
همس لنفسه حين لمح هناك رصيفاً منبوذاً خالياً من الرجال الزاعقين والمتسولين المتباكين، فحمل الصندوق بذراع واحدة في نشاط وثبته على كتفه كأنما هو صندوق من ورق، ثم استل من حقيبته الجلدية البسيطة المعلقة على خصره قناعاً أبيض من خشب شجرة السبروس، ولم يشرع في سيره سوى بعد ان أحكم ارتداءه.

كانت تتربص كلمات قديمة بعقله ريثما توصله خطواته العجولة الى موئله
{حولي ذوو أعين مفتوحة، لكنهم ليسوا بأحياء؛ ما عاد منهم عاقل يعي ما يرى أو سامع يصغي لِما يسمع، فلمن سأنظم بيت القصيد؟}

"أعلم أنهم كذلك يا أبي، لكن جمهوري مختلف"
أجاب هاجسه ونصب صندوقه الواسع، فأخرج منه ألواح الزان المزخرفة بالالوان، ثم أقامها فتعاضدت لتكون إطاراً كبيراً.

استخرج بعدها خرقتي المخمل الأحمر و أنبوب نحاس لتعتلي الإطار وتخلق منه منصة مسرح صغيرة، وثبت في الخلف ألواحاً من ورق سميك تقتبس رسم النهر والغابة و الجبال لتكون لمسرحه عالماً.

كان المارّة من الناس يطلعون إلى ما يفعل ذلك المقنع ويتسائلون ما نوع سلعته التي يبيع، لكنهم لم يكونوا ليكسروا حذرهم فلم يقف أي منهم عند بقعته لوقت طويل.

اشتمله الحذر وهو يمسك بشريحتي خشب متقاطعتين تتدلى منهما خيوط متينة باهتة اللون، تطرفت بها دمية من خشب.

"ها نحن ذا، سأحاول من جديد"
همهم بها، ووقف متأهباً أمام بضعة أطفال تسوّروا مسرحه الصغير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بداية الخيط كانت منذ عام واحد
= فرنسا، عام 1708 =

{حولي ذوو أعين مفتوحة، لكنهم ليسوا بأحياء؛ ما عاد منهم عاقل يعي ما يرى أو سامع يصغي لِما يسمع، فلمن سأنظم بيت القصيد؟}

مسرح أوزوالدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن