المنبوذه ٢

1K 44 0
                                    

(الفصل الثاني...)

(صباح يوم جديد)
داعبت أشعة الشمس جفني مريم وهي مستغرقة في النوم، شعرت بدفئها على وجهها، ابتسمت وهي تحاول فتح عينيها، تمنت من قلبها أن يكون هذا اليوم بداية سعادتها، ستقابل ابن عمها زياد اليوم، تحاول أن ترسم صورته في مخيلتها، ربما سينتشلها من هذه العائلة التي لا ترى منها سوى الظاهر منها وليس الباطن، ابتسمت في سعادة عندما تذكرت طفولتهما، كانت تشعر دائمًا بجواره بالأمان والحب، لقد حزنت كثيرًا عندما قرر عمها (عمر) سفر (زياد) للخارج؛ للاستكمال دراسته في مدرسة داخلية بعد وفاة أمه، لم يكن يريد (زياد) ترك يدها وهو يبكي من ألم فراقها أثناء سحبه بالقوة وإدخاله للسيارة التي انطلقت به نحو المطار للسفر, لقد كانت مريم تتذكر هذا اليوم كأنه البارحة، لم يفت يوم إلا وتذكرته فيه, قاطع حبل ذكرياتها صوت أمها:
- أنتِ يا مريم الزفت.. صحي النوم ورانا حاجات كتير, قومي جهزي معايا الأكل، والعصائر، والحلويات.. أوعي تكوني لسه ما خلصتِ تجهيزات أمبارح!
نهضت (مريم) من الفراش بحماس، لقد جاء اليوم الموعود:
- ما تقلقي يا ماما كله تمام، جهزت كل الأكل.. فاضل بس نسويه في الفرن.
ظلت (مريم) تعمل بكل طاقتها قبل مجيء (زياد) وعمها (عمر) للمنزل، مرت الساعات والدقائق حتى حان موعد حضورهما، طلبت من أمها:
- ماما لو سمحتِ ممكن أدخل أجهز نفسي، ميعاد نزولهم جه، عاوزة استقبلهم وأنا بالشكل ده.
نظرت لها سوسن بطرف عينها وهي تسخر منها:
- أدخلي يختي جهزي نفسك مع أني شايفة أنه مش هيفرق كتير.
دلفت (مريم) لغرفتها وهي تحاول إخفاء دموعها، متعجبة من معاملة أمها لها، ظلت تتساءل.. لما دائمًا تحاول أمها أن تكسرها وتقلل من شأنها؟! لم تتذكر أنها قد قامت بتشجيعها، أو إظهار حنانها وعطفها عليها حتى ولو بكلمة واحدة، ألهذه الدرجة تبغضها؟! قامت بتجهيز نفسها في غمضة عين، في هذه اللحظة سمعت صوت جرس الباب وترحيب أهلها بهما، ثم انتبهت لصوت ضحكات أختها، خرجت مسرعة لرؤية حبيب طفولتها، لكنها رأته من الخلف وهو يمزح مع ماهيتاب كأنهما أصدقاء منذ فترة طويلة، عندما استمع زياد لصوت خطوات خلفه التفت بوجهه، صدمت مريم:
- أنت زياد!
ابتسم زياد وهو يتفحصها من منبت شعرها لأسفل قدمها:
- اه أنا زياد.. مش أنتِ اللِ خبطي فيا أمبارح عند الأسانسير، هي مين دي يا عمي منصور؟
ضحك منصور:
- دي مريم بنتي.. أنت نسيتها ولا أية يا زياد.
اندهش (زياد) بشدة، بصوت متعجب:
- أنتِ مريم! مش ممكن تغيرتِ خالص، كأنك واحدة ثانية.
فهمت (مريم) من طريقته أن زياد الذي كانت بانتظاره لم يعد موجودًا، لقد أصبح مثل الجميع، لا عجب بأنه سيسخر منها مثلهم، قائلة بابتسامة ساخرة:
- شوفت الزمن بيغير، على العموم حمد لله على سلامتك.. نورت بلدك.
أرادت (مريم) العودة إلي غرفتها مرة أخرى فلا أمل لها للخروج من هذه العائلة، ما كانت بانتظاره والتي ظنته أنه فارس أحلامها الذي سينطلق بها على حصانه الأبيض أصبح وهم، لا وجود له في أرض الواقع، قام عمها (عمر) بالنداء عليه:
- ماشية على فين يا مريم يا بنتي، تعالي اقعدي جنبي.. بقالي أسبوع ما شوفتك فيهم، أية عمك عمر ما اشتاقتِ ليه؟
جلست (مريم) بجوار عمها عمر، ثم قامت باحتضانه بقوة كأنها تلتمس منه الحنان والعطف الذي حرمت منه من أقرب الناس إلى قلبها، قائلة بمرح:
- لا طبعًا وحشتني أوي يا عمورة، ده أنت الحتة الشمال يا جدع..
ضحك (عمر) مقهقهًا وهو يضمها بشدة نحو صدره، لأنه يعلم بما تشعر به، لقد حاول جاهدًا أن ينصح أخيه بأن يعدل بين الأختين في المعاملة، لكنه فقد الأمل في تغيير الوضع، لذا قرر أن يتقرب من مريم؛ حتى تجد من تلجأ له عند أي مشكلة تواجهها في الحياة:
- طول عُمرك بكاشه.. أنا من الليل شامم من عندكم أكل هيجنني، قولت ده أكيد البنت مريم، أصل أكلك لا يعلى عليه...
(سوسن) بمقاطعة لحديثهما:
- لا دي ماهيتاب هي اللِ عاملة الأكل.. قالت ابن عمى لسه جاي ولازم يدوق أكل مصري أصيل.
نظر (عمر) نحو ماهيتاب بعدم تصديق وهو يرفع أحد حاجبيه:
- مين ماهي والمطبخ؟! مش معقولة.. دي ماهيتاب تخاف على ضافرها ليتأذى.
لم تستطع مريم إمساك نفسها عن الضحك وهي ترى عمها عمر يسخر من أختها أمام الجميع، لدرجة أن أمها حدقت نحوها شرزًا؛ حتى لا تضحك، صاحت ماهيتاب نحوها في غضب:
- أنتِ بتضحكِ على أية؟!
ابتسم زياد:
- قولي ليا يا ماهي أنتِ في سنة كام؟
أجابته ماهيتاب وهي تنظر له بهيام، فلم تتخيل أن ابن عمها زياد بهذه الوسامة:
- في ثالثة كلية تجارة إنجليزي.. بس دي كلية متعبة خالص.
لاحظ زياد نظرات ماهيتاب له، لكنه لم يهتم، قائلًا بمجاملة:
- لا شيدي حيلك أنا عاوز تقدير كبير.. لازم الجمال ده يتوج بشهادة حلوه زيه.
اقتربت ماهيتاب منه وهي تحدق داخل مقلتيه، بصوت ناعم:
- شكلك بتعاكس ولا أية.. على العموم شد حيلك معايا وذاكر ليا، مش أنت كنت تجارة إنجليزي برضوا.
استند زياد بظهره للخلف وهو يتحدث بفخر:
- مش بس كدا.. أنا كمان تم تعيني دكتور عندك في الجامعة، ومش بعيد أكون دكتور عليكِ وأدرس ليكِ.
قامت ماهيتاب بالتصفيق له مشجعة:
- بجد! هايل أوي، أنا فخورة بيك.
كانت مريم تستمع إلى حديثهما بإنصات، لاحظت عدم رؤيته لها كأنها كائن شفاف تمامًا لا وجود لها أمامه، كل اهتمامه يصب نحو أختها ماهيتاب، فعيناه تلمع وتبرق أثناء حديثه مع أختها منبهرًا بجمالها الأخاذ، تأكدت من أن المظهر دائمًا يتغلب على الجوهر، لم تعد ترى أن لوجودها داعي بعدما رأت في عين أمها نظرة الانتصار، فأخيرًا وصلت لما تتمناه زوجًا لأبنتها الجميلة المحبوبة ماهيتاب، جلست مريم على أحد المقاعد في الشرفة بعيدًا عن الجميع، فجأة وجدت من يقتحم خلوتها، بصوت معاتب:
- للدرجة دي قعدتي مملة! مشيتِ ليه، وقعدة لوحدك ليه؟
أجابته مريم بصوت حزين:
- أبدًا ولا حاجة.. بس لقيت أن وجودي وسطكم مش مهم.
أردف زياد بلهفة:
- أوعي تقولي كدا! أنتِ جزء من عيلتنا ولا أية.. مريم هو أنا ممكن أسألك سؤال؟
أومأت مريم برأسها إيجابًا، مما شجع زياد قائلًا:
- أنتِ ليه بطلتِ تتواصلي معايا وأنا في أمريكا؟ بقالك سنين طويلة أخبارك بعرفها من بابا، لكن أنتِ من بعد سنة من سفري قطعتِ مرة واحدة، بطلتِ تكلميني، هو أنا زعلتك أو قولت حاجة ضايقتك مني؟
حدقت مريم نحو الفراغ، قائلة بصوت حزين:
- مش أنت بس.. أنا قطعت اتصال مع الكل.
تعجب زياد من إجابتها:
- مش هقول ليكِ أنا مش زي أي حد، بس ليه.. أية اللِ حصل لدا كله؟!
أرادت مريم إنهاء الحديث معه:
- أحب احتفظ بالسبب لنفسي.. عن أذنك.
غضب زياد عندما وجدها تريد المغادرة وإنهاء الحديث:
- اقفي عندك مش أنا بكلمك.. أزاي تسيبيني وتمشى كده.
سوسن بمقاطعة وهي تنظر تجاه مريم شرزًا:
- معلش يا زياد أصلها قليلة الذوق، سيبك منها (ماهي) بتنادي عليك روح لها.
خرج زياد من الشرفة وهو يستشيط غضبًا، أمسكت سوسن بيد مريم ضاغطة عليها بشدة، بصوت كفحيح الأفعى:
- أنتِ يا زفته.. أية اللِ مقعدك مع زياد لوحدكم في البلكونة؟ أية قلة الأدب دي.
أدمعت مريم وهي تحاول انتزاع يدها من يد أمها:
- أنا مش قليلة الأدب أنا كنت قعده لوحدي، هو اللِ جه يكلمني.. وأنا سيبته وكنت ماشيه وهو وقفني وأظن حضرتك شوفتِ بنفسك..
أزاحتها سوسن نحو خارج الشرفة:
- طيب غوري جهزي السفرة، عشان نتغدى.
قدمت مريم وأمها أطباق الطعام المملوءة بأشهى الأطعمة والتحلية، لاحظت مريم محاولات زياد لتحدث معها، لكنها كانت تصده وتبتعد عنه؛ لقد صدر فرمان من سوسن بأن زياد هو العريس المنتظر لماهيتاب، من غير اللائق أن تتقرب من زوج أختها المستقبلي، لذا وجدت أنه من الأفضل أن تبتعد، فمن غير الممكن أن ينظر لها زياد في يوم من الأيام، حان وقت مغادرة زياد وأبيه لشقتهما، مد زياد راحة يده تجاه عمه منتصر:
- والله يا عمي منتصر القعدة ما يتشبع منها معكم، وعشان كدا هتشوفني عندكم كل يوم، عشان أحس بالدفء العائلي اللِ محروم منه، الأول وفاة أمي الله يرحمها، وبعدين سفري للدراسة برا وبعدي عنكم وعن بلدي، تقدروا تقولوا عندي حرمان عاطفي.
دلفت مريم لغرفتها وهي على اقتناع تام بأن زياد يريد التقرب من أختها، فمن يستطيع مقاومة جمالها، نظر زياد لفرار مريم لغرفتها، شعر بأن وجوده قد تسبب في إزعاجها، تنهد بحزن ثم ابتسم بمجاملة لزوجة عمه وهي تقول له:
- ده أنت تشرفنا وتنورنا.

<<بعد مرور شهر>>

تجلس مريم في غرفة مديرة المدرسة وهي تبتسم بسعادة لما حققته من إنجاز يذكر في فترة قصيرة من عملها كمدرسة موسيقى، نظرت لها مديرة المدرسة بفخر:
- أنسة مريم.. أحب أقولك أن المدرسة داخله مسابقة موسيقية على مستوى الجمهورية.. أتمنى تشدي حيلك في تدريب فريق الكورال، حضرتك من ساعة ما اشتغلتِ عندنا وأنا شيفة تحسن في الفريق بشكل ملحوظ ربنا يقويكِ..
ابتسمت مريم وهي تنهض للمغادرة إلى غرفة الموسيقى:
- متشكره لحضرتك.. وأوعدك أكون عند حسن ظنك، أوعي تقلقي هنفوز بإذن الله.
كانت مريم في طريقها لحجرة الموسيقى، لكن أوقفها صوت العامل وهو يقوم بالنداء عليها ، التفتت للخلف وهي تتنهد عندما وجدت ما بيده، قال لها:
- أنسة مريم.. اتفضلِ بوكية الورد بتاع كل يوم..
تناولت مريم بوكية الورد من يده وعلى محياها علامات الاستفهام، قائلة باستغراب:
- هو مش بيزهق.. نفسي أعرف مين اللِ بعت الورد ده؟ على آخر الزمن معجب سري ليا!

المنبوذهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن