الجزء الثامن

1.7K 30 13
                                        


الفصل الثامن
تُقلب ألبوم الصور، بل هو كنز بالنسبة لها كم تحب أن تعيش خلاله ذكرياتها من جديد مع من لم يخفق قلبها لسواه، رغم مرور قرابة أربعين عامًا على لقائهما الأول، أول نظرة عين وخفقة قلب لازالت تشعر بها كأنها الآن لم يغير مرور الزمن بها شيء.
بلال العلي، حب حياتها كما أطلقت عليه دائمًا عشِقته من أول نظرة، نعم منذ أن وقعت عينيها عليه وغرق  قلبها في غرامه، قبل حتى أن يعلم هو بوجودها من الأساس، هي من بدأت في محادثته والتقرب إليه فهو من  تريد تمضية الباقي من حياتها معه.
لم تكن فريدة يومًا من النوع الخجول على عكس أختها فجر، كانت دائمًا جريئة مندفعة، هي من  سرقت حقها في الاستقلالية مبكرًا، حتى لم يعد أحد يستطيع أن يكبح جماحها، برغم ذلك لم تستغل يومًا الحرية في تخطى الحدود أبدًا.
كم أحبت الوقف معه في أروقة الكلية، أو شرب الشاي عند المقصف، علاقة بدأت زمالة لم تأخذ وقتًا  كثيرًا حتى تحولت لحب عميق.
رغم تردد بلال بالبوح بمشاعره ناحيتها، ظلت وراءه حتى فعل، ويا لها من ذكرى أكثر من رائعة، قبل التخرج بأسبوع كان ينظر إليها مطولًا دون أن ينطق بحرف.
- بلال ماذا تريد؟ نحن نجلس هنا منذ ساعة، لم تقل شيء مفيد، لم طلبت أن نلتقي؟ لا أحب أن أقابل شباب لوحدي أنت تعرف ذلك.
كاذبة هي تطير فرحًا منذ أن هاتفها، وقتها لم يكن هناك، الهاتف المحمول بل الخط الأرضي فقط، مما جعل الاتصال بينهما صعب من جهته، أما هي فلا تمانع، كثيرًا ما اتصل بِها زملائها عليه، طالما يتحدثون عن الدراسة فلا مانع لديها من ذلك، نعم حاول بعض ضعاف النفوس استغلال حريتها، والتجاوز معها إلا أنها كانت توقفهم دائمًا عند حدهم.
يكفي اسم والدها، وعائلتها لتجعلهم يفرون دون عودة، إلا هو لم يقم بمكالمتها على هاتف المنزل أو طلب لقائها خارج الكلية سابقًا كانت المرة الأولى. 
ارتدت أجمل فستان لديها وزينت وجهها بطريقة فاتنة، وصلت قبل موعدها، وها هي الآن تنظر إليه بعشق واضح، وهو لم ينطق بما أرادت سماعه.
تململت في جلستها:
- بلال يجب أن أذهب لقد تأخرت كثيرًا.
أمسك يدها كي يمنعها من الوقوف، رغم أنها لم تفعل، طالت المسكة حسنًا هذه ليست عادته، ماذا يحدث هنا؟
- أحبك وأريد أن أتزوجك، هل تقبلين؟
قالها في نفس واحد كأنه يخشى أن يفقد القدرة على ذلك دون حتى أن ينظر إليها، كان مغمض العينين.
لابد أنه تدرب على ذلك كثيرًا، هذا ما فكرت به وابتسامة سعادة ترتسم على وجهها الجميل.
- انظر إليَّ بلال.
لم يستطع، كان يخاف من نظرة الرفض في عينيها رغم أنه لمح الحب فيهما مرارًا إلا أن الزواج شيء آخر، يعرف عائلتها ويعرف أنهم لن يقبلوا به، ليس لأنه أقل منهم ماديًا بل اجتماعيًا فمكانة عائلة العلي لا ترتقي لهم، هذا ما جعله يخاف الرفض منها شخصيًا.
قرأت ذلك في عينيه بمجرد أن التقت الأعين، تعرف ذلك أيضًا، وتعرف أنه السبب في تأخر اعترافه لها، بلال ليس من الشباب العابثين إذا أحب لا يعرف إلا طريق واحد وهذا الذي تريده.
  - الجمعة بعد صلاة الظهر، أحضر والدك ووالدتك لخطبتي، تعرف العنوان طبعًا.
تركته دون حرف آخر، وماذا يفيد كثر الكلام ولقد سمع ما يريد، كان قلبه يدق كالطبول من شدة السعادة، سعادة لم تدم كثيرًا، فقد قتلها عبدالرحيم بعد أن قام بإهانتهم، شر إهانة لدرجة أن والدته ارتفع عندها الضغط، واضطروا لإدخالها للمستشفى، يا إلهي لم يكن يتوقع ذلك، رغم خوفه من الرفض، إلا أن فريدة أكدت له أنها اقنعت والدها، اعتقد أنه قد يشترط أن تقيم فريدة في العاصمة، بدلًا من المدينة الصغيرة، وهو طبعًا سيقبل أي شيء ليكون مع فريدة.
لكن ما حدث كسر والديه، وعمه، الذي أتى معه ليظهر، بمنظر أكثر رقي، عمه الذي يعمل طبيب في إحدى المستشفيات الكبرى في الخارج، بعد ذلك قرر والده وعمه أن يتزوج من ابنة عمه التي لم تتم السابعة عشر بعد، رغم اعتراضه إلا أنه رضخ في النهاية وتزوجها، لكن قلبه ظل مع فريدة، حتى فريدة تزوجت، ردًا على زواجه فقد قام والده بكل وقاحة بدعوتهم إلى حفل الزفاف الذي كان مهرجان، فقط كي يريهم إنهم الخاسرون.
حسنًا هي تعرف ذلك، لا تحتاج ليذكرها أحد بذلك، قبلت بالعريس الذي فرض عليها، بل هي من اختارته بين ثلاث مرشحين وتزوجت، وظل قلبها ينبض لبلال رغم سنوات زواجها القصيرة نسبيًا، كما رفضت الانجاب بكل الطرق لدرجة جعلتها تلجأ إلى الأعشاب التي جعلتها عاقرًا.
رغم ذلك لم تحزن أو تندم، إلا بعد طلاقها وعودة بلال للمطالبة بها من جديد، وقتها اختلفت الأحوال، بعد فضيحة فجر ونبذ معظم العائلة لهم، وافق عبدالرحيم على بلال، خصوصًا أن زوجها ابن الحسب والنسب طلقها بسبب الفضيحة.
وقتها لم يحاول بلال استغلال الوضع أبدًا، بل كان يعاملها كملكة؛ هجر زوجته وأبنائه من أجلها، رغم اعتراضها على ذلك، حثته كثيرًا على أن لا يترك زوجته بل حتى أنها طلبت منه احضارها للعيش معهم، لكنها رفضت ذلك بشدة ووافقتها والدته.
أمه التي رفضت هذا الزواج من الأساس، فتلك العائلة هي من تسببت بموت زوجها وهجرة أبنائها، بسبب بطش عبدالرحيم بهم الذي استمر كثيرًا بعد زواجه من ابنة عمه ليس لسبب، إلا لأنه اعتبر ذلك تحدي له شخصيًا، كما لم يرضيه الألم في عيني ابنته، نسى أنه السبب فيه من الأساس.
رغم محاولات فريدة وبلال إلا أن والدته لم تتقبلها  ولم تغفر له زواجها منه.
  فرح وُلدت بعد زواجها من بلال بسنتين وهو ما سبب لها الألم، فهجر بلال زوجته تمامًا، حتى أبنائه إياد وأيهم، كان يحضرهم عند فريدة كي يراهم، وليس العكس، ما عدا فرح التي كانت رضيعة، لم تأتي إليها إلا بعد أن كبرت إلا أنها كرهت ذلك، بعد موت والدتهم وجدتهم انتقل الأبناء للعيش معهم.
وقتها شعرت بأن حياتها اكتملت بوجودهم معها كأسرة كاملة، إياد كان بعيدًا عنها لكنه لم يظهر الكره مثل فرح، فهي لم تتقبلها يومًا، بل إنها حتى لم تسامح والدها على زواجه منها وجعل والدتها تموت مكسورة القلب.
رغم مرور السنوات لازالت الأوضاع بينهما كما هي، فرح ترفض فريدة وجميع محاولاتها للتقرب منها وفريدة لم تيأس يومًا من المحاولة. 
أغلقت ألبوم الصور وتنهدت في حزن، كم تشتاق إليه، آه يا بلال ليتك معي في هذه الأيام الصعبة من سيهون عليّ غيرك؟ تعرف أن القادم صعب وصعوبته أن فرح دخلت معركه مع مُنى، فهل تستطيع حمايتها كم وعدت بلال.
******
تحاول اتباع التعليمات لتقوم بـ (وضعية الجبل! الشجرة) ليست متأكدة من الاسم، استنشقت نفسًا عميقًا وتأكدت بأن وزنها موزع بالتساوي على جميع زوايا قدميها، وضعت يديها على الوركين.
ركزت وزنها كله على قدمها اليُمنى ثم رفعت قدمها اليسرى تدريجيًا عن الأرض مع ثني ركبتها  اليسرى.
ثم أدارت ركبتها اليسرى إلى الخارج، وقامت بتثبيت باطن قدمها اليسرى على الجهة الداخلية من رجلها اليُمنى أمامًا على الكاحل بصعوبة شديدة، ورفعت كلا ذراعيها فوق رأسها مع ملامسة الكفين لبعضهما في استقامة، حسنًا المفروض أن تبقى على هذه الوضعية لمدة لا تقل عن خمس دقائق.
هل يمزحون؟! لا تستطيع أن تثبت قدميها، تشعر بأنها تتأرجح في مكانها، ثواني وستقع على وجهها، عدت حتى وصلت الرقم ستين في ثانيه ثم أنزلت قدمها وذراعيها، تنفست بصوت عالي؛ فاتجهت إليها الأنظار بين الغاضبة لِأنها قطعت تأملهم، وبين المستغربة لم توقفت بسرعة.
مالت على سارة التي كانت تجلس في حركة معقدة لا تعرف اسمها، ولم تحاول أن تسأل حتى:
- سارة لقد تعبت، فلنذهب إلى مكان لنأكل شيئًا، أنا جائعة جدًا.
  فتحت سارة إحدى عينيها:
- انتظري قليلًا، لم يمر على وجودنا هنا الكثير، أعطني نصف ساعة أخرى على الأقل.
ارتفع حاجب غسق، ظلت تتطلع إليها بعد أن اغمضت عينها واستمرت في جلستها الغريبة، لا تصدق أنها مصابة بنوع نادر من السرطان، فهي تبدو في كامل صحتها، شحوب بشرتها لا يظهر تقريبًا، تنجح في إخفائه خلف المكياج المتقن، كما أن شعرها الجميل الذي ظنته شعرها اتضح أنه شعر مستعار ليس إلا،  غير ذلك هي ذات صحة جيدة، لا تعرف طريقة علاجها أو إذا كانت مستمرة  في الجرعات  الكيماوية أم لا، ولا تريد إحراجها بالسؤال، إلا أن طريقة أكلها تخبرها بأنها لا تفعل.
استقامت من جلستها، وسحبت الفراش المطاطي الذي كانت تجلس عليه، ولفته على هيئه اسطوانة، وقالت:
- هيا بنا قبل أن تأكليني، واضح أنك جائعة.
- دقيقة فقط أبدل ملابسي.
وقفت بسرعة متحمسة جدًا، مما جعل سارة تطلق ضحكة عالية لتلتفت إليها الأنظار في غضب، أمسكت يد غسق وساقتها لخارج حجرة التمارين بسرعة، يبدو أنه لم يعد مرحب بها بعد الآن، عليها أن تجد مكان آخر تتدرب فيه على اليوغا.
بعد مدة ليست طويلة جلست كلتاهما على طاولة أول مطعم قابلهما يقدم اللحوم، هذا هو طلب غسق الوحيد، الآن تأكل اللحم ليل نهار، كأنها تعوض سنوات حرمانها منه، أما سارة اكتفت بالخضار على البخار وقطعة صغيرة من اللحم.
- هل استلمتِ عملك؟ لم تخبريني ما هو اختصاصك؟
أكملت غسق مضغ قطعة اللحم الكبيرة في فمها بصعوبة ثم أجابت:
- نعم استلمته، حسنًا ليس عمل روتيني، أنا أقوم حاليًا بتصميم بعض المواقع على شبكة الانترنت، لكنه ليس اختصاصي الأساسي، لدي شهادة هندسة في الحاسب الآلي والاتصالات، كما أن لدي شهادة أخرى في التجارة الدولية، وبعض الدورات في التصميم والحماية بالإضافة لاقتحام المواقع المغلقة.
- هكر!
اتسعت عينا سارة وهي تنطق بها بصوت منخفض؛ خوفًا بأن يسمعها أحدهم فهذه جريمة فيدرالية.
- أنتِ هكر! لا أصدق ذلك، تبدين في غاية البراءة، فعلًا لا يغرك الشكل!
بتهكم واضح قالت:
- يا إلهي! حكمتي عليّ بسرعة، فعلًا ونعم الصديقة، حسنًا أبي كان مهندس تخصص في الحاسب الآلي، بعد أن انتقل مع أمي إلى هنا، ولأنه لم يكن لنا معارف أو أصدقاء نذهب إليهم، بخلاف خالي سليم وسراج الذي يأتي في زيارات متابعة لنا كنت دائمًا مع أبي في عمله، الذي افتتح بقرب بيتنا شركة، وأصبح عالم الإنترنت هو صديقي الوحيد.
أنهت ما تأكله ثم تابعت:
- تعلمت الهكر من والدي وذلك لأنه أقام عدة مواقع للأمان ضدها، فكان عليه أن يتعلمها أولًا ليعرف كيف يحمى زبائنه منها، فهمتي، لستُ مجرمة.
شعرت بالإحراج الشديد، فلثاني مرة تطلق عليها الأحكام المسبقة دون أن تسمع منها، لطالما نبهها عُمر من تسرعها في الحكم على البشر إلا أنها لا تأخذ برأيه.
- وماذا عن التجارة الدولية تبدين صغيرة نوعًا ما لنيل تلك الشهادات؟
التوى فمها على جانبه الأيسر مع ضم كلا شفتيها بطريقه توحي بالتفكير:
- لستُ صغيرة لهذه الدرجة، بضعة أشهر وأكمل السابعة والعشرين من عُمري، كما  أخبرتك أني تعلمت مبكرًا مع أبي، عندما انتقلت إلى منزل جدي كان الوضع مأساوي للغاية، كانت الطريقة الوحيدة للهروب هي الدراسة، تكرم جدي ووافق على أن أكمل دراستي في العاصمة في المدرسة الأمريكية مع فرح، ثم فزت بمنحة دراسية كنت قدمت عليها من قبل وفاة أسرتي.
سكتت بضع ثواني ثم أكملت:
- تعرفين وقتها قررت أن أذهب رغم رفض جدي وزوجة خالي، اشتريت تذكرة سفر بمساعدة فرح، يومها وجدت ساجي أمامي.
التمعت عينيها من دون إرادة منها وتابعت وهي تبتسم:
- يومها أمسك يدي لأول مرة.
لازالت تذكر الرعشة اللذيذة التي انتابتها وجعلت قلبها يدق بقوة، فاعتلت الحمرة خديها كأنها حدثت الآن، لم يخفى الأمر على سارة، إلا أنها لم تعلق:
- طلب مني العودة معه، على وعد بأن أسافر كي أكمل دراستي كما أرغب بشرط أن تكون فرح معي، ونفذ ما وعد به رغم  كل الاعتراضات، لقد خاض ساجي حربًا من أجلي.
ارتفع حاجب سارة في ذهول ممزوج بالسخرية قائلة (أي حرب وقد تزوج عليها وتركها وهي حامل!) 
إلا أن تلك الكلمات لم تخرج من فمها أبدًا.
بينما أكملت غسق:
- كم كنت سعيدة عند انتقالي مع فرح للدراسة أكثر من أي وقت مر عليّ، لذلك استغليت كل الفرص لأبقى هنا أطول فترة ممكنة فدرست التجارة الدولية، المدة لم تكون طويلة جدًا كما تعتقدين، فدراستي بالهندسة، ساعدتني لم أدرس كل المقررات على الطلبة فقط المهم، وساجي ساعدني كثيرًا فهذا هو اختصاصه.
ظلت سارة تتطلع لها في صمت ثم قالت:
- من الواضح أنكِ لازلتِ واقعة تحت تأثير سحر المحروس، وأنا التي ظنتك قد رميتِ ورقته بعد أن تزوج عليكِ بتلك الطريقة؛ لقد شاهدت صور الفرح من الواضح عليه السعادة وكأنه يتزوج للمرة الأولى.
لو تعلم أن كلمتها خناجر غرست في قلب غسق فأدمت، لما نطقتها، لكنها رأت امرأة تذوب عشقًا في رجل لا يبالي بها، وهي حتمًا لن تقف دون حِراك.
في لحظتها تحولت لمعة عينيها إلى شلالات من الحزن والألم، تعرف أن سارة محقة، ساجي لم يحبها، تصرف معها بدافع الواجب فقط، لطالما أخبرها أنها مسؤولة منه وسيقوم بحمايتها، أما حُب فهو لم ينطقها يومًا، يا إلهي قلبها يؤلمها بشده إلا أنها لن تظهر ذلك الآن.
ارتدت قناع البرود ورفعت نظرها إلى الأعلى كي لا تفضحها دمعة هاربة من مقلتيها وحاولت تغيير دفة الحديث:
- العمل معقول، إلا أن آدم وعدني بأن يجد لي شيء أفضل، قد اضطر للعمل معه، وهو ما أحاول تجنبه في الواقع.
- من هو آدم؟ ولماذا لا تريدين العمل معه؟
- قبل أن تكملي حكمك عليه هو قريبي من ناحية أبي، إلا أن القرابة بعيدة نوعًا ما، ولماذا لا أريد العمل معه؟ ببساطة لأنه يحبني!
*******
تراقبه بعيني صقر، منذ عودتهما وهو صامت، أجرى بعض الاتصالات في الخارج، لم تستطع معرفة مع من رغم محاولاتها التنصت عليه، منذ ذلك الوقت وهو يشاهد التلفاز في هدوء مستفز، لم يسألها حتى عن غسق! لم تعد تستطيع السكوت أكثر من ذلك، قد تنفجر من شدة الفضول لتعرف ما يفكر فيه.
في الوقت الذي كان هو يدعي مشاهدة برنامج تافه على شاشه التلفاز وهو في الواقع يضعها تحت ضغط؛ لتقر بكل ما لديها من معلومات، يعرفها جيدًا ويعرف أن أكثر ما تكرهه التجاهل، ها قد بدأت في تسليم رايتها وهي تحدق به منذ مدة، اقتربت منه في هدوء ثم جرت الكرسي لتجلس أمام التلفاز تحجب عنه الرؤية كي لا يرى غيرها.
في غضب مصطنع قال:
- ماذا تفعلين؟ ألم تجدي مكانًا آخر تجلسين فيه؟ أريد أن أتابع البرنامج فلقد قارب على الانتهاء، هيا غيري مكانك.
عقدت حاجبها وزمت شفتيها في غضب، هي حركتها المشهورة التي يعشقها.
- أي برنامج؟ كيف تنقذ الفأر الاسترالي من الانقراض؟
- اسمه البوسوم وليس فأر؛ ماذا تفهمين أنتِ في الحيوانات! ابقي مع مرضاكِ أفضل، جاهلة.
ارتفع حاجباها واتسعت عيناها في ذهول:
- أنا جاهلة! لا أسمح لك، اسحبها فورًا.
- وإن لم أفعل ماذا ستفعلين؟
كانت تعلو وجهه ابتسامة استمتاع بمنظرها، كم يحب أن يشاكسها، يعشق ردود أفعالها التي تظهر بوضوح على وجهها.
عقدت يديها أمام صدرها، وقفت متحفزة:
- لا أمزح سراج، اسحبها، لن أقبل أن ينعتني أحد بتلك الكلمة، خصوصًا أنت.
لم تكمل جملتها فقد وجدت نفسها ترتفع عن الأرض قليلًا، لتصرخ به:
- أنزلني حالاً.
أنزلها وهو لايزال يضمها إليه وهو يقبل أعلى رأسها:
- ما عاش من ينعتك بالجاهلة، أنا الجاهل يا فرختي.
يجب أن يفسد كل لحظة رومانسية بينهما!
- ابتعد.
دفعته بيدها إلا أنه ظل على وضعه لم يتزحزح قيد أنملة، قائلًا:
- في الواقع يعجبني مكاني، لن ابتعد.
نظرت له، وجدت نظرة عابثة في عينيه مع ابتسامة لا تقل خباثة عنها.
- هل سنبقى واقفين هكذا؟ يمكننا أن ننتقل إلى السرير إذا أرتِ!
قالها مع غمزة تعرف معناها جيدًا.
مما جعلها تشتعل غضبًا:
- منذ ساعات كنت قلقًا على غسق، تترجاني أن أخبرك مكانها لتحميها، والآن تتصرف كمراهق أحمق! ما هذا التناقض؟
ها قد وصل إلى النقطة التي يريدها، زاد من ضمها في استفزاز مع حركة يده على ظهرها صعودًا ونزولًا، واتبعها بصوت هادئ جدًا:
- لا يوجد تناقض فرختي، أنتِ أخبرتني أنها في الخارج إذن لا يوجد عليها خطر، فدعيني استمتع بمراهقتي المتأخرة، ما المانع؟!
- ألم يكفيك ما حدث بالسيارة؟
- وماذا حدث؟ لا أذكر جيدًا! هلا ذكرتني؟
- وقح.
أطلق ضحكة عالية وجعلها تتحرر منه، وضعت يديها حول خصرها في تحفز
وهي تنتظره حتى ينهي ضحكته تلك.
- سراج كف عن حماقتك تلك، ألا تريد حقًا أن تعرف شيئًا عن غسق؟ حسنًا سوف أخبرك، لقد سافرت بعد شجارها مع روبين وإهانة ساجي لها، فعندما عادت للمنزل طردتها والدتك فلم تستطع أن تبقى في البلد أكثر لتحضر الزفاف، خصوصًا أنها أخبرته بحملها ولم يصدقها.
كانت تنفث وصدرها يعلو وينخفض في قوة من شدة انفعالها، ظل سراج ينظر إليها في صمت، أخذها من يدها لتجلس على الكرسي؛ لعلها تهدأ قليلًا، انتظر عدة ثواني ثم عقب: 
- أكملي ماذا حدث بعدها؟ كيف أخذت جواز سفرها وملابسها دون أن يراها أحد؟ هل ساعدتها أنتِ؟
- كان معها يومها، لقد كانت تجهز للمصنع الجديد، ولأنها تحتاج لتوقيع الكثير من الأوراق أخذته معها، لم تكن تفكر في الهرب، إذا كان ذلك سؤالك الثاني، كما أنها ذهبت بدون ملابس فقط ما ترتديه.
بنبرة مذهولة من ما سمعه:
- جازفت بنفسها وبحملها دون تفكير، لا أصدق ما سمعت! منذ متى وهي بذلك الاستهتار؟ كيف تهرب بدل من أن تحارب من أجل زوجها وأبنائها؟
- تحارب من؟ هل تمزح؟ أي زوج؟ ذلك الذي أنكرها أمام الشركة وقال بالحرف الواحد روبين هي زوجتي المستقبلية وليس له غيرها.
اقتربت منه في تحفز ونظرت إلى عينيه مباشرة قائلة:
- تعرف لو كنت مكانها لقتلك بعد أن أقتلع عينيك، وأقطع لسانك، ومن ثم أقوم بالتمثيل بجثتك، وإذابتها حتى لا يجدوا منها ما يقومون بدفنه.
بلع ريقه في خوف حقيقي، واضح من صوتها ونظراتها أنها لا تمزح:
- فرح تعرفين أني لن أفعل ذلك صحيح؟
رمقته بنظرة قاتلة تم استقامت دون أن تتغير ملامحها وأردفت:
- وأنا لست غسق لكي أهرب بهدوء.
******
ضرب قبضة يديه على سطح المكتب بشدة:
- ماذا تعني تعمل مع آدم الديب؟ منذ متى وهما يتواصلان؟ أريد أن أعرف كل شيء.
انتفض إياد من صوته العالي:
- لا أعرف، لقد أخبرني ابن عمي، فأنت تعرف أن له أعمال مع آدم، وهو من أخبره بأن غسق موجودة هناك وتبحث عن عمل، فسألني لأنه يعرف بأنها متزوجة من قريبي، لا أعتقد أن بينهما اتصال مسبق، هو فقط يحاول مساعدتها.
- مساعدتها! هل تمزح معي؟ لا يمكن أن تكون نية آدم سليمة في مساعدة غسق، اللعنة كيف تطلب مساعدته هو دونًا عن الكل؟ وكيف سافرت دون أن أعرف؟
أخذ هاتفه، وطلب رقم المخبر الذي كلفه بجمع المعلومات عن غسق سابقًا، ما أن أجابه حتى صرخ فيه بشدة:
- كيف لم تخبرني أنها سافرت؟ هل فقدت تركيزك؟ أم أنك أصبحت أحمق؟
- ماذا تعني أن اسمها ليس من ضمن الموجودين في قائمة المسافرين يا غبي؟ لقد سافرت أنا متأكد، انسى أن أتعامل معك بعد الآن.
أغلق الخط ورمى هاتفه في غضب.
- اهدأ حتى تستطيع التركيز، من الطبيعي أنه لم يجد اسمها، هل نسيت أنها تحمل جواز سفر أجنبي.
التفت له ساجي كأنه يراه لأول مرة وعقد حاجبيه قائلًا:
- كيف نسيت ذلك؟
أمسك هاتفه وطلب نفس الرقم مرة أخرى، عندما أجابه الرجل وقبل حتى أن ينطق بحرف قال ساجي في صيغه أمر:
- اسمع هي لديها جواز سفر أجنبي سوف أبعث إليك بصورة منه لتعرف متى سافرت بالضبط؟ أريد المعلومات عندي اليوم.
أغلق الخط دون أن يسمع إجابته، خلل شعره بأصابعه، لا يصدق أنها تصرفت بتلك الطريقة، والأسوأ إنها لجأت لآدم، تعرف أنه يكرهه، كم حذرها من التواصل معه، هل كانت على صله به من قبل أن تسافر؟ لا ليست غسق، لقد وضعها في امتحانات كثيرة منذ أن خطت قدميها بيت المزرعة وبدأت الحرب من قِبل والدته وجده من جهة، ووالده وسراج من جهة أخرى، هو كان على الحياد يسمع من والدته أسوأ كلام عنها وكيف أنها ستقوم بفضحه مثلما فعلت أمها.
- ابنة فجر التي تربت في الخارج ماذا ستكون غير فاجرة؟
وهذا ما جعله يضعها تحت المنظار، لم يجد منها ما يبذر الشك في قلبه، حتى صداقتها مع سراج تأكد من براءتها، لم تتصرف أي تصرف يثير شكه، إلا علاقتها بآدم، لم يتقبلها يومها منذ أن رأى في عينه نظرة لا تخفي على رجل! نظرة عاشق متيم.
قطع تفكيره صوت رنين الهاتف فأجاب دون أن يرى الرقم الذي يطلبه، ليسمع صوت روبي الباكي وهي تخبره بأن حالة والدها ساءت وقد توقف قلبه.

غسق الماضيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن